الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
ثم يقول الله تبارك وتعالى آمرًا النساء المؤمنات: وَقُل لّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ يأمر الله تبارك وتعالى النساء المؤمنات بغض الأبصار غيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين، وتميزًا لهن عن صفة نساء أهل الجاهلية وفعال المشركات، يأمرهن بغض البصر عما حرم عليهن من غير الأزواج وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ويأمرهن كما أمر الرجال بحفظ الفروج عن الفواحش، وعما لا يحل لهن وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا قال ابن مسعود: إلا ما ظهر منها كالرداء والثياب، هذا يعني على ما كان يتعاطاه نساء الجاهلية من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه، الزينة التي تظهر من أسفل الثياب لا زينة الأجساد؛ لأن الزينة هو كل ما يتزين به مما هو خارج عن ذات الشيء، وهذا مما يصلح لدفع القول بأن الزينة هي الوجه والكفان كما سنعلم، فلا حرج عليها فيما يبدو من أسافل الثياب، ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لا يمكن إخفاؤه، فهذا لا حرج عليها فيه، قاله ابن مسعود وتابعه عليه الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم، وأما قول ابن عباس: "إن الزينة الظاهرة: الوجه والكفان والخاتم" فقد قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "يحتمل أن يكون هذا للزينة التي نُهينا عن إبدائها؛ لأن الآية ذكرت الزينة مرتين، في أول الآية وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا والمرة الثانية: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ قال: فيُحتمل أن يكون هذا تفسيرًا لابن عباس في الزينة الثانية التي نهيت يقال: إن أبا داود مُخرج الحديث وأبا حاتم الرازي قالا: هو مرسل، خالد بن دريك لم يسمع من عائشة، والحديث قال فيه الإمام أبو داود بسنده: حدثنا يعقوب ابن كعب الأنطاكي ومؤمل ابن فضل الحراني قال: حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها دخلت على رسول الله وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: ((يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا)) وأشار إلى وجه وكفيه. قال أبو داود وأبو حاتم الرازي: هو مرسل خالد بن دريك لم يسمع من عائشة، والمرسل قسم من أقسام الضعيف، فهذا حديث من الأحاديث التي احتج بها أهل القول بجواز كشف الوجه مستبين من أقوال العلماء وردودهم في الجمعة القادمة إن شاء الله وقدر في الكلام على الحجاب ما في هذه الأحاديث وكيف ردت، وردوها ولم يسّلموا بصلاحيتها للحجة.
ثم قال الله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ الخُمُر: جمع خمار، وهو ما يغطى به الرأس، أمر الله تبارك وتعالى المؤمنات أن يسترن صدورهن وترائبهن بالخمر، ولا يتشبهن بنساء أهل الجاهلية فقد كانت المرأة فيهم تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا تواريه، وربما أظهرت عنقها وذوابئها وأقراط آذانها، فنهى الله النساء المؤمنات عن التشبه بهن، وأمرهن أن يستترن في جميع أحوالهن. كما قال في الآية السابعة والخمسين من سورة الأحزاب"
يأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لاِزْوٰجِكَ وَبَنَـٰتِكَ وَنِسَاء ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـٰبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب: 59] وقال هنا: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ثم قال: وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أي للأزواج يبدين الزينة الثانية التي أُمرن بألا يبدينها إلا للأزواج والمحارم يبدينها للأزواج مقدمة من يسمح لها بكشفها لهم فإن الأزواج لهم كل ذلك، وكل ذلك من أجلهم، وتتصنع المرأة بما شاءت لهم بما لا يجوز في حضرة غيره.
ثم قال: أَوْ ءابَائِهِنَّ وذكر المحارم آباء النساء وآباء أزواجهن وأبنائهن وأبناء أزواجهن والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات. كل هؤلاء محارم للمرأة، يجوز لها أن تظهر عليهن بزينتها، ولكن من غير تبرج.
ثم بعد ذلك أَوْ نِسَائِهِنَّ يجوز به أن تظهر المرأة زينتها للنساء المسلمات، دون نساء أهل الذمة الكافرات من اليهوديات والنصرانيات، وغيرهن من المجوسيات؛ لأن الرسول قال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها)).
فإن النساء المسلمات يعلمن أن ذلك حرام فينزجرن عنه، وأما نساء أهل الذمة فليس عندهن ما يمنعهنّ من وصف نساء المسلمات لأزواجهن الكفار ونعتهن لهم.
ثم قال الله تبارك وتعالى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُنَّ من الرقيق، قال ابن جرير: الأمة المشركة. وقال آخرون: من الرقيق رجالاً ونساءًا؛ لأن الرجال إذا كانوا عبيدًا أرقاء لا تقطع همتهم إلى سيداتهم والأول أولى؛ لأن الرقيق يشترك مع الأحرار فيما عندهم من الميل الفطري إلى النساء.
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرّجَالِ هؤلاء من الذين لا يميل لهم ولا همة لهم إلى النساء بسبب الجبّ، أي: الخصاء والعُنّة؛ والبلاهة والجنون وسائر ما يمنع من اشتهاء الرجل للمرأة. وعليها مع ذلك بالرغم من أنه لا حرج عليها إذا بدت زينتها لهؤلاء فعليها مع ذلك أن تحتاط، وألا تتبرج لأن الإمام أحمد والشيخين رووا عن أم سلمة رضي الله عنها أنه كان عندها مخنث، وهو ممن لا همة له إلى النساء وأخوها عبد الله بن أبي أمية ودخل رسول الله فسمع النبي ذلك المخنث يقول لعبد الله: يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غدًا فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. إذن بالرغم من أنه مخنث إلا أنه يفهم ويفرق بين الشوهاء والحسناء. فقال النبي في حالة هذا الرجل الذي كانوا يعدونه من غير أولي الإربة قال: ((لا يدخل هذا عليك)) أَوِ ٱلطّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرٰتِ ٱلنّسَاء يعني لصغرهم فإنهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهم من كلامهن الرخيم وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن. فإذا كان الطفل صغيرًا فلا بأس في دخوله على النساء، فإذا كان مراهقًا أو قريبًا منه أو يفرق بين الشوهاء والحسناء ويفهم ذلك ويعرفه ويدريه، وتطلع على ذلك من خلال كلامه وحركاته فلا يُمَكّن من الدخول على النساء.
كل ذلك صيانة لنا من الله تبارك وتعالى عن الوقوع في حبائل الفتنة واتقاءً لأسبابها.
ثم قال للنساء: وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ فقد كانت المرأة في الجاهلية إذا مشت في الطريق وفي رجلها خلخال لا يعلم صوته ضربت برجلها الأرض فيسمع الرجل طنين، فنهيت المرأة المؤمنة عن مثل ذلك. ويدخل في هذا النهي إن كان شيئًا من زينتها مستورًا ثم تحركت ليعلم وليسمع صوته لقوله تعالى: لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ثم قال الله تبارك وتعالى: وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي افعلوا ما أمركم الله به من هذه الصفات الجميلة واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمركم الله ورسوله به وترك ما نهاكم الله ورسوله عنه وبهذا يرد القرآن القلوب كلها إلى الله ويفتح لها بابًا للتوبة بهذه الخاتمة ليتوبوا مما ألموا به قبل نزول هذا القرآن أو قبل العلم بما في هاتين الآيتين. يفتح لهم بابًا للتوبة. وبذلك يشير حساسية لرقابة الله تبارك وتعالى في السر والعلانية، وعطفه على خلقه وعونه للبشر في ضعفهم أمام هذا الميل الفطري العميق الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله وبتقواه.
|