إن من أصول عقيدة هذه الأمة المباركة، التي هي عقيدة أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله ، كما وصفهم الله في قوله تعالى: وَٱلَّذِينَ جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإَيمَـٰنِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
وطاعة النبي في قوله: ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه)).
فهم يقبلون كل ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومناقبهم ومراتبهم، فمن أحبهم وأحسن الثناء عليهم فقد برئ من النفاق ومن كل طالح، ومن أبغضهم أو انتقص أحداً منهم فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح، ومخاف عليه أن لا يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعاً ويكون قلبه لهم سليماً، إذ ما منهم أحد إلا وله فضائل ومآثر لا تحصى، فبهم عُرف الحلال من الحرام، وبهم تميز الحق من الباطل، فكانوا بحق سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، بهم تحيا قلوب أهل الحق والإيمان، وتموت قلوب أهل الزيغ والخسران، فأنعم بهم من أصحاب أخيار ورجال أغيار، لذا وجب على أهل الإيمان في جميع الأمصار وعبر الأعصار أن يعرفوا لهم فضلهم ويرفعوا لهم شأوهم، لما لهم من قصب السبق في كل ميدان، ولما حازوا عليه من الفضل والإيمان.
وإن في ذكر نبذٍ من تراجم وسير هؤلاء الأصحاب، ما يثبت القلوب ويعين على التهذيب ويبعث على القدوة، وينفخ روح الحياة، وما حيي خلف إلا بحياة سلف، وما حياة السلف إلا بحياة تاريخهم ودوام ذكرهم.
هذا وكنا قد استعرضنا نتفاً من سيرة هؤلاء الرجال الأبرار، على غير قصدٍ منا في الترغيب والاختيار، وكان الحظ الأكبر في ذلك للرجال دون النساء، ولا يعني هذا تفرد الرجال بالمدح والثناء، وإنما باعتبار أن الكمال فيهم أكثر، وحيازة الفضائل من جانبهم أيسر وأوفر، ومع هذا فإن الكثيرات من نساء هذه الأمة بلغن في الفضائل والكمالات ما لم يبلغه رجال عبر الأجيال، كانوا في أعلى المراتب والمقامات.
وإذا جاز لنا أن نتحدث عن واحدة من النساء الفضليات، التي فاقت نساء العالمين في الخيرات والمكرمات، فليس لنا أن نتجاوز من كان حظها في السبق إلى تأييد الإسلام بالنفس والمال، والعطف والحنان، فأول مال وجده رسول الله هو مال خديجة وأول عطف وأول قلب انفتح لسماع كلمة النبوة هو عطف خديجة وقلب خديجة.
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، القرشية الأسدية، أم المؤمنين فخر النساء وزوج رسول رب العالمين، أول امرأة تزوجها، وأول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة.
كانت تدعى في الجاهلية الطاهرة، أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، تستأجر الرجال في مالها تضاربهم إياه.
ولما بلغها عن رسول الله ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه وعرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجراً على أن تعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، فقبل النبي ذلك منها، وتاجر في مالها، فأضعف وأربح، ونمى مالها وأفلح.
وكانت خديجة امرأة حازمة لبيبة شريفة مع ما أراد الله من كرامتها، فعرضت نفسها على رسول الله ، فذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه، فتزوجها رسول الله وهو ابن خمس وعشرين سنة وقيل إحدى وعشرين وقيل ثلاثين، وكان عمرها يومئذ أربعين سنة وقد تزوجت قبله برجلين، فولدت لرسول الله ولده كلهم إلا إبراهيم فإنه كان من مارية القبطية، وأكبر أولاده من خديجة القاسم وبه يكنى ، وعبد الله ويسمى الطاهر والطيب، وماتا قبل البعثة، أما بناته منها فهن رقية أكبرهن ثم زينب ثم أم كلثوم، ثم فاطمة وكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه ومن كرامتها عليه أنها لم يتزوج امرأة قبلها، ولم يتزوج عليها قط، ولا تسرى إلى أن قضت نحبها ولحقت بربها، فوجد لفقدها، وحزن النبي حزنا لم يحزنه من قبل ولا من بعد حتى سمي ذلك العام بعام الحزن.
وكانت رضي الله عنها رابطة الجأش، عاقلة مصونة، ثبتت جأش النبي لما فاجأة الوحي أول مرة في غار حراء، فرجع إليها يرجف فؤاده، يقول لها: ((زملوني لقد خشيت على نفسي))، فتتصدى له كما يتصدى الجبل الشامخ للريح العاصف، وكلها رزانة وتعقّل، وصبر وتحمل، لم تُفقدها شدة الصدمة وعيها، ولم يسلبها هول الموقف عقلها، شأن نسائنا عند المصائب اليوم تخمش وجهها، وتنسل شعرها، وتشكو ربها، وتضيع أجرها، بل نطقت بالحكمة، وقامت بالخدمة، قالت له: (كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).
فخففت بهذه الكلمات الطيبات، ما كان يجده النبي في نفسه في ثوان معدودات، ولم يجف ريقها رضي الله عنها من هذا الكلام حتى انطلقت مسرعة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، تنقل له خبر ما وقع لزوجها، لأنه كان امرأ تنصر في الجاهلية يكتب الكتاب العبراني والإنجيل، فطمأنها بأنه رسول هذه الأمة وأن الوحي قد جاءه كما جاء لموسى ومن قبله من الأنبياء.
وهكذا كان لخديجة شرف الإسلام الأول، وشرف العلم بالوحي المنزل وشرف احتضانها لرسول الله بعد الأمر الذي نابه، وتخفيفها لشدة الوطء الذي أصابه، وكان هذا دأبها معه حتى ماتت، قال ابن إسحاق: (وكان لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه إلا فرّج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس).
وقد حفظ لها النبي هذه الخدمة الجليلة، فكان يذكرها بها بعد موتها، وبين معاشر أزواجه، يغار عليها ويبالغ في تعظيمها ويثني عليها، قالت عائشة: كان رسول الله إذا ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناء عليها واستغفار لها، فذكرها يوماً، فحملتني الغيرة، فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن! قالت: فرأيته غضب غضباً، أُسقِطتُ في خلدى، وقلت في نفسي: اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء، فلما رأى النبي ما لقيت، قال: ((كيف قلت؟ والله لقد آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، ورزقت منها الولد وحرمتموه مني)) قالت: فغدا وراح علي بها شهراً. [السير 2/112 بسند حسن (الإصابة)].
وكان كثير الذكر لخديجة، لا يكاد يذكر لها عملاً وإن كان قليلاً، حتى يثني عليها خيراً ويقول فيها جميلاً، لا يمنعه من ذلك غيرة أزواجه لها، ومزاحمة عائشة عليها أحب النساء إليه بعدها، روى أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عائشة قالت: (ذكر رسول الله يوماً خديجة فأطنب في الثناء عليها، فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة، فقلت: لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، أي لقد أبدلك الله بعجوز مسنة حمراء الشدقين - كناية عن سقوط أسنانها حتى لا يبقى داخل فمها إلا اللحم الأحمر من اللثة وغيرها - بشابة بكر - تقصد نفسها - قالت عائشة: فتمعّر وجهه تمعراً ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى ينظر رحمة أو عذاباً.
ومن علامات تعظيمه لخديجة أنه كان يمضي عهدها القديم بعد موتها بين نسائه، ويسير بسيرتها المحمودة في علاقتها مع الأهل والجيران، وكأنها معه حاضرة كأحسن ما يعيش الزوجان، قالت عائشة: ما غِرتُ على أحد من نساء النبي ما غرت على خديجة وما رأيتها، ولكن كان يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاءً، ثم يبعثها في صدائق خديجة، وربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: ((إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد)).
وكم كان ينبعث من وجه رسول الله البشر والسرور، لما يحظى بزيارة صديقات لخديجة بعد أن لحقت بربها، فما هو إذا رآهن حتى يهتز له الخاطر ويطيب بذكرها، وتتحرك فيه الشجون عرفانا لفضلها وقدرها، خرج البخاري بسنده إلى عائشة قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله فعرف استئذان خديجة (أي شبه صوتها بصوت أختها فتذكر خديجة بذلك) فارتاع (أي أصابه الروع أي الفزع والمراد أنه تغير سروراً بذلك) فقال: ((اللهم هالة)) (يهش لها ويقدح بقدومها).
وخرج الحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب عن عائشة قالت: جاءت عجوز إلى النبي وهو عندي، فقال لها رسول الله : ((من أنت؟ قالت: أنا خثامة المزنية، فقال: بل أنت حلسانة المزنية، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله))! فلما خرجت قلت: يا رسول الله! تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟! فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان.
وهكذا فإن الجزاء من جنس العمل، فإنها رضي الله عنها لما قامت بنبي الله الذي هو زوجها خير قيام، وأحسنت إليه بإنفاقها من مالها عليه، ولم تتبرم من معاشرتها له مع طول المدة، بل لم تُسمعه ما يؤذي من قبيح الكلام وسوء الفعال. بل آمنت به وصدقته وثبتته وربت أولاده وصبرت على ما يلقاه من أذى قومه أحسن إليها النبي بعد موتها بدوام ذكرها والاستغفار لها والثناء عليها، فهل عملت زوجات اليوم بأزواجهن ما يستحقن عليه الثناء والذكر الجميل؟! وهل خديجات اليوم التزمن الأدب فأمسكن لسانهن عن العيب والقبيح؟! ذلك رجاؤنا ويتوب الله على من تاب.
|