أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أمّا بعد:
فقد مرت بنا فيما مضى بعض الأحكام المتعلقة بالأولاد في الإسلام، ونعود اليوم لنضيف إليها حكمًا آخر من الأحكام ألا وهو حكم ثقب أذن الصبي، أما أذن البنت فيجوز ثقبها للزينة نص عليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ونص على كراهته في حق الصبي والنصوص التي استند إليها فيما ذهب إليه من جوازه للأنثى وكراهته للصبي منها ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أم زرع، ومنها ما ثبت في الصحيحين، وسيأتي ذكره فيما يتعلق بتحريضه للنساء على الصدقة والفرق بين الذكر والأنثى، أن الأنثى محتاجة للحلي فثقب الأذن مصلحة في حقها بخلاف الصبي وقد قال النبي لعائشة رضي الله عنها في حديث أم زرع الصحيح، هذا الحديث الذي يحكي قصة إحدى عشرة امرأة اجتمعن وتعاهدن على أن تقص كل امرأة منهن خبر زوجها، ولما جاء دور أم زرع أثنت على زوجها خيرًا، وكانت مما أثنت به على زوجها أنه أناس من حلي أذنها فقالت: أناس من حُلي أذني، أي: ملأ أذنها من الحلي.
ولقد قال النبي لعائشة رضي الله عنها: كنت لك كأبي زرع لأم زرع، ولم يستثن من ذلك وضع الحلي في الأذن، وهذا واضح الدلالة في جوازه.
قالت أم زرع: أناس من حلي أذني، أي: ملأ أذنها من الحلي حتى صار ينوس فيها، أي: تحرك فيها ويجول.
وفي الصحيحين: لما حرض النبي النساء على الصدقة جعلت المرأة تلقي خرصها (الحديث) والخرص: هو الحلقة الموضوعة في الأذن، ويكفي في جوازه بفعل الناس له وإقرارهم على ذلك. فلو كان مما ينهى عنه لنهى عنه القرآن أو السنة.
فإن قيل: فقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن عدوه إبليس أنه قال: وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ ٱلأَنْعَـٰمِ [النساء: 119] ، فإن قيل البتك الذي أمر إبليس به الناس في الجاهلية هو القطع، أي: يقطعون آذان الأنعام. وهذا يدل على أن قطع الأذان وشقها وثقبها من أمر الشيطان، وثقب الأذن قطع لها فهذا ملحق بقطع أذن الأنعام، إن قيل ذلك، قيل: هذا من أفسد القياس؛ فإن الذي أمر الشيطان به أنهم كانوا إذا ولدت لهم الناقة خمسة أبطن فكان البطن السادس ذكرًا شقوا أذن الناقة في الجاهلية وحرّموا ركوبها والانتفاع بها، ولم تطرد عن ماء ولا عن مرعى وقالوا: هذه بحيرة. فشرع لهم الشيطان في ذلك شريعة من عنده فأين هذا من ثقب أذن الصبية ليوضع فيها الحلي التي أباح الله لها أن تتحلى به، أين ذلك من ذاك؟!
وأما ثقب أذن الصبي فلا مصلحة له فيه، وهو قطع عضو من أعضاءه لا لمصلحة دينية ولا دنيوية، فلا يجوز.
ومن أعجب ما في هذا الباب ما قال الخطيب في تاريخه؛ حيث قال: "أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا محمد بن العباس الخزّاز، قال: أخبرنا أبو عمر عثمان بن جعفر المعروف بابن الكبار، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن إسحاق بن راهوية ابن الإمام الحافظ المحدث الكبير يقول علىٌ هذا: ولد أبي من بطن أمه مثقوب الأذنين، قال: فمضى جدي راهوية إلى الفضل بن موسى السيناني فسأل عن ذلك، وقال: ولد لي ولد خرج من بطن أمه مثقوب الأذنين! فقال الفضل بن موسى: "يكون ابنك رأسًا إما في الخير وإما في الشر. وكأن الفضل ابن موسى والله أعلم تفرَّس فيه أنه لمّا تفرد عن المولودين كلهم بهذه الخاصية أن ينفرد عنهم بالرياسة في الدين أو الدنيا، إما أن يكون رأسًا في العلم فتكون هذه رياسة في الدين، أو أن يكون رأسًا في الدنيا بتولي وتبوء أعظم المناصب، هذا والله أعلم.
وقد كان رحمه الله تعالى ـ أي إسحاق ـ رأسًا في الخير. رأس أهل زمانه في العلم والحديث والتفسير والسنة والجلالة والنهي عن المنكر والأمر بالمعروف، وكسر الجهمية نفاة الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه ووصفه بها رسوله في سنته، والمعروفين بالآراء الضالة والمقالات الفاسدة، كان رأسًا في كسرهم وكسر أهل البدع ببلاد خراسان، وهو الذي نشر السنة في بلاد خراسان وعنه انتشرت هناك. وقد كانت له مقامات محمودة عند السلطان يبصره الله بها بأعداءه ويخزيهم على يديه حتى تعجب منه السلطان والحاضرون، حتى قال محمد بن أسلم الطوسي: "لو كان الثوري حيًا لاحتاج إلى إسحاق فأخبر بذلك أحمد بن سعيد الرباطي فقال: والله لو كان الثوري وابن عيينة والحمادان (أي: حماد بن زيد وحماد بن سلمة) في الحياة لاحتاجوا إلى إسحاق"، فأُخبر بذلك محمد بن يحيى الصفّان فقال: "والله لو كان الحسن البصري حيًا لاحتاج إلى إسحاق في أشياء كثيرة".
وكل ذلك لا لسبب إلا لعلمه وإمامته وجلالته وورعه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر حتى قال هؤلاء العلماء الأجلاء: "إن السابقين المعروفين بالإمامة والجلالة والفقه والعلم والتقوى والورع لو أدركوا هذا الإمام لانتفعوا منه ومن علمه"، وسأذكر إن شاء الله وقدّر بعد جلسة الاستراحة شيئًا مما يدل على إمامته وظفره عند السلطان وخزي أعداء السنة على يديه لنبين من خلال ذلك أنه كان ـ رحمه الله ـ رأسًا في العلم كما تفرس فيه الفضل بن موسى عندما أُخبر بأنه ولد مثقوب الأذنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
|