أما بعد:
عباد الله: خير ما أوصيكم به ونفسي تقوى الله عز وجل، فالتقوى حصن حصين وحرز مكين من نزغات الشيطان ومن آفات النفس والهوى قال تعالى: إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون.
أيها الأخوة والأخوات في الإسلام: نلتقي اليوم مع هذا السؤال الهام في حياتنا وهو: أين هي طريق السعادة الحقيقية؟ هل هي في المال؟ أم في الجاه والسلطان؟أم هي في كثرة الأولاد؟ أم هي في الثقافة والعلوم؟ أم هي في شيء غير هذا وذاك؟
وفي الجواب عن هذا السؤال نقول: إن كل إنسان في هذه الحياة يبحث جاهداً عن السعادة ويريد الحصول عليها أو الوصول إليها بأي ثمن من الأثمان، وكثير من الناس يدعون أن السعادة لفظ لا حقيقة له، وخيال لا وجود له في عالم الواقع، ويظهر أن هؤلاء جاهلون أو مخادعون لأنه لا يعقل أن يخلقنا الله تعالى في هذا الكون الواسع الملئ بالخيرات والنعم، وهو يريد لنا جميعاً أن نشقى، حاشاه سبحانه، ونسأله تعالى أن يحفظنا من الشقاء، كيف وهو تعالى يقول لرسوله بسم الله الرحمن الرحيم: طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى ويقول سبحانه: فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى وهو تعالى يجعل الأشقياء أهل النار كما أخبرنا: فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق ويقول عز وجل: وسيجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى وقال سبحانه: كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها ويقول سبحانه حكاية عن أهل النار: قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماَ ضالين كما يجعل تعالى للجنة السعداء: وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السموات والأرض. ولكن أيها المسلمون يظهر أن السعادة موجودة، وهي بين يدي من يتقي الله ويطيعه، ولكن كثيراً من الناس عن الشعور بها والالتفات إليها غافلون.
ولقد عبر الطبيب المسلم المعروف ثابت بن قرة يرحمه الله عن الطريق الموصل إلى السعادة، وجمع ذلك في كلمات قليلة جليلة هي من خير ما يضع المسلم أمام بصره وبصيرته ليعيش عليها في حياته حتى يصل إلى السعادة المنشودة قال رحمه الله: راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة النفس في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلة الكلام.
يالها من كلمات نطقت بالحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب.
نعم - أيها المسلمون - لقد صدق هذا الحكيم اللبيب إن راحة الجسم في قلة الطعام لأن الجسم آلة وقودها طعامها، والوقود يجب أن يعطى بمقدار والجسم عندما يطلق له صاحبه العنان ليأخذ مشتهاه، يصير مصيبة على صاحبه، ومن ثم قال : ((نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع)) وقال : ((ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولابد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه))، وورد في الحكمة والمعدة بيت الداء، والحمية رأس الداء.
أما الكلمة الثانية من طريق السعادة فهي قوله: وراحة النفس قلة الكلام، لأن النفس أمارة بالسوء، وإذا تحررت النفس من الإيمان والطاعة لله عز وجل اتفقت مع الشيطان فعصت وفسقت وغشت وخدعت وظلمت وأسرفت، ولذلك كان أعدى أعداء الإنسان نفسه التي بين جنبيه إن استجاب لها في ما طلبت منه في معصية الله ورسوله قضت عليه وأهلكته وإن حال بينها وبين مشتهاها من البغي والإثم عادت بالخير إليه قال تعالى: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.
ولقد كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يدعو بهذه الكلمات الموضحة لخطر النفس والشيطان على الإنسان:يا رب خلقتني وأمرتني ونهيتني ورغبتني في ما أمرتني به، ورهبتني عقاب ما نهيتني عنه، وسلطت علي عدواً فأسكنته صدري، وأسكنته مجرى دمي، إنْ أهمُّ بفاحشة شجعني، وإنْ أهمُّ بطاعة ثبطني، لا يغفل إن غفلت، ولا ينسى إن نسيت، ينصب لي في الشهوات ويتعرض لي في الشبهات، وإلا تصرف عني كيده يستزلني اللهم فاقهر سلطانه علي بسلطانك عليه حتى تخسه بكثرة ذكري لك فأفوز مع المعصومين بك ولا حول ولا قوة إلا بك.
والكلمة الثالثة: راحة القلب في قلة الاهتمام، أي في قلة الهم والخوف والحزن، لأن القلب الضعيف الجبان يفتح على صاحبه أبواب الهم والحزن، وخاصة إذا كان القلب مهتماً بالدنيا وحدها سائراً في طريق المعاصي والمحرمات، ونعمة الراحة للقلب لا يفوز بها إلا صاحب القلب الثابت مع الرضا بالله حظاً ونصيباً، ومن هنا كان الرسول يكثر من قوله في دعائه: ((اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)).
ومتى ثبت القلب على دين الله، واعتصم بحبل الله، ولجأ إلى حمى الله، فقد أوى إلى ركن تدبر، والإسلام يُعلم أهله أمن النفس، وطمأنينة القلب، فيقول القرآن في صفة المؤمنين: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب، ويأمرهم بالابتعاد عن الحزن وأسبابه فيقول تعالى: ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.
وقال تعالى في صفة أولياء الله تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ويصف تعالى العباد المستقيمين بأنهم لا يخافون ولا يحزنون، فيقول عز وجل: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون.
فلنهتم بما يهمنا، وهو لقاء الله عز وجل، ولنعد العدة يا مسلمون ليوم يشيب فيه الولدان، وتنفطر فيه السموات وتدك الأرض دكا. ومع الأسف يا مسلمون لقد اهتم الكثير منا بالدنيا وبأطماعها وأغراضها ومصالحها. أمّا الآخرة فنحن عنها غافلون، ألا نخشى أن نكون من الذين قال الله فيهم: يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا.
نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين، وبحديث سيد الأولين والآخرين، وأجارني وإياكم من عذابها المهين، وغفر لي ولكم ولسائر المسلمين.
|