أما بعد:
فمن حكمة الله سبحانه أن خلق الإنسان فسواه، وجعله يمر بمراحل تتفاوت فيها قدراته وإمكاناته، ولكل مرحلة من عمره خصائصها وميزاتها التي تميزها عن غيرها من المراحل، يقول سبحانه مذكراً بهذه المراحل: يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـٰكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى ٱلاْرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً [الحج:5].
ويقول سبحانه: هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَـبْلُغُواْ أَشُدَّكُـمْ ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر:67]. ويقول سبحانه: ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ [الروم:54].
وفي كل طور من هذه الأطوار التي يمر بها الإنسان سخر الله له من يكلؤه ويعتني به بدافع الفطرة والرحمة صغيراً، وبدافع المودة والاحتساب كبيراً. فمنذ وضعته أمه وهي تحوطه برعايتها وتغدق عليه من حنانها، بذلت مهجتها، وفرغت وقتها، واستعذبت انشغالها بوليدها، وأبوه قد شمر عن ساعد الجد في تأمين معيشة أسرته التي يعولها، قد وفر الغذاء البدني والروحي لوليده، وجعله يشعر بالأمان والاستقرار النفسي، إلى أن شب وليدهما عن الطوق واعتمد على نفسه في شئون حياته، واستغنى عن غيره وبدأ يشق طريق عشه، وينشئ له عشاً، فكون له أسرة صغيرة يحوطها ويرعاها ويؤمن لها العيش الكريم.
أما الوالدان فبعد أن أديا واجبهما وأنفقا زهرة عمرهما في رعاية أولادهما، إذا بالسنوات تزدلف بهما وتمضي تباعاً على عجل فيعلو الشيب مفارقهما، ويدب الضعف إلى بدنيهما وقد كبرت ذريتهما، فاستقل كل ابن وبنت بحياته الخاصة مع شريك حياته، فتلفت الوالد ينظر من حوله، فلا يرى عنده إلا زوجه العجوز التي لا تكاد تخدم نفسها، فضلاً عن القيام بشئون زوجها الذي أنهكت قواه وضعفت حركته وعجز عن خدمة نفسه في كثير من حاجاته، وأصبح في حال يحتاج فيها إلى من حوله ولا سيما أبناؤه وبناته ليردوا إليه الجميل أو بعضه مما بذله في سبيلهم، وليتقربوا إلى الله تعالى بخدمة والديهم اللذين طالما تعبا ليستريحوا، واهتما واغتما لينعموا، وبذلا الكثير لينعموا بالعيشة الهنية، فما موقف الأولاد من بنين وبنات من والديهم وهما في هذه الحال؟
لقد انقسم الأولاد إلى قسمين حيال هذه القضية، وبينهما قسم ثالث يتجاذبه الطرفان . أما القسم الأول من الأولاد فهو من هش لوالديه وبش، وسارع إلى خدمتهما بما يستطيع، مفرغاً وقته وجهده لوالديه، مستشعراً التقرب إلى الله تعالى في خدمتهما، وهو يعلم أن الله تعالى خاطبه وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَـٰنَ بِوٰلِدَيْهِ إِحْسَـٰناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15]. ويدرك أن نبيه صلى الله عليه وسلم أوصى بذي الشيبة المسلم خيراً ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم)) فما بالك إذا كان ذو الشيبة أحد والديه، إنه يتلمس حاجة والده ،أو والدته، ويبدأه بالسؤال عما يريد ويشتهي، ولا يتبرم من أي جواب يصدر عن أحدهما حتى وإن كان قاسياً في بعض الأحيان، فبعض كبار السن أو غالبهم ربما أغلظ في الجواب حيناً، وربما سارع بالتذمر والشكوى، ولكن مدى الشكوى قريب، ولعلها رد فعل مباشر للمعاناة من الهجران أو القطيعة.
وقسم آخر من الأولاد ضرب بالواجب عرض الحائط، فلم يبال بأمر والديه وقد كبرا في السن وضعفت قواهما، وأصبحا مخدومين بعد أن كانا هما الخادمين، فهو لا يزورهما إلا لماماً، وعند الجلوس معهما يشعر بالضيق وكأنه في سجن ينتظر أن يفرج عنه لينعم بالخروج من هذا الهم الذي ركبه، ليأنس مع زوجه وصديقه، إنه لم يجعل لوالديه إلا الفضول من وقته ،و في الأوقات الضيقة التي سرعان ما تنتهي بحضور وقت صلاة أو وجبة ونحو ذلك، إن طلبا منه شيئاً تثاقل، وإن اشتكيا إليه أمراً تمهل، يبحث عن المعاذير التي تحول دون تلبية رغبتهما، يستكثر ما يبذله لهما من وقت أو مال، يرى أن خدمة زوجه وبنيه في الدرجة الأولى، وللوالدين ما يفضل من الاهتمام والوقت.
وبعض الأبناء هداهم الله يستخف بكبير السن ويعتقد أن دوره في الحياة قد انتهى، ويرى أنه لا فائدة في إشراك والده الشيخ في اتخاذ رأي أو طلب مشورة لأنه لم يعد له الدور السابق مما يسبب له الإحباط نفسياً ويجعل كبير السن عرضة للإصابة بضيق الصدر والشعور بالعقوق، بل ويعرضه للأمراض النفسية والعضوية، وحجة من يفعل هذا الصنيع أن التعامل مع كبار السن صعب، وأنهم يحتاجون إلى زمن طويل للتفاهم معهم، ولذا آثروا البعد عن النقاش معهم، بل تجد البعض من الأفراد إذا جلسوا في مجلس لتبادل الأحاديث، وكان معهم كبير سن خفتوا من أصواتهم لئلا يسألهم عن هذا الموضوع أو ذاك فيشغلوا أنفسهم بالجواب الذي يحتاج إلى تكرار ليفهم المراد. فلله كم دمعة ذرفها والد أو والدة على ما يلاقيان من الجحود والاستكبار من أولادهما، كم زفرة حرى انطلقت من أب مكلوم، أو أم رؤوم، يشتكيان الهجر والقطيعة ومن أقرب الناس إليهما، ويا لله كم من أب وأم تمنى أن لم يرزق بأولاد شقي معهم أول عمره، وها هو يشقى بهم في آخره، كم حسرة دفنت مع والد في قبره، وكم غصة ضاق بها جوف أم لم تحتمل ما ترى، كم من والد تمثل مع الشاعر قائلاً:
غذوتك مولـوداً وعلتك يافعـاً تعل بما أجنـي عليـك وتنهل
إذا ليلة ضـافتك بالسقم لم أبت لسـقمك إلا سـاهـراً أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقـت مؤجل
فلما بلغت السـن والغاية التي إليهـا مدى ما فيك كنت أؤمل
جعلت جزائي غلظـة وفظاظة كأنـك أنت المنعـم المتفضل
فليتك إذ لم تـرع حق أبوتـي فعلت كما الجار المجاور يفعل
تـراه معـداً للخـلاف كأنـه بـرد على أهل الصواب موكل
اللهم إنا نعوذ بك يا رحمن يا رحيم أن نعق والدينا أو أن نُعق كباراً، اللهم ارزقنا بر آبائنا وأمهاتنا، واجمعنا وإياهم في جناتك جنات النعيم إنك على كل شيء قدير.
|