أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن العبد المسلم عليه أن يخرج بعد كل عبادة يؤديها بأثر محمود يظهر على نفسه، وقد أثبت الله تبارك وتعالى الأثر المحمود للعبادات فقال في حق الصلاة في سورة العنكبوت: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال في فضل الزكاة وأثرها على تطهير النفس في سورة التوبة: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وقال في حق الصيام في سورة البقرة: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون وكذا ثبت الأثر المحمود للحج من خلال ما قاله الله تعالى عن الدروس المستفادة والأمور المعتبرة من خلال الحج حيث أحاط كل أمر من أموره بالتقوى وأمر بها في كل حالاته وأمر بالإكثار من ذكره في كل حاله، وفي الحج كذلك صبر على احتمال المشقات وتعاون على البر والتقوى وزيادة واشتداد آصرة الأخوة والمحبة في الله تبارك وتعالى، فإذا تكلمنا على هذه الدروس المستفادة، وبدأنا بالحديث عن التقوى نقول إن الله تبارك وتعالى قال في نهاية أول آية من آيات الحج في سورة البقرة: واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب وقال في الآية الأخيرة من آيات الحج في هذه السورة: واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون عدا ما ذكره من الأمر بالتقوى في ثنايا الآيات الآخر. وقال في سورة الحج في آياته: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب فالحج يُعوّد على ملازمة التقوى، والتقوى هي وصية الله للأولين والآخرين. قال: الله تعالى في سورة النساء: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله. وأوصى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم معاذاً وأبا ذر فقال لهما رضي الله عنهما - قال لكل واحد منهما كما أخرجه الترمذي بسند حسن وأخرجه الحاكم قال لكل واحد منهما: ((اتق الله حيثما كنت)): أي في سرك وعلانيتك. وقال أبو هريرة فيما أخرجه الإمام أحمد والترمذي وصححه ابن حبان، قال إن رسول الله سُئل ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: ((تقوى الله وحسن الخلق)).
والتقوى أيها الأخوة الكرام هي فعل المأمور واجتناب المحظور ومن زاد أن يتقي المكروهات ويفعل المندوبات فذلك الذي أحرز سبقاً بعيداً.
هذه هي التقوى أن تستشعر قرب الله منك وأن تستحضر إطلاعه عليك كما كان رسول الله يدعو ويقول: ((اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة))، أي في السر والعلانية، تخشاه في ظاهرك وباطنك وسرك وعلانيتك على نحو واحد. وقال أبو هريرة لرجل يصف التقوى: هل سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم، قال: كيف تصنع؟ قال: أحيد عنه وأتقيه، قال أبو هريرة: كذلك التقوى، ومن هاهنا أخذ ابن المعتمر فقال:
خل الذنوب صغيرها وكبيـرهـا ذاك التـقـي
واصنع كمـاشِ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقـرن صغيـرة إن الجبـال مـن الحصـى
وقال الحسن البصري – رحمه الله – ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة أن يكون حراماً.
هكذا ويقول ابن السماك:
يا مدمن الذنب ألا تستحـي والله في الخلوة ثانيك
غرّك مـن ربك إمهـالـه وسـتره طول مثاويك
فهذا درس عظيم مستفاد من دروس الحج، ملازمة التقوى.
كنت بين الناس تتقي الله عز وجل وتحرص على أن تكون في أحسن حالات العبد مع الله تبارك وتعالى. إذا تعودت على ذلك فالزمه بعد الحج، واجعله أثراً من آثاره المحمودة على نفسك.
وأما الأثر الثاني: فهو ملازمة ذكر الله تبارك وتعالى. إذ أمر الله تبارك وتعالى في الحج بالإكثار من ذكره وملازمته، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً ويقول: واذكروا الله في أيام معدودات ويقول: ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.
وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي الدرداء بسند حسن. أن النبي قال: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من أن تعطوا الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله)).
وقد أمر الله تبارك وتعالى بالإكثار من ذكره فقال في سورة الأحزاب: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وروى الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود عن النبي قال: ((ما من قومٍ يجلسون مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيه إلا كان عليهم ترة)) – أي حسرةً وندامة ومسئوليةً عظيمةً يسألون عن ذلك يوم الحساب، قال: ((فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)).
ذكر الله تبارك وتعالى والذي أمرنا بالإكثار من ذكره، وقد تعودنا عليه في الحج، كنا نقول من مطلعنا: لبيك الله لبيك، فلما انتهينا أخذنا في التكبير، الله أكبر الله أكبر، فلما قضينا فريضة الحج أُمرنا كما يؤمر كل منتهي من عبادةً أن نُكثر من استغفار الله عز وجل. وهذا كله يعوِّد الحجاج على ملازمة ذكر الله تبارك وتعالى فعليهم أن يحرصوا على ملازمة هذا الأمر الجليل الذي تعودوه فلا يحرموا أنفسهم من ذكر الله تبارك وتعالى قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم وفي مجالسهم كلها، وعليهم ألا يحرموا أنفسهم من هذا الفضل العظيم والخير الجزيل والمآل الكريم عند الله تبارك وتعالى. قال النبي فيما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: ((سبق المفردون؟ قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)).
وأما الصبر على احتمال المشقات فهذا أمر غير خافٍ، حيث احتمال الحرارة والعرق الغزير والماء الذي لو نظر الإنسان إلى أسفل الخزانات مثلاً لم يشربه، لكنه يصبر في هذه الأيام على هذه المشقات ليعلم ما هو فيه من نعم في مقامه وفي حياته العادية الهنيئة السعيدة وليعرف ما فيه إخوانه ممن قلل الله تبارك وتعالى مصادر رزقهم ونعماهم فلم ينعموا بما نعمنا به نحن، وليعرف الإنسان ما ينتظره الفاجرون المارقون يوم القيامة إذ أقلهم عذاباً من توضع تحت أخمص قدميه جمرتان من نار تغلى منهما دماغه. كلما تعرض الإنسان لحَر أو تعرض لمشقة من المشقات عادت عليه هذه المشقات بهذا الدرس وهذه العبرة المستفادة.
ثم يتعود الإنسان كذلك على البر والتقوى من خلال اختلاطه بإخوانه، فيتعاون كل منهم على ما يحتاج إليه إخوانه الآخرون وما يصلحهم وتشتد آصرة المحبة والأخوة في الله تعالى من خلال هذا التعاون.
هذه دروس مستفادة ملخصة موجزة على من أدى فريضة الحج أن يلزمها وأن يظهر أثرها عليه كما أن على كل من أدى عبادةً أن يظهر أثرها المحمود عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
|