أما بعد :
هناك أمر هام لابد من توضيحه أولاً وهو أن العوالم في التصور الإسلامي تنحصر في دائرتين.
فأما الدائرة الأولى فإنها تشمل عالم الشهادة، وهو العالم الذي يقع تحت الحواس فما نشاهده من أرض وسماء، وجبال ووديان، وبحار وأنهار، ونبات وأنعام، فهو من عالم الشهادة، كذلك مما نسمعه من أصوات، ونشمه من روائح، ونتذوقه باللسان ونلمسه باليد، هذا أيضاً داخل في عالم المحسوسات.
أما الدائرة الثانية فإنها تشمل عالم الغيب، وهو الذي لا يدرك بالحواس ومن هذه العوالم الغيبية، عالم الملائكة وعالم الجن والشياطين، وحقائق يوم القيامة من حساب وصراط وجنة ونار، كل هذه عوالم غيبية لا يستطيع الإنسان أن يدركوها بواحدة من الحواس التي وهبهم الله إياها.
وخير سبيل للإيمان بهذه العوالم الغيبية، هو اتباع سبيل القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، فما جاء فيهما من هذه الأمور فإن علينا عندئذ أن نؤمن ونقول : آمنا وصدقنا، لماذا لأنها أتت من عند الله العظيم الذي وصف نفسه بأنه عالم الغيب والشهادة بقوله هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ [الحشر: 22].
وخير من يخبرنا عنها هو الله الذي خلقها لأنه يعلم وحده حقيقتها ووجودها. إضافة إلى ما ورد عن رسول الله في ذلك فإن علينا تصديقه أيضًا، لماذا لأن الله تعالى أمرنا بذلك وبين لنا أنه لا ينطق عن الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَىٰ [النجم: 4]
والإيمان بالملائكة واجب لا يتم إيمان المسلم إلا به، ومجمل الإيمان بالملائكة الاعتقاد بأن الله تعالى خلق عالماً أسماه الملائكة. والأدلة على وجود هذا العالم ثابتة وكثيرة جداً، فمن القرآن الكريم مثلاً قول الله تعالى ءامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة: 285].
وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة، منها حديث وصف الملائكة وأنهم خلقوا من أجسام نورانية فعند الإمام مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت قال : ((خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم)).
ومن صفاتهم أيضاً أنهم عظيمو الخلق. فقد قال الله تعالى في ملائكة النار يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم 6].
وكمثال على ذلك أيضاً عند الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : رأى رسول الله جبريل عليه السلام في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق من جناحه من التهاويل (الأشياء المختلفة الألوان) والدر والياقوت ما الله به عليم))، قال ابن كثير: إسناده جيد (البداية والنهاية) وعند الترمذي أنه قال في جبريل رأيته منهبطًا من السماء ساداً عظيم خلق ما بين السماء والأرض وعند أبي داود عن جابر بن عبد الله أنه قال : قال ((أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام)).
ومن أوصافهم أن لهم أجنحة كما أخبرنا الله فمنهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة أو أربعة ومنهم من له أكثر من ذلك ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَ يَزِيدُ فِى ٱلْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [فاطر: 1].
ومن صفاتهم أنهم لا يشبهون البشر ولا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون ولا يملون ولا يتعبون كما قال الله فيهم يُسَبّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20].
ومن صفاتهم أنهم كرام بررة كرام برره ولديهم القدرة من عند الله على أن يتشكلوا بغير أشكالهم، فقد أرسل الله جبريل إلى مريم في صورة بشر ففزعت وقالت إِنّى أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غُلَـٰماً زَكِيّاً [مريم: 18ـ 19]. ومن صفاتهم عظم سرعتهم، فأعظم سرعة نعرفها هي سرعة الضوء فهو ينطلق عبر . . . 186 ألف ميل في الثانية الواحدة.
أما سرعة الملائكة فهي فوق ذلك بل هي سرعة لا تقاس بمقاس البشر . لأن السائل كان يأتي إلى الرسول فلا يكاد يفرغ من سؤاله حتى يأتيه جبريل بالجواب من الله سبحانه وتعالى.
ومن صفاتهم أنهم لديهم القدرة من الله في إنزال العذاب بالكفار والمنافقين، وكمثال على ذلك قوم لوط، قال الله تعالى فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود 82-83].
قال ابن كثير: قال مجاهد أخذ جبريل قوم لوط من ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم كفأها، وكان حملهم على طرف جناحه الأيمن ورغم هذه القوة الرهيبة إلا أنهم الله ويخافون منه يَخَـٰفُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل: 50].
وأما منازلهم ومساكنهم فهي السماء كما قال تعالى تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ [الشورى: 5].
وأما عددهم فلا يعلمه إلا الله وكمثال له استمعوا لما قاله رسول الله عند البخاري ومسلم عن البيت المعمور الذي في السماء السابعة ((فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر عليهم)). وهناك غيرهم كثير ففي حديث الترمذي وابن ماجه ((أطت السماء وحق لها أن تئط، ما من موضع أربع أصابع إلا عليه ملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى)).
وأما أسماؤهم فلا نعرف منهم إلا القليل منهم مثلاً:جبريل وميكائيل: قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلـئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَـٰفِرِينَ [البقرة: 97، 98].
وجبريل هو الروح الأمين ورسول رب العالمين إلى الأنبياء والمرسلين، وميكال مكلف بالمطر والنبات, ومنهم إسرافيل وهو ملك عظيم الخشية لله، روى الترمذي وصح. . أنه قال: ((إن الله خلق إسرافيل منذ يوم خلقه صافاً قدميه، لا يرفع بصره من خشية الله تبارك وتعالى، وهو المكلف بالنفخ في الصور وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَن فِى ٱلأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ [الزمر: 68].
ومنهم ملك الموت:
وهو مكلف بقبض أرواح بني آدم قُلْ يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِى وُكّلَ بِكُمْ [السجدة: 11].
وله أعوان يساعدونه في ذلك فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَـٰرَهُمْ [محمد: 127].
ومنهم مالك خازن النار:قال تعالى وَنَادَوْاْ يٰمَـٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّـٰكِثُونَ [الزخرف: 77].
وهناك رضوان خازن الجنة .
وهناك منكر ونكير الملكان اللذان يسألان الناس في القبور.
وهنا قد يتساءل سائل ويقول:ما هي علاقة الملائكة ببني آدم؟ فالجواب هو أن العلاقة وثيقة مترابطة بدأت منذ أن أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم، وأثمرت بأمر الله لهم أيضاً بتبليغ وحي الله إلى رسله وأنبيائه.
ولهم دور أيضاً يبدأ في تكوين الإنسان منذ أول لحظة، فعند الإمام مسلم عن أبي ذر قال سمعت رسول الله يقول: ((إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة، بعث الله تعالى إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال:أي رب:ذكر أم أنثى، فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك)).
حسناً:هل سينتهي دورهم عند هذا، لا فإن الله يكلفهم بحراسة ابن آدم بقية حياته قال تعالى لَهُ مُعَقّبَـٰتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ [الرعد:11].
قال ابن عباسالمعقبات هم الملائكة الذين يحفظونه حتى يأتي أمر الله قال مجاهد: (ما من عبد إلا له ملك موكل بحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما منها شيء يأتيه إلا قال له الملك وراءك، إلا شيء أذن الله فيه، فيصيبه).
والملائكة أيضاً مكلفون بحفظ أعمال بني آدم وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـٰفِظِينَ كِرَاماً كَـٰتِبِينَ [الإنفطار: 10، 11].
ووكل الله بكل إنسان ملكين حاضرين لا يفارقانه يحصيان عليه أعماله وأقواله وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ . [ق:16ـ 18].
ومعنى قَعِيدٌ أي مترصد. و رَقِيبٌ عَتِيدٌ: مراقب مستعد لذلك، لا يترك كلمة تفلت، يقول ابن عباس : (يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه يكتب قوله: "أكلت شربت، ذهبت، جئت، رأيت" وهكذا.
هذا ومن تكلم بخير فيحمد الله، ولن يجد إلا خيرًا ومن تكلم بغير ذلك فهناك فرصة له في الدنيا لأن الرسول يقول والحديث في صحيح الجامع (2/212): ((أن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتب واحدة)).
فإن لم يتدارك نفسه فلن يكون حاله بعيداً عن الذي سيقول يوم القيامة يٰوَيْلَتَنَا مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا. [الكهف: 49].
أخيراً بعض الملائكة مكلفون بتحريك بواعث الخير في نفوس العباد. فقد وكل الله بكل إنسان قريناً من الملائكة، وقرينًا من الجن فعند الإمام مسلم عن ابن مسعود قال: قال : ((ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة)) قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: ((وإياي ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)).
ويتنافس القرينان من الملائكة ومن الجن على الإنسان، هذا يأمر بالخير ويرغبه فيه، وذلك يأمره بالشر ويرغبه . لهذا يقول عند النسائي والترمذي عن ابن مسعود قال: (إن للشيطان لمة بابن آدم (الإصابة بالوسوسة) وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاذ بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد من ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله. ومن وجد الأخرى فليعوذ بالله من الشيطان الرجيم)).
ٱلشَّيْطَـٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَاء وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَٱللَّهُ وٰسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 268].
|