أما بعد:
أحبابنا في الله: الشفاعة هي الوسيلة والطلب، وهي سؤال الخير للغير، وهي سؤال التجاوز عن الذنوب، ولابد لها من توافر شرطين:
الأول: إذن الله تعالى للشافع.
والثاني: رضى الله تعالى عن المشفوع له.
قال تعالى: وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ لاَ تُغْنِى شَفَـٰعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَىٰ [النجم:26].
والشفاعة يوم القيامة منها ما هو خاص برسل الله ، ومنها ما هو عام له ولإخوانه من الأنبياء، والعلماء، والشهداء، والملائكة.
وأهل السنة والجماعة – جعلني الله وإياكم منهم – يؤمنون أن النبي يشفع يوم القيامة لأهل الجمع كلهم شفاعة عامة، ويشفع في المذنبين من أمته، فيخرجهم من النار بعدما احترقوا. [أصول السنة:172].
والشفاعة العامة هي شفاعته لجميع الخلق في ذلك اليوم العظيم، وتسمى الشفاعة العظمى، وتسمى الشفاعة الكبرى، وهي شفاعة عامة تعم جميع أهل الموقف على مختلف أديانهم، وبهذه الشفاعة يتخلصون من أهوال الموقف وكرباته وشدته وطوله.
أخرج مسلم: (2864) في صحيحه عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل))، قال سليم بن عامر: فوالله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال: ((فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يُلجمه العرق إلجاماً، قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه)).
اللهم اجعلنا في ذلك اليوم العظيم تحت ظل عرشك.
وفي رواية لمسلم: (2863): ((إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعاً، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس أو إلى آذانهم)).
في هذا اليوم المهيب الذي يتمنى فيه الكافر أن ينقضي أمره ولو إلى النار لما فيه من أهوال وكربات، تأتي شفاعته ، وهي المقام المحمود الذي يبعثه ربه، قال تعالى: وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا [الإسراء:79].
وإنما سمي محموداً لأن أهل الموقف كلهم، برهم وفاجرهم، سعيدهم وشقيهم، يحمدون رسول الله ، ويثنون عليه لما يشفع لهم من أهوال الموقف، فحين يطول ذلك عليهم، ويشتد، ويمتد، يلتمسون شفيعاً لهم ينقذهم من ذلك الهول، ويخرجهم من تلك المضايق، فيفزعون إلى أبيهم آدم عليه السلام، ثم إلى نوح عليه السلام، وكل من الرسل يعتذر، ثم وثم، حتى ينتهي بهم الأمر إلى الحبيب الأكرم الذي أهله الله تعالى لذلك المقام، وأكرمه به.
أخرج البخاري ومسلم – واللفظ لمسلم: (194) – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أُتي رسول الله يوماً بلحم، فرفع إليه الذراع، وكانت تُعجبه، فنهس منها، فقال: ((أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيُسمعهم الداعي، وينفُدُهُم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، وما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: ائتوا آدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة، فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم .
فيأتون إبراهيم، فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله – وذكر كذباته – نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى ، فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضلك الله برسالته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى .
فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله، وكلمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم، وروح منه، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، - ولم يذكر له ذنباً – نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد .
فيأتوني فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأنطلق، فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله علي، ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع. فأرفع رأسي، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال: يا محمد، أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصارع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى)).
اللهم من الباب الأيمن فأدخلنا، اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد يا أرحم الراحمين.
إخوة الإسلام: هذا الحديث العظيم يبين هيئة ذلك اليوم، وما يكون فيه من الشدائد والكرب، حتى أن الأنبياء عليهم الإسلام يقولون في ذلك اليوم: ((نفسي نفسي))، ويبرز سيد الخلق، حبيب الحق ليشفع في ذلك الموقف العظيم، وانظروا – رحمكم الله – كيف إنه لما يعطى الشفاعة يقول: ((أمتي أمتي))، صلى الله على الرؤوف الرحيم، المبعوث رحمة للعالمين.
فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، وسارعوا إلى ما يقربكم إلى الله، ويخفف عنكم ذلك اليوم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لّلْكَـٰفِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ تَعْرُجُ ٱلْمَلَـئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:1-7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، اللهم ارحمنا يوم العرض، وارحمنا تحت الأرض وارحمنا في كل موقف من مواقف يوم القيامة، اللهم أدخلنا الجنة بسلام، واجعلنا من الذين سبقت لهم منك الحسنى وزيادة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم. |