.

اليوم م الموافق ‏19/‏رمضان/‏1445هـ

 
 

 

ورحل ابن عثيمين

2105

العلم والدعوة والجهاد

العلم الشرعي

محمد بن عبد الرحمن العريفي

الرياض

جامع البواردي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- أهمية العلم وفضل العلماء. 2- ترجمة للشيخ ابن عثيمين. 3- وصف مرض الشيخ وحرصه على الخير فيه ثم وفاته ودفنه. 4- مصيبة فقد العلماء. 5- واجب العلماء على الأمة.

الخطبة الأولى

وبعد:

أيها الأحبة الكرام: إن العلم هو حياة القلوب من الجهل .. ومصباح الأبصار من الظلم .. يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة .. وأئمة تقتص آثارهم .. ويقتدي بأفعالهم .. وقد أثنى على أهله فقال: شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَائِمَاً بِٱلْقِسْطِ [آل عمران:18]. وقال سبحانه: يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَـٰتٍ [المجادلة:11]. فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه  وثنى بالملائكة، وثلث بأهل العلم .. وناهيك بهذا شرفاً وفضلاً .. وقال : ((العلماء ورثة الأنبياء)).

ومعلوم أنه لا رتبة ولا شرف فوق النبوة فهنيئاً لمن كان  وارثاً لها.

ولفضل العلم فضل الله سبحانه العلماء قال : ((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلمي الناس الخير)) .. لأن العلماء يأمرون الناس بالإحسان إلى المخلوقات كلها، فلذلك تستغفر لهم.

وأيضاً فإن العلم إذا ظهر في الأرض وعمل به درت البركات، ونزلت الأرزاق فيعيش أهل الأرض كلهم حتى النملة وغيرها من الحيوانات ببركة أهل العلم..

وموت العلماء رزية عظيمة .. ومصيبة جسيمة.

فحسبك مثلهم يبكى عليهم         وباقي الناس تخفيف ورحمة

إذا ما مات ذو علم وفضل         فقـد ثلمت من الإسلام ثلمة

ولقد عظمت المصيبة بفقد الكوكب المنير .. والمصباح الكبير .. الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين .. الذي ولد في عنيزة عام 1347هـ، طلب العلم على يد الشيخ عبد الرحمن بن سعدي والشيخ ابن باز وغيرهما .. وجلس للتدريس في الجامع الكبير وعمره أربع وعشرون سنة .. ولما توفي الشيخ ابن سعدي رحمه الله تولى إمامة الجامع الكبير بعنيزة، ودرّس في كلية الشريعة، بالإضافة إلى عضوية هيئة كبار العلماء بالمملكة، وعرض عليه تولي القضاء، بل أصدر الشيخ محمد بن إبراهيم قراراً بتعيينه رئيسا لمحكمة الأحساء، فطلب منه الإعفاء، وبعد مراجعات أعفي من منصب القضاء . كان حياته لغيره لا لنفسه .. يلقي دروسه اليومية فيحضرها المئات من شتى البقاع .. هذا يسأل وهذا يراجع وثالث يوثق. ودرّس في الجامعة .. وشارك في المحاضرات العامة .. وكان يستقبل الكبار والصغار من مشايخ وطلبة يفدون إلى المدينة .. غير ضجر ولا متململ، يقابلك بابتسامة عريضة ووجه بشوش، مما جعله محبوباً لدى الصغير والكبير. وجعل له يوماً في الأسبوع يفتح بابه لمقابلة العامة وقضاء حوائجهم .. وكان يستغل مواسم الحج والعمرة والإجازات لإلقاء الدروس في المسجد الحرام .. وكان بعض الطلاب يسجل دروس الشيخ في أشرطة ثم ينسخها في أوراق ويعرضها على الشيخ ثم تطبع في كتب ليعمَّ نفعها .. حتى بلغت مؤلفاته أكثر من أربعين مؤلفاً ما بين كتاب في مجلدات .. ومؤلف صغير .. بالإضافة إلى عشرات المجلدات من الفتاوى التي أخذت عنه وعشرات الكتب العلمية المشروحة صوتياً، وآلاف الدروس الصوتية والمحاضرات. ولم يزل هذا دأبه رحمه الله حتى توفاه الله عن عمر يناهز الأربع والسبعين سنة قضاها في العلم والتعليم، والدعوة إلى الله .

لعمري وإن كانت حيـاةً طويلةً         فكلٌّ له في صولة الدهر مصرعُ

أأبكيك شيخَ الزهد والعلم والتقى         وقـد حُقَّ أن أبكي فؤاداً يُصدّع

ذهبت إلى عـزٍّ ومجدٍ ورفعـةٍ         فَجُزْتَ وما زلنا نصال ونُصْرعُ

لئن غبت جثماناً فوالله لـم تغب         وذكـرك بين الناس أبقى وأرفعُ

تراثك موصولٌ، وعلمك خـالدٌ         وخيـرك للغادي مصيفٌ ومربعُ

وكان الشيخ في آخر شهور حياته يعاني من مرض السرطان الذي ألزمه الفراش، وبسببه رَحَل، بدأ العلاج .. وتتابعت الأيام ثم الشهور عليه .. ولما دخل شهر رمضان طلب الذاهب إلى مكة .. وأصرَّ على ذلك .. وانتقل إلى مكة .. في غرفة في الحرم .. فهل استسلم فيها للنوم .. وطالب بمضاعفة المسكنات والمنومات .. كلا بل طلب أن يوصل مكبر الصوت من غرفته إلى سطح المسجد الحرام .. وتوضع السماعات في المكان الذي اعتاد أن يدرس فيه فيما مضى من سنوات .. وكلَّ ليلة كان يقرب لاقط الصوت إلى فمه الطاهر .. فيلقي الدرس في أحكام الصيام والقيام .. ويجيب عن أسئلة المستفتين .. وكان الناس يتدافعون إلى مصدر الصوت .. كما كانوا يفعلون في سنوات مضت .. لكنهم كانوا يتحلقون حول كرسي فارغ .. يلقي الدرس وهو مضطجع على السرير الأبيض .. والمغذي موصول بيده النحيلة .. والأجهزة تحيط به من كل جانب . والأطباء ينصحونه بالراحة والنوم .. لكنه يعلم أنه ما خلق لينام .. بل كان يعارض ذلك كله ويتحامل على البدن .. ويستجمع القوى .. ويعلم الناس الدين .. نعم كان الصوت ضعيفاً .. واللسان ثقيلاً .. والجسد منهكاً .. لكن الكلام كان مفيداً .. والعلم كان سديداً .. والثواب كان مديداً .. والهمة عالية .. والفردوس دانية .. والملائكة تسمع .. والأعمال الصالحة تشفع.

وإذا كانت النفوس كباراً           تعبت في مرادها الأجسام

ومضى الشيخ على هذا الحال .. حتى إذا انتهى رمضان .. تضاعف المرض عليه .. فحمل إلى المستشفى .. وأمضى فيه أياماً. ثم عظمت مصيبة الإسلام وأهله .. وكان رحمه الله في ساعاته الأخيرة ملازماً ذكر الله وقراءة القرآن حتى دخل في غيبوبة عند الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر، وتوقف قلبه ونفَسَه في الساعة السادسة إلا عشر دقائق قبل المغرب.

ورحل رحمه الله .. وقد ملأ الدنيا علماً، فلا يكاد يوجد كتاب مهم لطلبة العلم إلا وقد شرحه، وكان رحمه الله زاهداً في الدنيا كما يظهر من حاله ولباسه حريصاً على نفع الخلق مشتغلاً بتدريسهم حتى في فترة مرضه بل كان يكره إعطاءه المسكّنات لئلا تُشغله عن درسه وعن قيام الليل، وكان يكره دخول الكفار عليه .. فهل مات الشيخ ابن عثيمين .. ليس مثله – واللهِ- يموت .. إنما الميت ميت الأحياء.

مـا مـات من زانت بسـاتين فكـره         وفتواه في العلياء كالشمس تسطع

وقفت بشهر الصوم طوداً على الضنى            تبشُّ . . فلا تشكـو ولا تتوجـع

بـلاءٌ لو استعلى علـى رأس شـاهقٍ           لخرَّ من البلوى طريحـا يُصـدّعُ

بُليت وفـي البلـوى طهـورٌ ورفعـةٌ                وفي غمرة السكرات تفتـي وتنفعُ

ومن حـولك الأجيـال من كـل بقعةٍ              وأرواحهـم تشتاقُ والدهر يسـمعُ

فأنسـاهمُ خوفـاً عليـك من الـردى            فوائـدُ حبـرٍ عـن قريبٍ تُشـيّعُ

فواللـه لا تنفـكُ تغلـيـك أمتــي                ويأسـى على ذكـراك قلبٌ ومدمعُ

فتـاواك أنـوارٌ.. وصـوتك رحمـةٌ                 ونصحك مثل الغيث، و"الشرحُ ممتعُ"

وجـاورت قبـر البـاز حُبّاً وصحبةً            عسى أن يكن في جنّة الخلد مجمـعُ

تُخَلـّدُ أعمـال الدعـاة وتـزدهـي            وفـاءً، إذا مـا زال كسـرى وتُبّعُ

وصلي على الشيخ في الحرم .. فآه لو رأيت تلك الجموع التي توافدت لتحضر الصلاة والدفن عليه وجوه واجمة .. وقلوب حزينة .. غص الحرم بهم .. الأعناق تشرئب لتنظر إلى ذلك المسجى . وما إن انتهت صلاة العصر .. ونادى المنادى: الصلاة على الأموات يرحمكم الله .. حتى تفطرت القلوب .. وبكت العيون .. وبعد الصلاة .. تسابقت الجموع لحمله .. جموع تتبع .. وجموع منتظرة في المقبرة .. وجموع تلحق لتدرك .. لفيف عظيم من كل المستويات علماء .. وأمراء .. وطلبة علم .. وعوام .. هذا والله الـمُلك.

وأخرجت الجنازة من الحرم .. فاكتظت الشوارع بهم مرة أخرى عند مغادرتهم للمكان.! أترى أن هؤلاء حضروا خوفاً أو رغبة في مال؟! أترى أن هؤلاء كانوا يطلبون دنيا أو يتقربون إلى سلطان؟! ما الذي حشدهم؟! ما الذي أخرجهم؟! إنه وفاة عالم .. لم يكن ملكاً ولا وزيراً .. ولا تاجراً ولا أميراً .. لا يملك جيشاً ولا سلطة ... ليس بساحر ولا بممثل، ولا بلاعب رياضة... لم ينشأ في القصور ... بل رجل نشأ في مدينة تكتنفها الرمال ... تسمى (عنيزة).

نشأ محمد ونشأ الآخرون، واختلفت الهمم... نشأ محمد على طلب العلم ونشأ الآخرون على اختلاف طبائعهم.. ولكل وجهة هو موليها .. وطلب محمد العلم لله وطلبه آخرون لأغراض شتى ... ألا ترى العلم والوقار؟! ألا ترى الشموخ والهيبة؟! ورفع الله قدر الشيخ محمد، فكان كما قيل:

كانوا أجل من الملوك جلالة         وأعز سلطاناً وأفخم مظهرا

ولقي الشيخ محمد ربه بما قدم، وسنلقى ربنا بما قدمنا . فهل ترى وجه مقارنة؟! رحمك الله يا شيخ .. فأنت بحق بقية السلف .. على مثلك فلتبك البواكي .. على مثلك فليبك الجامع الكبير في عنيزة .. على مثلك فلينح المحراب الذي صليت فيه .. على مثلك فلتتصدع السارية التي تجلس عندها .. فهنيئاً لذلك الجثمان الطاهر الذي عاش لأجل غيره فعاش كبيراً ومات كبيراً .. اختفى عن الأبصار .. لكنه لم يختف عن الأنظار .. بقيت كلماته في الآذان .. وعلمه راسخ البنيان .. وما مات من كان ذلك شأنه .. شهد له البشر بالخير والعلم .. والفضل والبذل .. وعلى أمثالنا فلتبك البواكي ..، إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا عليك يا ابن العثيمين لمحزونون..، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرا منها .. اللهم اغفر له وارحمه، اللهم ارفع درجته في عليين، اللهم اجمعنا به في مستقر رحمتك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.


 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه، وعظيم امتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا لله عباد الله حق تقواه وراقبوه ولا تعصوه واعلموا أنكم في آجال منقوصة .. وأنفاس معدودة.

أيها الاخوة الكرام: لقد نزل بالأمة خطب جلل، وأمر عظيم، لقد فجع الناس، وغشيتهم الدهشة والذهول، لفقد عالم جليل، فقيه عابد، زاهد ورع، اجتمعت القلوب على حبه، وحمل على عاتقه لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والدعوة إلى الله.

لقد حزنت الأمة لفراق الشيخ الجليل محمد بن العثيمين رحمه الله وأسكنه فسيح جناته .. ونجاة الناس منوطة بوجود العلماء فإن يقبض العلماء يهلكوا، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا و أضلوا)).

وليس يغني عن العلماء وجود الكتب حتى لو كانت سماوية، إذ لو أغنت تلك الكتب عن قوم لأغنت عن بني إسرائيل الذين انحرفوا، عن أبي الدرداء قال كنا مع النبي  إلى فشخص بصره السماء ثم قال: ((هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منها على شيء))، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن ؟ فوا الله لنقرأنه ولنقرأنه أبناءنا ونساءنا، فقال رسول الله: ((ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم)).

والبشر أيضاً محتاجون إلى العلماء حاجة عظيمة، قال : ((إنما مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة)) قال الإمام أحمد رحمه الله: الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب، لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثاً، والعلم يحتاج إليه في كل وقت.

أيها المؤمنون: إن الله تعالى قد فرض لأهل العلم الراسخين والأئمة المرضيين حقوقاً واجبة وفروضاً لازمة من أهمها محبتهم وموالاتهم، وذلك أنه يجب على المؤمن محبة المؤمنين وموالاتهم، فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، قال ابن تيمية رحمه الله: "فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله، موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصاً العلماء الذين هم ورثة الأنبياء" أ.هـ كلامه رحمه الله.

فحب أهل العلم والدين قربة وطاعة، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم.

ومن حقوق أهل العلم: احترامهم وتوقيرهم وإجلالهم لأنه من إجلال الله تعالى وتوقيره، ومن حقوقهم: الذب عن أعراضهم وعدم الطعن فيهم، فإن الطعن في العلماء العاملين والأئمة المهديين طعن في الشريعة والدين وإيذاء لأولياء الله الصالحين، ومجلبة لغضب الله رب العاملين الذي قال: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) [رواه البخاري]

والله إن الواحد منا ليعجب عندما ينظر في تكريم بعض الأمم الضالة الزائفة لعلمائها، فمن نظر إلى تعظيم الرافضة الشيعة وتكريمهم لعلمائهم لرأى العجب العجاب.

واليهود كذلك منهم طائفة يسمى أهل الجسديم وهؤلاء ينظرون إلى من يسمونه عندهم صديق أي ولي: نظرة فيها القدسية والجلال، بل يعتبرونه مرشداً ومعلماً وموجهاً ويعطونه ثقة كاملة وطاعة مطلقة، ويعترفون بين يديه بالذنوب ويحدثونه بأسرارهم، هذا وهم على ضلال فكيف بأهل الحق ؟ لا شك أنهم أولى وأحق بالتكريم الذي لا غلو فيه.

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً