أيها الناس:
جميل جدًا أن يتحدث المرء المسلم بنعمة الله عليه، وبآلائه التي أسبغها على عباده ظاهرة وباطنة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ [الضحى: 11].
ومما لا شك فيه أن نعم الله علينا تترى، بل كل النعم هي منه وحده، لا يشركه [فيها] غيره وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ [النحل: 53].
عباد الله:
قد لا تختلف أفهامنا جميعًا على أن من أعظم النعم التي أكرمنا الله بها هي نعمة العقل، العقل الذي وهبنا الله إياه، لنمتاز به عن الحيوان الأعجم، والصخر الصلب، فبالعقل يشرف الإنسان، وبالعقل يكلَّف المرء المسلم، وبه يعرف خالقه جل شأنه.
ذلكم العقل الذي يميز به بين الخير والشر، والهدى والضلالة، إذا استعمله الإنسان سببًا في سلوك طريق الهدى، والبعد عن موارد الردى. العقل الذي يُعدُّ من أكبر الطاقات البشرية طُرًّا، إنه لنعمة عظمى، وسمة جُلَّى، امتن الله بها علينا، قُلْ هُوَ ٱلَّذِى أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَـٰرَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [الملك: 23].
إنه لا يعلم قدر العقل إلا من وُهبَه، وإلا كان هو وعَير في الفلاة سواء، ومن تأمل حكمة الله جل وعلا في أن يكون الطفل الوليد بلا عقل اكتسابي لأدرك أثر هذه النعمة عليه حينما يوهب شيئًا بعدما مُنِع منه، ليكون الإحساس به أشدّ وقعًا، وأجدى نفعًا، وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَـٰرَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78].
يقول ابن القيم رحمه الله: "لو ولدت أيها الإنسان عاقلاً كحالك في كبرك، لتنغّصت عليك حياتك أعظم تنغيص، لأنك ترى نفسك محمولاً رضيعًا، عاجزًا مسجونًا في المهد، أو كنت ممن ابتلي بفقد والديه، فكنت كالواله الحيران، ولكنها محض الحكمة، والرحمة بك، والتدبير".
ثم اعلموا ـ أيها الناس ـ أن العقل إما أن يكون غريزيًا، وإما أن يكون اكتسابيًا:
فالأول كعقل الطفل الذي سبق ذكره.
والثاني ما يكتسبه الصبي على مرور الأيام، إلى أن يبلغ أربعين سنة، ثم بعد ذلك يأخذ في النقصان إلى أن يخْرف، بخلاف العلم فإنه يكون كل يوم في زيادة، ومنتهى تعلم العلم هو منتهى العمر، وهذا يدل على أن العقل أضعف من العلم.
فلأجل ذا ـ عباد الله ـ أجمعت الرسل قاطبة على حفظ الضرورات الخمس، والتي هي الدين والعقل والعرض والمال والنفس.
فالعقل إذًا ضرورة كبرى من هذه الضرورات، مرهونة بإيجاد ومنع، فالإيجاد إنما يكون من خلال استعماله في طاعة الله سبحانه واعتقاد دين الإسلام به، والمنع إنما يكون من خلال سد كل ذريعة مفضية إلى إفساد هذا العقل أو تعطيله عن الاتصال بنور الهداية، فلأجل ذا حرِّم كل ما من شأنه أن يكون سببًا في زواله، كشراب المسكرات والمخدرات ونحوها، بل لقد جعل الشارع الحكيم الدية كاملة في زوال العقل بسبب الاعتداء عليه.
ولو لم يكن من ذلك إلا كون العقل شرطًا في معرفة العلوم، وفي الأعمال وصلاحها، وبه يكمل دين الإنسان لكفى، غير أنه لا يستقل بذلك وحده، إذ هو غريزة في النفس، وقوة فيها، كقوة البصر إيجابًا وسلبًا، وما ذاك إلا بقدر اقتباسه من نور الإيمان، بيد أنه إذا انفرد عن النور، أو أبعد عنه بالكلية كانت أقواله وأفعاله أمورًا حيوانية، كما قال ذلك شيخ الإسلام رحمه الله.
ثم إن العقل البشري الذي يستطيع أن يؤدي وظيفته على أكمل وجه، هو ذلكم العقل الذي تجرد عن الهوى، وخلص من ربقة التقليد الأعمى، فلم يتأثر بالآراء والأفكار المنحرفة التي تدفعه للوقوع في الزيغ والضلال، كما أنه لم يُعطّل قواه باتباع أعمى، فينجرّ به على انحراف ذريع وزيع مُردٍ.
هذا هو العقل الذي يمكن أن يحمل رسالة الإسلام حملاً صحيحًا.
وأما الذين كبّلوا عقولهم، وعطلوها عن موارد النهل الصافي فهم الذين قال الله عنهم: إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [الأنفال: 22].
ولأجل ذلك كان جواب أمثال هؤلاء يوم القيامة وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَـٰبِ ٱلسَّعِيرِ [الملك: 10، 11].
وجماع ما مضى ذكره ـ عباد الله ـ هو ما ذكره أبو القاسم الأصبهاني رحمه الله بقوله: "العقل نوعان: عقل أعين بالتوفيق، وعقل كيد بالخذلان، فالذي أعين بالتوفيق يدعو صاحبه إلى موافقة الأمر المفترض بالطاعة، والانقياد لحكمه، والتسليم به، والعقل الذي كيد يطلب بتعمّقه الوصول إلى علم ما استأثر الله بعلمه وحجب أسرار الخلق عن فهمه، حكمةً منه بالغة".
عباد الله:
إنما قلنا ما قلناه في هذه العجالة كمدخل وتوطئة نشير بهما إلى أن جملةً من عقول هذه الأجيال المتأخرة ليخشى عليها مِن تسَلل ظلمات بعضها فوق بعض، أو أن تدب إلى عقولهم شبهات ومكابرات، لا يجد الوالغ في حمأتها بصيص نور يهتدي به إلى سواء الصراط، أو يخلص به من ضلالة، أو ينجو به من غواية، وذلك من خلال حلول شيء من الازدواجية الممقوتة غير يسير، عبر وسائل التلقي المختلفة، والتي يتعارك فيها الحق والباطل، والصحيح والضعيف، والعقل والشرع، والزين والشين، يبرز الحق فيها مرة، والباطل فيها مرات، جُندت لمثله أقلام بعض الورقيين من ممتهني الصحافة أو الكتابة، عبر الوسائل المقروءة أو المسموعة أو المرئية، وهي خير شاهد على هذا حيث لم تسخر جملة منها للذبّ عن الإسلام، شريعةً وروحًا واعتقادًا، بل حبّرت بعض الأقلام لتقرير نزعة جديدة يُخلع من خلالها الجلباب الساتر لكاتبيها عن إبراز هذا المقصد، فراحوا يخوضون فيما يسمى: "تمجيد العقل وإكباره"، وجعله حَكمًا قهريًا على عدد ليس بالقليل من النصوص الشرعية الإسلامية، فعرضوا الحاكمية في الشريعة على العقل، وعرضوا الحدود والجنايات على العقل، وعرضوا الولاء والبراء في الإسلام على العقل، وعرضوا بعض المسلمات في قضايا المرأة المسلمة وشؤونها على العقل، حتى صار ذلك لوثة نعوذ بالله من تبعات قسماتها، وشماله نعوذ بالله من غوائلها، بل هي معرّة برمتها، لاكتها أفواه المعارضين بعقلانيتهم، حتى لفظتها أسماع أهل الشريعة.
ومثل هذا ـ عباد الله ـ ليس ببعيد على من أطلق العنان لعقله، يصول به ويجول في شرع الله بلا خطام ولا زمام، ولا غرو في ذلك فقد قال ابن القيم رحمه الله: "وكل من له مسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي"، "ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتاب الله وحيه الذي هُديَ به رسله، والمعارضة بينه وبين كلام غيره، فأي فساد أعظم من فساد هذا العقل".
فيا لله العجب ـ أيها الناس ـ كيف يكون الحق قريبًا وليس إليه وصول؟!! وكيف يكون أمثال هؤلاء كالعيس في البيداء، يقتلها الظمأ، والماء فوق ظهورها محمول، وإذا كان يسعى إلى الماء من يغص بلقمة واحدة، فإلى أي شيء سيسعى من يغصّ بالماء ذاته؟!
إن سنن الله جل وعلا وشريعته لا تخاصَم، ولا ينبغي لها أن تُتْبع بالعقل، ولو فعل الناس ذلك لم يمض يوم واحد إلا انتقلوا من دين إلى دين، ولعمرو الله إن بعض السنن لتأتي أحيانًا على خلاف الرأي ومجانبته خلافًا بعيدًا، فما يجد المسلمون بدًا من اتباعها والانقياد لها، ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولقد رأيت رسول الله يمسح على ظاهر خفه).
وقد قال بعض السلف كأبي الزناد وغيره: (وما برح من أدركنا من أهل الفضل والفقه من خيار أوَّليَّة الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب، ويعيبون الأخذ بالعقل أشد العيب، وينهون عن لقائهم ومجالستهم، ويخبرون أنهم أهل ضلال وتحريف)، حتى قال الأصبهاني رحمه الله: "إذا رأيت الرجل إذا قيل له: لم لا تكتب الحديث؟ يقول: العقل أولى، فاعلم أنه صاحب بدعة".
بل لقد ذهب الشافعي رحمه الله إلى أبعد من هذا حيث جعل ترك السنة والاعتراض عليها وعدم الأخذ بها نوع جنون أو هو جنون وإن لم يكن حسيًا، فقد قال رحمه الله: (متى عرفتُ لرسول الله حديثًا ولم آخذ به فأنا أشهدكم أن عقلي قد ذهب).
ومن هنا وصف ابن تيمية رحمه الله العقل بالصنم إذا غلا فيه المرء وطغى، فقال رحمه الله: "والداعون إلى تمجيد العقل إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنم سموه عقلا، وما كان العقل وحده كافيًا في الهداية والإرشاد، وإلا لما أرسل الله الرسل".
ولله ما أجمل كلامًا لابن القيم رحمه الله يشفي العليل ويروي الغليل في تقرير هذه المسألة فيقول: "كيف ينقدح في ذهن المؤمن أن في نصوص الوحي المنزلة من عند الله عز وجل ما يخالف العقول السليمة؟! بل كيف ينفك العقل الصريح عن ملازمة النص الصحيح؟! بل هما أخوان لا يفترقان، وصل الله بينهما في كتابه، وإذا تعارض النقل وهذه العقول أخذنا بالنقل الصحيح، ورُمي بهذه العقول تحت الأقدام، وحُطَّت حيث حطها الله وأصحابها، فكيف يُظن أن شريعة الله الكاملة ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها، أو إلى قياس أو معقول خارج عنها، ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعد محمد ".
وحاصل الأمر ـ عباد الله ـ أن العقل في هذه العصور المتأخرة قد كبا كبوة خطيرة، وأُقحم في أمور ينبغي أن يكون العقل فيها تابعًا لا متبوعًا، والسلف الصالح رحمهم الله قد استعملوا الأقيسة والدلائل العقلية، ولم ينكروها بإطلاق، وإنما أنكروا ما كان منها فاسدًا مما يخالف الشرع، ويُعلم فساده، مما يتذرع به من يبطل بعض النصوص الشرعية، أو يحرّفها بحجة أنها تخالف القواطع العقلية، وهي في الحقيقة خيالات، وأوهام وشهوات، لا يميَّز فيها بين الشخص والصورة، ولا بين الطيف والحقيقة، حتى ركبت بهم متن عمياء، وخبطت بهم خبط عشواء.
ثم نقول لأمثال هؤلاء: إن أردتم إقحام العقول في فرز الشريعة فعقل مَن مِن البشر نحكّم؟ أهو عقل زيد أم عقل عمرو؟ أعقل رجل أم عقل امرأة؟ أعقل متّزن أم عقل صاحب هوى؟.
ألا إن دلائل العقل قلما تتفق، بل عقل كل واحد يُري صاحبه غير ما يُري الآخر، وهذا بيّن والحمد لله، وقديمًا قيل: (لو سكت الذي لا يعلم لما كان هناك خلاف)، ومن لم ير الهلال فعليه أن يسلم لأناس رأوه بأبصارهم.
كيف يحتج العقل على خالقٍ، ثم كيف يحتج العقل على خالق من بعض مخلوقاته هذا العقل؟!!
وأما ما يسطره بعض الكتبة، وما يدندنون حوله من ذكر أحاديث عن الرسول وردت في تعظيم العقل وإكباره، فإنه خلاف الحق، فقد قال ابن القيم رحمه الله: "أحاديث العقل كلها كذب"، ونقل عن بعض السلف قوله: (لا يصحّ في العقل حديث).
فصار فعل أمثال هؤلاء فيما يطرحونه من تحكيم العقل، والاستقلال به من القيود، كما يقول ابن تيمية رحمه الله: "هو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب".
فالواجب على كل مسلم ـ عباد الله ـ أن يتقي ربه جل وعلا، وأن يعلم أن شريعة الله ليست عُرضة للعقول لتخاصم بها، فقد حد الله للعقول حدودًا لا ينبغي تجاوزها، ولا الافتيات على الله بها، والله يقول: قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ [البقرة: 140]، ويقول: صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً [البقرة: 138]، وقال سبحانه: ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَـٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَـٰبٍ مُّنِيرٍ[الحج: 8]، قال بعض أهل العلم: "وهذا دليل ظاهر في أن الذي نراه معارضًا للوحي، ويقدّم العقل عليه، ليس من الذين أوتوا العلم في شيء" كيف لا؟ والله سبحانه وتعالى يقول: وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ٱلْعَـٰلِمُونَ [العنكبوت: 43].
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، فانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا، إنك أنت العليم الحكيم.
قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله بريئان منه، وأستغفر الله، إنه كان غفارا.
|