أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وتفكروا وتأملوا في أحوالكم، فالتفكر يزيد الإيمان، ويجعل العبد يذعن للواحد الديّان.
عباد الله، اعلموا أن في خلق الأرض ومن عليها لعبراً، وفي خلق السماء وما فيها لمدّكراً، وأن من وراء تصريف الأحوال لخبراً، ولقد دعانا ربّنا لذلك فقال: أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى ٱلسَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـٰهَا وَزَيَّنَّـٰهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَـٰهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوٰسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ [ق:8].
معشر المصلين، إن المتأمل في هذا الكون ليزداد إيمانه ويصح يقينه ويقبل على ربه ويتوب من ذنبه: إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لاَيَـٰتٍ لاِوْلِى ٱلاْلْبَـٰبِ ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً سُبْحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190، 191].
أيها الأخوة، إن تقلّب الزمان وتصرفَ الأحوال من حر إلى قَر ومن صيف إلى شتاء، إنما هو بحكمته وتصريفه، فهو سبحانه أعلم بما يُصلِح عباده وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة:216]، فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19].
إن المؤمن ليتميز عن غيره بحسن صبره عند الضراء، وبجميل شكره عند السراء، وإن ما نجدُه ونحسه من شدة البرودة إنما هو نفس من الزمهرير، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فهو أشدّ ما تجدون من الحر وأشدّ ما تجدون من الزمهرير)) أخرجه الإمام البخاري ومسلم.
ما أوقع ذلك في نفوس المتقين! وما أشد تأثيره على قلوب المخبتين! يحسون بذلك فيتذكرون الزمهرير، فيزيدهم ذلك إيماناً وتوبة وإقبالاً على رب العالمين.
وهكذا حال المؤمنين الصادقين كلّ ما حولهم يذكرهم فيتذكرون وبدقيق صنعة الله يتفكرون ثم لربهم يشكرون، ولذنوبهم يستغفرون، وعلى تقصيرهم يحزنون.
فما أحرانا معاشر المؤمنين أن نعتبر ونتعظ! فمهما تكن شدة الحر فليست أشد من الحميم، ومهام تكن شدة البرد فلن تصير أشد من الزمهرير قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81].
وقانا الله وإياكم الجحيم والزمهرير.
عباد الله، إن مصالح العباد وحياتهم لا تصلح إلا بتعاقب الحالين، فالله حكيم عليم، لم يوجد شيئاً عبثاً ولم يخلق شيئاً محضاً، والشتاء ـ يا عباد الله ـ ظرف يمكن تسخيره لطاعة الله، بل إن الواجب يحتم ذلك، جاء في مسند الإمام أحمد مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الشتاء ربيع المؤمن، طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه)).
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (مرحباً بالشتاء، منه تنزل الرحمة، أما ليله فطويل للقائم، وأما نهاره فقصير للصائم).
وهاتان نعمتان فرط فيهما كثير منّا وهما يتيسران في الشتاء، ليحاسب كل واحد منا نفسه ـ يا عباد الله ـ كم ليلةً قامها وكم يوماً صامه؟ ألا ما أعظم تقصيرنا! لقد كان سلف هذه الأمة رحمهم الله قليلاًُ من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، فقوى إيمانهم وصدقه يقينهم، فاجتهدوا وكسلنا، وقاموا ونمنا، قدوتهم في ذلك الرسول الأعظم والنبي الأكرم عليه من ربه الصلاة والسلام الذي كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه، وكان عمله دِيْمَةً على الدوام.
سئل أحد السلف ما بالنا لا نقوم الليل؟ قال: (كبلتكم معاصيكم).
إننا والله الذي لا إله غيره لم نحرم صلاة الليل إلا بذنوبنا وإسرافنا على أنفسنا، ذلك الثلث الأخير الذي تتنزل فيه الرحمات، وتقسم فيه الهبات من لدن رب الأرض والسموات باسطاً يده سحاء، يغفر ذنوب المذنبين، ويكشف الضر عن الملهوفين، وينفس كرب المكروبين، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، كرم وتفضل منه نحن عنه معروضون، وبلذيذ المنام نحن مشتغلون.
لو دعي أحدنا في كل ليلة في الثلث الأخير ليعطى مالاً لما تأخر أبداً، فما بالنا نتخلف عن أمر هو خير من الذهب والورق، لقد صدق فينا قول الله تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ [الأعلى:16، 17].
هل غفلنا عن ساعة الاحتضار وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19].
هل غفلنا عن تخطف الناس من حولنا، كل يوم نودع حبيباً أو قريباً نضعه في صدع من الأرض؟
هل غفلنا عن نفخة الصور وبعثرة القبور يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَـٰرَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2].
لنتذكر ذلك اليوم يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـٰحِبَتِهُ وَبَنِيهِ [عبس:34-36].
وقانا الله وإياكم طريق الكفرة الفجرة وسلك بنا طريق مَنْ وجوههم مسفرة.
أما الغنيمة الثانية في الشتاء فهي الصوم، فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض)) رواه الترمذي وإسناده حسن.
وجاء في حديث عقبة بن عامر: ((من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بينه وبين جهنم مسيرة مائة عام)) أخرجه النسائي وإسناده صحيح.
وعن عامر بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء)) أخرجه الترمذي وهو مرسل.
عباد الله، إن الاقتصار على صيام الواجب مظنّة للتقصير، وأما مسارعة العبد إلى صيام النوافل فهو مرقع لما نقص، مقرب من رحمة الله، مقيد للنفس عن جماحها وشهواتها الباطلة، وهو معين على أداء الفرض على الوجه الأتم والسبيل الأكمل.
ولا يكون هذا الصيام مستحباً إلا إذا وافق السنّة وفارق البدعة، فإننا نسمع هذه الأيام من يصوم أيام رجب ويعظم بعض لياليه، وهذه بدع عمياء، فشهر رجب أحد الأشهر الحرم لا مزية له غير ذلك، وعامة الأحاديث المأثورة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب، إلا ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل شهر رجب قال: ((اللهم بارك لنا في شهري رجب وشعبان وبلغنا رمضان)) فإنه ضعيف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قد أحدث الناس في هذا الشهر عبادات لم يشرعها الله ولا رسوله، من ذلك تعظيم أول خميس منه وليلة أول جمعة منه، فإن تعظيم هذا اليوم وتلك الليلة من رجب إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة، والحديث المروي في ذلك كذب باتفاق العلماء، ولا يجوز تعظيم هذا اليوم لأنه مثل غيره من الأيام".
وقال ابن رجب: "لم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل ولا تصح، وهي بدعة عند الجمهور".
وقال: "وأما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، ولا فضل للعمرة في رجب عن غيره، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب أصلاً".
عباد الله، لقد كنا في عافية من كثير مما وقع فيه الناس من البدع، ولكن لما كثرت وسائل النقل وعظم البلاء في وجود البث المباشر واستُقدم كثير من العمالة والخدمة، فأصبحوا يمارسون بدعهم عندنا، طفق العوام منّا يقلدونهم ويثنون عليهم بذلك، ومن المعلوم أن من عمل عملاً ليس عليه أمر الشريعة فهو عليه رد.
عباد الله، إن في السنة غُنْيَةً عن البدعة، ولكن الشيطان يفرح بانتشار البدع، فيغري الناس بها ويزين لهم سُوء عملهم، فليعلم أنه ما أُحييت بدعة إلا وأميتت سنة، فلينتبه لذلك غاية الانتباه، فصيام يوم الاثنين والخميس وأيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر سنة لاشك فيها، وصيام شهر شعبان إلا قليلاً سنة ثابتة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وثبت أن أعمال العبد ترفع فيه كما هو عند النسائي، فيحسن أن ترفع أعماله وهو صائم.
عباد الله، إن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وأبواب الخير كثيرة مشرعة لاسيما في هذا الموسم ـ أعني الشتاء ـ، فمن الناس من لا يملك ما يدفع عن نفسه ضرر هذا البرد فها قد سنحت الفرصة لأهل الثراء والأغنياء ومحبي الخير أن يتفقدوا جيرانهم والمحاويج من أقاربهم، يتفقدونهم بالملابس والأغطية والمدافئ التي هي من نعم الله علينا في هذا العصر.
وبعض من تفضل الله عليهم بالنعم يظن أن الناس كذلك، ويعلم الله أن هناك ـ وفي هذه المدينة بالذات ـ من لا يملكون الضروريات فضلاً عن الكماليات.
ويا لها من لمسات حانية من بعض المحسنين أن يرسل إلى مدرسة من المدارس في هذه المدينة فيقول: ارفعوا إليّ أسماء الطلبة الفقراء، يريد أن يتبرع لكل واحد منهم بثوب وأحذية وغيرها من الملابس الشتوية، لقد أثلج صدورنا وجعلنا نلهج بالثناء والدعاء، ولن تعدم الأمة أمثال هؤلاء، فإنني على يقين أن هناك الكثير ممن يسمعون كلامي الآن يتشوقون إلى مثل هذه الأعمال، ولكنهم لا يجدون من يعينهم على إيصال هذه النفقات، فلنتعاون جميعاً على ذلك، ولنرشد الأثرياء إلى الفقراء، ولنرفع حاجة من لا يستطيع رفعها، فإن هناك من لا يسأل الناس إلحافاً وهم معروفون بسيماهم لا يخفون على من يريد البذل والإحسان.
فلنتق الله جميعاً في إخواننا ولنتق الزمهرير ولو بشق تمرة وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَـٰهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ وَلَقَّـٰهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً [الإنسان:8-13].
عباد الله، إن نعم الإله علينا كثيرة لا يتم شكرها إلا بالقول المدعم بالفعل: ٱعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ [سبأ:13]، لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين الباذلين للمعروف الآمرين به الداعين إليه، اللهم ارزقنا فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|