أيها المسلمون:
جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، رجل أعمى فاقد البصر، لكنه نير البصيرة.
وهناك عمىً لا طبّ له ولا دواء، وهو عمى القلب أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكّر أولو الألباب [الرعد:19]. والعمى هنا عمى القلب.
أما الذي وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام، فرجل عميت عيناه، فأبصر بقلبه.
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
وقال آخر:
قلبي زكي وعقلي غير ذي عوجٍ وفي فمي صارمٌ كالسيف مسلول
هذا الرجل الذي وفد على رسول الله عليه الصلاة والسلام، كان منارة من منارات التوحيد، قتل في المعركة، وقد استثنى الله العميان من حضور المعارك، أما هو فقد باشر القتال، وقتل شهيداً في سبيل الله.
ذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله أنا رجل أعمى، وبيني وبين المسجد وادٍ مسيل، وأنا نائي الدار، وليس لي قائد يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي.
فرأى عليه الصلاة والسلام المشقة، رأى العذر واضحاً، فقال: نعم، ثم ولّى الرجل، فانتبه عليه الصلاة والسلام كالذي نسي أمراً ثم تذكره، فقال: علي به، ماذا تذكر عليه الصلاة والسلام؟ ما هو الأمر الذي طرق أحاسيسه، وأعاد الأعمى من أجله ؟ إنها فريضة الجماعة، فقال للرجل: ((هل تسمع النداء بالصلاة؟)) قال: نعم، قال: ((فأجب))، وفي رواية: ((لا أجد لك رخصة)).
إنني لا أستطيع أن أرخص لك في ترك الجماعة، ولو كنت أعمى، ولو كان بينك وبين المسجد وادٍ مسيل، ولو لم يكن لك قائد يقودك، ولو كان ما كان، ما دمت تسمع النداء، ويصل إلى قلبك هذا الوعي الرباني، أجب فإني لا أجد لك رخصة.
هذه ذكرى للمتخلفين عن صلاة الجماعة، الذين ألهتهم أموالهم وأهلوهم عن ذكر الله، يجاور أحدهم المسجد ولا يزوره، ولو مرة واحدة في اليوم، ثم بعد ذلك يتشدق بإسلامه، وبعقيدته الصحيحة، وربما ردّ على الدعاة وطلبة العلم!!.
روى أحمد وابن ماجه والحاكم، وصححه عبد الحق الأشبيلي، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: ((من سمع النداء لم يأته فلا صلاة له إلا من عذر)).
أخذ المحدثون بهذه الأدلة فأوجبوا صلاة الجماعة، وأخبروا أنها لا تسقط إلا بعذر شرعي؛ من مرض ونحوه.
صف الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه لصلاة العشاء، فوجد الصفوف قليلة، فقام مغضباً وهو يقول: ((والذي نفسي بيده، لقد هممت بالصلاة فتقام، ثم آمر بحطب فيحتطب، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا فأحرّق عليهم بيوتهم)).
وزاد أحمد: ((لولا ما في البيوت من النساء والذرية)).
فقد هم أن يحرّق على المتخلفين عن الجماعة بيوتهم، وهذا من أعظم الزجر على ترك هذه الشعيرة العظيمة.
ورأيت في ترجمة رجل صالح أن صلاة الجماعة فاتته، وما فاتته منذ أربعين سنة، فندم ندماً عظيماً، وتأسف أسفاً بالغاً، ثم قام يصلي وحده، فصلى سبعاً وعشرين صلاة، لأنه سمع حديث النبي : ((صلاة الرجل في جماعة تفضل عن صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)). فصلى الصلاة التي فاتته سبعاً وعشرين مرة، ثم نام، فرأى في المنام خيّالةً يركبون على خيول، عليهم ثياب بيض، ثم رأى نفسه على فرس وحده، يحاول أن يلحق بهم فلا يستطيع، فيضرب فرسه ليدركهم فلا يقدر، ثم التفتوا إليه وقالوا: لا تحاول، نحن صلينا في جماعة، وأنت صليت وحدك!!.
وكان عليه الصلاة والسلام يحثّ الأمة على صلاة الجماعة، وكان الصحابة يعتقدون أنه لا يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النفاق.
وكان عبد الله بن مسعود يقول: (ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدو، لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان)).
لما حضرت سعيد بن المسيب عالم التابعين الوفاة، بكت ابنته عليه، فقال له: لا تبكي علي يا بنيّة، والله ما أذن المؤذن من أربعين سنة إلا وأنا في المسجد.
من أربعين سنة، لا يؤذن المؤذن إلا وسعيد بن المسيب في المسجد ينتظر الصلاة، ينتظر النداء ليصلي مع المسلمين.
وكان الأعمش يقول: والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الجماعة خمسين سنة.
فكيف لو علم هؤلاء الأخيار بالذين يختلسون الصلاة، وينقرونها نقراً، ولا يتمون ركوعها ولا سجودها، كيف لو رأوا الأحياء وقد امتلأت بالسكان، ومع ذلك لا يصلي الفريضة في المسجد إلا الصف والصفّان.
أين هؤلاء الأبناء الثمانية أو السبعة في كل بيت؟ أين الشباب الذين نراهم وقد طفحت بهم السكك والأرصفة؟ أين الأجيال الذين نشاهدهم في النوادي والمدرجات والمنتديات؟
وجلجلة الأذان بكل حـي ولكن أين صوتٌ من بلال
منائركم علت في كل ساحٍ ومسجدكم من العُبّادِ خالي
هذا إقبال شاعر الإسلام، يفتخر بالصحابة الذين فتحوا الدنيا بلا إله إلا الله فيقول:
نحن الذين إذا دُعـوا لصلاتهـم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمراً
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الـروح الأمين فكبـرا
يروى عنه عليه الصلاة والسلام عند الترمذي أنه قال: ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان)).
نحن شهود الله في الأرض، ولا نشهد بالإيمان إلا لمن يصلي معنا في المسجد كل يوم خمس مرات، أما رجل قريب من المسجد ثم تفوته الصلاة مع المسلمين فلا نشهد له عند الله يوم القيامة.
ما معنى لافتة الإيمان التي يدعيها أقوام، ثم هم لا يحضرون الصلاة في الجماعة؟ ما معنى الإيمان؟ وما قيمة الصلاة في حياتهم؟ ثم إذا أمرت أحداً من هؤلاء أو نهيته زعم بأنك تتهمه بالنفاق!!.
إن الصحابة – رضي الله عنهم – كانوا يتهمون المتخلف عن الجماعة بالنفاق، يقول ابن مسعود : ولقد رأيتنا، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق.
فأي دين لهؤلاء الذين لا يعمرون المساجد؟ وأي إسلام لمن يسمعون النداء ثم لا يجيبون؟
أحد المفسرين قال في معنى قوله تعالى: إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون [الصافات:35]. قال: هي في الذين لا يحضرون الصلاة في الجماعة!!.
فأين الأجيال ؟ وأين شباب الأمة؟ والمساجد خاوية تشكوا إلى الله – تبارك وتعالى-؟
كان عمر الفاروق إذا سمع النداء أخذ درّته فضرب بها الأبواب وقال: رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين [القصص:17].
كيف ترتقي أمة لا تحسن المعاملة مع الله – عز وجل -؟ كيف تفلح أمة لا تقدّس شعائر الله؟ كيف تكون صادقة في الحرب، أو في التعليم، أو في التصنيع، أو في الحضارة، وهي لا تتصل بربها في صلاة فرضها الله عليها؟
لقد اتهم أهل العلم من تخلف عن الجماعة بالنفاق والبعد عن الله – تعالى – وأوجب المحدثون الجماعة، وجعلها بعضهم شرطاً في صحة الصلاة.
فيا عباد الله:
كم تأخذ صلاة الجماعة من أوقاتنا، تلكم الأوقات التي أضعناها في الأكل والشرب، والنوم، والمرح، إنها دقائق معدودة، يرتفع فيها المؤمنون، ويسقط الفجرة والمنافقون، بها يعرف أولياء الشيطان، بها يتميز المؤمن من المنافق.
فحافظوا – رحمكم الله – على هذه الصلوات حيث ينادى بهن، عمّروا المساجد، وتسابقوا إلى الصفوف الأولى، واعلموا أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|