عباد الله، روى النسائي عن أبي هريرة رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذكر هادم اللذات)) - يعني الموت -، قال أهل العلم رحمة الله عليهم، قوله عليه الصلاة والسلام: ((أكثروا ذكر هادم اللذات)) كلام مختصر وجيز قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة، فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة. ومنعه من تمنيها في المستقبل، وزهده فيما كان منها يؤمل.
ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزويق الألفاظ، ففي قوله عليه الصلاة والسلام: ((أكثروا ذكر هادم اللذات)) مع قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ [الأنبياء:35]. ما يكفي السامع له، ويشغل الناظر فيه، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كثيراً ما يتمثل بهذه الأبيات:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويوديى المال والولـد
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له والإنس والجن فيمـا بينها تـردُ
أين الملوك التي كانت لعزتهـا من كـل أوب إليهـا وافد يفـد
حوض هنالك مورود بلا كذب لابد من ورده يومـاً كمـا وردوا
اعلم رحمنا الله وإياك أن ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية. والتوجه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية، وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم ولا زمن معلوم. ولا مرض معلوم، وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك مستعداً لذلك. قال إبراهيم التميمي رحمه الله: شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى. وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه: يجمع العلماء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.
وقال الدقاق: من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاث أشياء: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة.
فتفكر يا مغرور في الموت وسكرته، وصعوبة كأسه ومرارته، فيا للموت من وعد ما أصدقه، ومن حاكم ما أعدله، كفى بالموت مقرحاً للقلوب، ومبكياً للعيون، ومفرقاً للجماعات. وهادماً للذات وقاطعاً للأمنيات. فهل تفكرت يا ابن آدم في يوم مصرعك، وانتقالك من موضعك، إذا نقلت من سعة إلى ضيق، وخانك الصاحب والرفيق، وهجرك الأخ والصديق، وأخذت من فراشك وغطائك، وغطوك من بعد لين لحافك بتراب ومدر.
أيها الناس: قد آن للنائم أن يستيقظ من نومه. وحان للغافل أن ينتبه من غفلته قبل هجوم الموت بمرارة كأسه. وقبل سكون حركاته وخمود أنفاسه ورحلته إلى قبره ومقامه بين أرماسه. فخيل لنفسك يا ابن آدم إذا أخذت من فراشك، إلى لوح مغتسلك، فغسلك الغاسل وألبست الأكفان وأوحش منك الأهل والجيران ،وبكى عليك الأصحاب والإخوان. فإذا كان هذا الأمر قد أصاب الأنبياء والمرسلين والأولياء والمتقين فما لنا من ذكره مشغولون؟ وعن الاستعداد له متخلفون؟ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص:67-68].
أيها الأخوة الكرام: خاف السلف من الخاتمة لأن الأعمال بالخواتيم، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء سبحانه كما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم. فكم سمعنا عمن آمن ثم كفر، وكم رأينا من استقام ثم انحرف، ولذلك كان كثيراً ما يردد عليه الصلاة والسلام: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)).
يقول ابن القيم رحمه الله: "أما خوف أوليائه من مكره فحق، فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم، فيصيرون إلى الشقاء، فخوفهم من ذنوبهم ورجاؤهم لرحمته". فنحن والله العظيم أجدر بالخوف منهم، وإنما أمِنا لغلبة جهلنا وقسوة قلوبنا، فالقلب الصافي تحركه أدنى مخافة، والقلب الجامد تنمُ عنه كل المواعظ. فنسأل الله قلباً خاشعاً وعيناً باكية ولساناً ذاكراً إنه جواد كريم.
وحديثي إليكم أيها الأخوة عن علامة عظيمة من علامات حسن الخاتمة ألا وهي الشهادة في سبيل الله. وللموت في سبيل الله عشاق كثير، مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
وهذا مجاهد ينتدب نفسه للمهمة الجسيمة ويمضي نحو همته ويلح سائلاً مولاه:
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطـارف
ولكن قبـري بطن نسـر مقيله بجـو السمـاء في نسـور عـواكف
وأمسي شهيداً ثاويا في عصابة يصابون في فجع من الأرض خـائف
فوارس من عدنـان ألف بينهم تقـى الله نزالـون عنـد التـزاحف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف
إن مما يجب اعتقاده أن الأجل محتوم وأن الرزق مقسوم وأن ما أخطأ لا يصيب. وأن سهم المنية لكل أحد مصيب، وأن كل نفسه ذائقة الموت، وأن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الري الأعظم في شرب كؤوس الحتوف. وأن من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار، وأن الشهداء عند الله من الأحياء، وأن أرواحهم في جوف طير خضر تتبوأ من الجنة حيث تشاء، وأن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه وخطاياه وأنه يشفع في سبعين من أهل بيته ومن والاه، وأنه يأمن يوم القيامة من الفزع الأكبر وأنه لا يجد كرب الموت ولا هول المحشر، وأنه لا يحس ألم القتل إلا كمس القرصة، وكم للموت على الفراش من سكرة وغصة، وأن الطاعم النائم في الجهاد أفضل من الصائم القائم في سواه، ومن حرس في سبيل الله لا تبصر النار عيناه، وأن المرابط يجري له أجر عمله الصالح إلى يوم القيامة، وأن ألف يوم لا تساوي يوماً من أيامه، وأن رزقه يجري عليه كالشهيد أبداً لا ينقطع، وأن رباط يوم خير من الدنيا وما فيها أجمع، وأنه يؤمَن من فتنة القبر وعذابه وأن الله يكرمه يوم القيامة بحسن مآبه.
فوا عجبا والله كيف أنه ذروة السنام قد درست آثاره فلا ترى، وطمست أنواره بين الورى، وأعتم ليله بعد أن كان مقمراً، وأظلم نهاره بعد أن كان نيرا،ً وذوى غصنه بعد أن كان مورقاً، وانطفأ حسنه بعد أن كان مشرقاً، وقفلت أبوابه فلا تطرق، وأهملت أسبابه فلا ترمق، وصفنت خيوله فلا تركض وربضت أسوده فلا تنهض، وامتدت أيدي الكفرة الأذلاء إلى المسلمين فلا تقبض، وأغمدت السيوف من أعداء الدين إخلاداً إلى حضيض الدعة والأمان وخرس لسان النفير إليهم فصاح نفيرهم في أهل الإيمان. وآمت عروس الشهادة إذ عدمت الخاطبين، وأهمل الناس الجهاد كأنهم ليسوا به مخاطبين، فلا نجد إلا من طوى بساط نشاطه عنه، أو تركه جزعاً من القتل وهلعاً. أو جهل ما فيه من الثواب الجزيل أو رضي بالحياة الدنيا من الآخرة وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.
وقد أخبرنا الله عن حياة الشهداء عنده فقال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوٰتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]. هؤلاء الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله قد أمنوا من عظيم الأهوال والكربات. وسكنوا بأجل المحال في أعلى الغرفات، وكرعوا من النعيم أكواباً. وأدرعوا من التنعيم أثواباً. ومتعوا بجنان الفردوس مستقراً ومآباً. وتمتعوا بحور عين كواعب وأتراباً. أرواحهم في جوف طير خضر تجول في الجنان، تأكل وتشرب وتأوي إلى قناديل معلقة في عرش الرحمان، يتمنون الرجوع إلى هذه الدار ليقتلوا في سبيل الله مرات ومرات لما بهرهم من ثواب الله الجزيل، فما أقبح العجز عن انتهاز هذه الفرص، وما أنجح الاحتراز بالجهاد عن مقاساة تلك الغصص. وليت شعري بأي وجه يقدم على الله غداً من فر هذا اليوم من أعدائه، وماطله بتسليم نفسه بعد عقد شرائه، ودعاه إلى جنته ففر وزهد في لقائه، وبأي عذر يعتذر بين يديه من هوى عن سبيله ناكب، وعما رغبه فيه من الفوز العظيم راغب. قال صلى الله عليه وسلم: ((إن للشهيد عند ربه سبع خصال: أن يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة ويحلى حلية الإيمان، ويجار من عذاب القبر ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج ثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه)).
سبعين منهم كما في مسند حصـروا إن الشـهيد شـفيع فـي قرابتـه
وفـي كتـاب أبـي داود معتبــر والترمـذي أتى باللفظ في سـنن
في ضمن ست خصال ساقها الخبـر مـع ابن ماجـة والمقدام ناقلـه
إن الشـهادة مجـد دونـه حفــر ما كـل من طلب العليـاء نائلها
لن تبلغ المجد حتـى يلعق الصبـر وقد تـردد في الأمثـال من زمن
نعم المبيع ورب العرش ما خسـروا ربي اشترى أنفساً ممن يجود بها
كما موت البهائم في الأعطان تنتحر هل من يموت بميـدان الجهـاد
قـد قالهـا خالـد إذ كـان يحتظر كلا وربي فـلا تشـبيه بينهمـا
مـن فتنــة وابتـلآت إذا قبـروا أهل الشهادة في الآثار قد أمنـوا
والناس قائمـة من هولـه ذعـروا ويوم ينفخ صور ليس يزعجهـم
علـى الشـهيـد فعنـد الله مغتفـر وما سوى الدين من ذنب وسيئـة
تـأوى القناديل تحت العرش تزدهر أرواحهم في علا الجنات سارحة
طيــر معـردة ألوانهـا خضـرُ وحيث شاءت من الجنات تحملها
قال صلى الله عليه وسلم: ((إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر لها قناديل معلقة تحت العرش. تسرح من الجنة حيث شاءت. ثم تأوي إلى تلك القناديل. فاطلع إليهم ربهم اطلاعه فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا. فيفعل بهم ثلاث مرات. فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نرجع إلى الدنيا فنقتل في سبيل مرة أخرى. فلما رأى أنه ليس لهم حاجة تركوا)).
فتيقظ لنفسك يا أخي قبل الهلاك وأطلق نفسك من أسرها قبل أن يعسروا الفكاك، وانهض على قدم التوفيق والسعادة عسى الله أن يرزقك من فضله الشهادة ولا يقعدك عن هذا الثواب سبب من الأسباب، فذو الحزم السديد من جرد العزم الشديد، وذو الرأي المصيب من كان له في الجهاد نصيب. ومن أخلد إلى الكسل وغره الأمل زلت منه القدم. وندم حيث لا يغني الندم، وقرع السن على ما فرط وفات. إذا شاهد الشهداء في أعلى الغرفات وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى ٱلسَّبِيلَ [الأحزاب:4]. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
إن الشهيد لما بذل حياته لله أعطاه الله سبحانه حياة أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته ((من بذل شيئاً لله أعطاه الله خيراً منه))، حياة غير الشهيد شوب النغص ممزوج بالغصص. إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً أحزنت شهوراً، أولها مخاوف، وآخرها متالف. أما الشهيد فقتل آخره حياة .ولكن أي حياة ؟ غير الشهيد يحيا مع من؟ والشهيد يحيا عند من؟ فارق أهل الدنيا الذين يموتون. فمن الله عليه بالحياة عند الحي الذي لا يموت. لما مزقت أجسادهم في دار الدنيا لله عز وجل فمنّ الله عليهم بحواصل طير خضر، حبست أقدامهم عن السعي فمنّ الله عليهم بأن يسرحوا في الجنة حيث شاءوا.
انظر وتأمل: لما ترك المجاهد الفراش والأزواج جاد عليه الملك الوهاب بكثرة الأزواج من الحور العين والجزاء عند الله من جنس العمل. فاز بوصال من خلقت من النور، ونشأت في ظلال القصور مع الولدان والحور. في دار النعيم والسرور، والله لا يجف دم الشهيد حتى تلقاه. وتستمتع بشهود نورها عيناه، حوراء عيناء. جميلة حسناء، بكر عذراء، كأنها الياقوت لم يطمثها إنس قبله ولا جان. كلامها رخيم، وقدها قويم، وشعرها بهيم، وقدرها عظيم، وجفنها فاتر، وحسنها باهر، وجمالها زاهر، ودلالها ظاهر. كحيل طرفها، جميل ظرفها، عذب نطقها. عجب خَلقها، حسن خُلقها. زاهية الحلي، بهية الحلل. كثيرة الوداد، عديمة الملل. قد قصرت طرفها عليك، فلم تنظر سواك. وتحببت إليك بما وافق هواك، لو برز ظفرها لطمس بدر التمام. ولو ظهر سوارها ليلاً لم يبق في الكون ظلام، ولو بدى معصمها لسبى كل الأنام. ولو أطلعت بين السماء والأرض لملأ ريحاً ما بينهما. كلما نظرت إليها ازدادت في عينيك حسناً، وكلما جالستها زادت إلى ذلك الحسن حسناً، أيجمل بعاقل أن يسمع بهذه ويقعد عن وصالها، كيف وله في الجنة من الحور العين أمثال أمثالها؟
اللهم إليك يا من بيده أزمة القلوب نرغب في ثباتها. وعليك يا علام الغيوب نعتمد في تصحيح قصدها وإخلاص نياتها. وإلى غناك نمد أيدي الفاقة أن ترزقنا شهادة ترضاها، وأن تنيل نفوسنا من ثبات الأقدام في سبيلك، فالحراك والسكون إليك، والمعول في كل خير عليك، وأنت على كل شيء قدير والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
|