.

اليوم م الموافق ‏11/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

صورة للمواجهة بين الكفر والإيمان

1517

العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير, قضايا دعوية

محمود بن عمر مشوح

الميادين

17/12/1975

أبو بكر الصديق

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- نيل الأعداء من الدعوة بألسنتهم ينبغي أن لا يفت في ضد الرعاة. 2- معنى الهجر الجميل. 3- الله يتولى الدفاع عن دينه ويرد أعداءه ويخذلهم. 4- وعيد الله لأعداء دينهم ولو بعد حين. 5- صور من عذاب الكفار يوم القيامة 6- عيب الطواغيت أنبياءهم بالفقر ورقة الحال. 7- صور المشابهة بين فرعون وأبي جهل.

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها الأخوة المؤمنون: كنا في الأسبوع الفائت نتحدث إليكم عن بعض ما يوحيه قول الله تبارك وتعالى خطابًا لنبيه عليه الصلاة والسلام إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً إن ناشئة الليل هي أشد وطئًا وأقوم قيلاً واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً.

يقول الله تعالى بعد خطابًا لنبيه عليه الصلاة والسلام: واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلاً وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً إن لدينا أنكالاً وجحيمًا وطعامًا ذا غصة وعذابًا أليمًا يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبًا مهيلاً إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدًا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذًا وبيلاً فكيف تتقون إن كفرتم يومًا يجعل الولدان شيبًا السماء منفطر به كان وعده مفعولاً إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً.

ذرونا ننظر بما ينبغي من الأناة في هؤلاء الآيات, يقول الله تعالى موجهًا رسوله إلى الطريقة المثلى التي يجب أن يعامل بها المخالفين واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلاً, الصبر على ما يقول المخالفون واجب لمظاهر يعرفها الخاص والعام, وهي أنك في كل الأحوال لا تستطيع أن تضع قفلاً على أفواه الناس, فالناس إذا لم يكن لهم عصام من التقوى, فهم يتكلمون بما شاؤوا بالحق وبالباطل, هذا شأن.

وشأن آخر يتعلق بالنبي والمؤمنين, وبالدعاة عمومًا, إن كلام المخالفين يجب أن لا يشكل عقبة تحول دون اطراد السير, فالصبر عليه هنا واجب, إن لم يكن واجبًا في شريعة الأخلاق فهو واجب وفقًا لقوانين الحركة والسير, والله جل وعلا في مواطن عدة من كتابه المنزل على نبيه صلى الله عليه وآله ينبه إلى ما سيكون من عقبات في مواجهة الدعوة, يقول الله تعالى: لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيرًا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور, أي أن عزائم الرجال ينبغي أن لا تحول دون مضيها أقاويل المخالفين, فالمخالف من شأنه أن يتحدث كيف شاء, وفي الوقت الذي يشاء, دعه فالكلام لا يزال يشكل تشميتًا, ويشكل أذى, هذا أمر واقع.

ومن الممكن أن يستمر, هذا التشميت وقتًا طويلاً؛ لأنه ليس من شأن بسطاء الناس وعامة الناس أن تعرض كل ما تسمع على قضية العقل, فهي تأخذ غالبًا بهذا الذي تسمع بقطع النظر عن امكان معقوليته وعدم امكانيتها, وبقطع النظر عن نوعية القائل, أهو إنسان يوثق بما يقول؟ أو هو إنسان لا يبالي بما يقول؟ بل يلقي الكلام على عواهنه وكيفما اتفق؟.

من هنا لا يجوز أن نهون من قيمة الشائعات, ولكن عدم التهوين من هذه القيمة ليس بالتقوقع وليس بإيلاء هذا الأمر أكثر مما يستحق, الزيف يتحقق بمجرد عرض الحقيقة, حينما نعرض الحقيقة عارية من أي لبوس فإن الزيف يبدو هناك زيفًا لا يقوم على ساق صحيحة, ولا على ساق عرجاء, فالواجب إزاء هذا الاستمرار والسير أبدًا, مع الصبر على ما يقوله المخالفون.

واصبر على ما يقولون ثم ليس فقط واصبر على ما يقولون, وإنما واهجرهم هجرًا جميلاً, هذه النقطة يجب أن ننتبه لها, ماذا يعني الهجر؟ في لغة العرب هو الترك, هذا شيء يعرفه الخاص والعام, والجميل هو الأنيق المحبَّ غير المؤذي, الأنيق المحبب غير المؤذي, واضح أن الجملة واهجرهم هجرًا جميلاً حوت معنيين يكادان في الظاهر أن يتناثرا وأن يتدافعا, فكيف يكون الترك جميلاً ومحببًا إلى الأنفس وغير مؤذ؟ كيف يكون؟ هنا موضع الاعجاز في في الكلام الإلهي لهذا اللفظ الوجيز, أوجز الله جل وعلا أرفع نماذج السلوك التي تحقق الانسجام والتأثير مع المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان في الوقت الذي يستنقذ فيه قضية الحقيقة دون أن تتلوث بأشواء هذا المجتمع.

الغفلة عن هذه المسألة سبب أحد أمرين في واقع السلوك الإسلامي:

الأمر الأول: هم الذين أخذوا الهجر بمعناه العام والأولي والبسيط, وعندهم أنه لمجرد أن تسلم لله وجهك وتسير معه في الطريق الذي اختطه لك فعليك أن تقطع العلائق بينك وبين الآخرين ضربة لا زب.

والأمر الثاني: الذي تبلور في السلوك, الغفلة عن كل شيء والاندماج المطلق في المجتمع وقبوله على ما فيه من خير ومن شر.

وكلا السلوكين خطأ؛ الهجر الجميل يعني أن لاتلابس من حولك في ما يغضب الله تبارك وتعالى, وأن لا تعين من حولك على ما يغضب الله تبارك وتعالى, وأن لا تساعد هذا المجتمع في شيء يتنافى مع أهدافك, مع قضايا دعوتك التي تحملها, ولكن مع الحفاظ على الرابطة الإنسانية التي تشد الناس جميعًا بعضهم إلى بعض, مسلمهم وكافرهم على سواء.

لأية غاية؟ هل لغاية المداراة والمجاملة والمصانعة؟, لا, سلوك المسلم أبعد ما يكون عن هذه الرجرجة الموقوته, ولكن لإبقاء النافذة الوحيدة التي يمكن أن تنفذ منها إلى قلوب الناس, وإلى عقول الناس, وإلى مشاعر الناس, أي الإبقاء على الوسيلة التي لا غيرها, والتي يمكن أن تكون في مجتمعك بواسطتها عنصرًا فعالاً ومؤثرًا.

الهجر الجميل هو أن لا تعين غيرك ممن يخالفك في المتجه والمعتقد في شيء مما يغضب الله, ولكن مع الإبقاء على علائق المودة وعلائق المحبة وعلائق التضامن القائم بين أعضاء المجتمع, أن لا تلق الناس بهذه النفسية المظلمة العابسة, ولا تلقاهم بهذا القلب الأسود الذي يستشري حقدًا, ويأكله هذا الحقد من جميع جوانبه بل تتقدم الإصلاح هذا المجتمع بالقلب المغمور بالمودة والمحبة والرغبة في إيصال الخير إلى الناس وتحفظ كل العلائق التي أمكن حفظها دون مساس بجوهر رسالتك وأسس عقيدتك.

أن تكون مسلمًا, هذا لا يعني بتاتًا أن تكون سيء الطبع شرس الخلق, هذا شيء, وذاك شيء آخر, وهجرك للمخالفين مع إبداءهم للتسويف المستمر وأخذهم بهذا النهج غير الأخلاقي لا يعني كذلك تقطيع العلائق بينك وبينهم.

أرأيتم كيف كان سلوك النبي مع المخالفين, جهر بالدعوة دون مداراة ودون جلجة, ودون خوف, وعلنًا وتحت وهج الشمس وأبقى على كل العلاقات التي أمكن أن تبقى, كان يغشى مجالس الناس, وكان يزور الناس, وكان يلقاهم بالبشر, وكان يلقاهم بالمودة, ذات يوم مر النبي طائفًا بالكعبة, وهذا في أوليات الدعوة, فلما مر تغامز القوم وسخروا من رسول الله وأسمعوه قارص القول, فأعرض فطاف فسمع مثل ذلك عددًا من المرات ثم التفت إليهم وقال ((يا معشر قريش: تسمعون والله لقد جئتكم بالذبح)) وأشار إلى حلقه, فكان أشد الناس عداوة له يحاول أن يرفأه بأحس ما يجد من القول, قاموا إليه يهدؤنه ويقولون له: يا محمد والله ما كنت جهولاً, كلمة واحدة ((لقد جئتكم بالذبح)), ذلك أقصى ما قاله النبي فكانت غريبة غريبة هذه اللفظة القوية من إنسان عرف في كل حياته بأنه على غاية, ما يمكن أن يكون الإنسان من السماحة والطيب فالنبي عليه الصلاة والسلام عنوان الهاجرين للمجتمع, ولكن بالهجر الجميل, والهجر الجميل هو أن تبديّ ما عندك وأن تدعو إلى هذا الشيء الذي أنت مكلف بالدعوة إليه دون أن تحطم كل علاقة بينك وبين الناس.

انظر إليها في ضوء القانون الأخلاقي, تجد بأن العنف والشراسة وبذاءة القول وسوء الطوية شيء يتنافى مع أوليات القانون الأخلاقي, والنبي عليه الصلاة والسلام يقول لعائشة رضي الله عنها إثر كلام سمعه من بعض الناس يقول لها: ((يا عائشة, لو كان العنف رجلاً لكان رجل سوء)), فالنبي عليه الصلاة والسلام ما خير بين أمرين, وما وقف في مفترق طريقين إلا اختار أيسرهما وأرفقهما ما لم يكن فيه إثم أو مغضبة لله تبارك وتعالى, فإن يكن ذلك كان أبعد الناس منه, هذا هو معنى الهجر الجميل.

الهجر الجميل أن لا تلابس المبطلين في باطلهم, ولكن هذا لا يمنع من أن يبقى بينك وبينهم حبل الود موصولاً, فلو أنك وضعت الأمر تحت قانون الحركة والسير لوجدت أن العنف والعنفوان يعطلان الحركة ويقضيان على السير من أول الطريق, فالرجل الذي تلقاه وأنت غاضب وأنت مشمئز, وأنت تحمل في صدرك الضغينة التي لا تنتهي لا يمكن أن تتفتح لك مغاليق قلبه بحال من الأحوال, فحين نسمع الله جل وعلا يوجه نبيه هذا التوجيه الحكيم واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلاً نلحظ أمرًا:

نلحظ أن الله جل وعلا يقيم نبيه عليه الصلاة والسلام والمؤمنون معه على القاعدة الأخلاقية المثلى ويوجههم نحو الطريقة التي تضمن انفتاح الأسماع والأبصار والعقول والقلوب لهذه الدعوة, فهي توجيه حكيم واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرًا جميلاً.

لكن الكلام هنا في عمومه يبقى ناقصًا إن نحن حذفنا النظر فيما يأتي من الآية الأخرى يقول: ذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً, تصوروا لو تصورنا أن الله تعالى قال: وذرني والمكذبين, ماذا يكون الأمر, نكون قد وقعنا في شيء من الخلف في الكلام, التناقض في القول وعدم انسجام أجزاء الحقيقة التي نعرضها؛ هناك قلنا: إننا لا نلابس المجتمع المبطل الجاهلي في باطله, وفي جاهلياته, ولكنا نحمل للناس من حيث هم ناس المودة والمحبة ونرغب في أن نشترك وإياهم في حمل أعباء الدعوة, ونحرص أن تبقى قلوبهم معنا, وهنا يقول الله وذرني والمكذبين, لو وقفنا عند هذا الحد, المكذبون كما تعلمون كانوا عامة قريش, بل عامة العرب, بل عامة الدنيا, فحين يقول الله وذرني والمكذبين أي اتركني وهؤلاء المكذبين أنا أدبر شؤونهم, وأنا أنتقم منهم, وأنا أذيقهم العذاب والأنكال, فأين ذهب جمال الخُلق, وأين ذهبت هذه العلاقة التي ركزنا على ضرورة المحافظة عليها؟ ينحل الإشكال حين نلحظ القلب الذي جاء في الكلام, المكذبون في الكلام كذبوا لأنهم أولو النعمة وأولوا النعمة هم المتنعمون.

هنا انسحبوا من ذلك الجو التاريخي البعيد, وتعالوا إلى أي جو معاصر وانظروا في المجتمع المعاصر, وفي كل مجتمع, المكذبون أولاً ليسوا بسطاء الناس, وليسوا حتى أوساطهم, وإنما هم القمة في المجتمع, هم المنعمون, هم المترفون, هم كبار أصحاب الامتيازات التي تهدد الدعوة مراكزهم وامتيازاتهم, هؤلاء دائمًا قلة في المجتمعات, هؤلاء لا يمكن أن ينقادوا إلى الحق, ولا يمكن أن ينصاعوا للحجة إلا بعد أن تفلس كل امتيازاتهم, وتذهب أدراج الرياح, نحن لا نستطيع بالنسبة لمسار الدعوة الإسلامية, وليكن هذا مفهومًا وواضحًا, لا نستطيع وفقًا لقوانين الدعوة أبدًا أن نحفظ للجاهلين امتيازاتهم, هذا غير معقول, فالدعوة الإسلامية بما هي دعوة عامة وشاملة تنسجم مع كل الحياة البشرية لتؤثر فيها وتغيرها, لا يمكن أن تبقي على الأوضاع على النحو الذي هي عليه, سوف تنظم المجتمعات البشرية في ضوء قوانينها, وفي ضوء شرائعها وتوجيهاتها وآدابها, ومن المعقول بل من الحق في مجتمع كهذا أن يكون العالي نازلاً, والنازل عاليًا, أي أن تغيرًا جوهريًا لابد أن يدخل في المجتمع من جراء تطبيق شرائع الإسلام.

هؤلاء الناس الذين لهم امتيازات سابقة نشأت في ظل مجتمعات جاهلية وأوضاع جاهلية ينبغي أن يكون مقررًا أن الإسلام لا يدغدغ غرائزهم ولا يشتري ولائهم بالحفاظ على امتيازات تصطدم  مبدئيًا وأساسًا مع قوانين المجتمع المسلم, هؤلاء إذًا سيظلوا مكذبين لو جئتم بالحجج صباح مساء, فسوف يردون عليك حججك كائنة ما كانت, وصدق الله العظيم ولو أتيت الذي أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير.

إذا فالقلة التي تعيش على مأساة البشرية فقط, هي التي يتهددها الله جل وعلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً, دع الدعوة تسير بإذن الله جل وعلا, وانتظر ماذا سيحل بهم, وبالفعل مضت الدعوة في طريقها غير آبية بهذه الكلاب التي كانت تنبح من حواليها, حتى إذا كان يوم بدر ألقي أولو النعمة مجرورين بأرجلهم في القليب, قليب بدر, ووقعت الواقعة في صف المشركين وتساءل المتسائلون أفلان وفلان يقتلون ويلقون في القليب؟, شيء يفوق التصديق, ولكن الله جل وعلا حقق لنبيه عليه الصلاة والسلام موعده, فألقى هؤلاء في القليب وفقًا لمصارعهم التي صرعوا عليها بتكذيبهم وبعنادهم وبتأليبهم على دعوة الحق النازلة من عند الله تعالى.

هذا كان في الدنيا وذلك قانون محفوظ كما تشرق الشمس من المشرق لتسقط في المغرب, كذلك فإن الباطل مصيره إلى التدمير؛ لأنه في نسيجه يحمل جراثيم الفناء والموت, كذلك فالله جل وعلا موقع هذا بالمبطلين بلا ريب. أما في الآخرة فالله جل وعلا يقول: إن لدينا أنكالاً وجحيمًا وطعامًا ذا غصة وعذابًا أليمًا, في الآخرة الأنكال جمع نِكلّ وهو ما يربط به الإنسان قيدًا أو ما يشبه القيد, والجحيم هي النار الجاحمة الشديدة التلهب والوهج والحرقة وطعامًا ذا غصة, الطعام هو عصارة أهل النار وما يشبه ذلك وذو الغصة هو الذي يعلق في أصل الحلق لا يتزحزح, لا يخرج فيريح, ولا يتبلع فيريح وعذابًا أليمًا, ذلك في الآخرة وعد غير مكذوب ينال المجرمين من الله تبارك وتعالى متى يكون ذلك يقول الله : يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبًا مهيلا, هذا يكون يوم ترجف الأرض والجبال, وكانت الجبال كثيبًا مهيلاً, انظر إلى هذا الحائط, انظر إلى الجبل الصم, انظر إلى الصخر الأصم, ألست تجده قاسيًا شديد القساوة, بلى, ماذا يكون شأنه يوم القيامة كثيب مهيل, والكثيب هو الصخر الذي فتت حتى أصبح كذرات الرمل وأزيل بعضه على بعض, هذه الأعلام الشوامخ, هذه الجبال المنصوبة إذا جاء وعد ربك جعلها الله تعالى كرمال, كالرمال تتفتت وتصبح ككثبان الرمال في ذلك الوقت ينال المكذبين ما ينالهم, يقول الله: إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدًا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذًا وبيلاً.

لاحظوا أيها الأخوة وأنتم تقرأون القرآن, جاء في القرآن من قصص الماضين الشيء الكثير, قصص الأنبياء, قصص الأمم التي كذبت الأنبياء, العبرة المستقاة والمستفادة من سياقة هذه القصص جاء الشيء الكثير.

لكن الناظر في القرآن يلاحظ أن قصة موسى وفرعون ترددت في القرآن عددًا أكبر من المرات, لابد من سبب ومن علة, لماذا يقول الله باستمرار ما حصل من فرعون تجاه موسى؟ لاحظوا مواقف فرعون مع موسى, تجدونها تتشابه إلى حد بعيد مع مواقف المشركين, بل زعماء المشركين مع رسول الله , إن فرعون أعرض ونأى بجانبه, جاءته الدعوة فمنَّ على موسى ألم نربك فينا وليدًا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت, منه على موسى عليه السلام بأن ربي في بيت فرعون وكذلك مُنّ على رسول الله وعيّر بأنه اليتيم الذي آوته قريش, وأطعمته قريش, وكذلك فرعون يتأبى ويرى أنه خير من موسى أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين, كذلك فأبوجهل وأضراب أبي جهل من عتات قريش ومن صناديد المشركين كانوا يرون أنفسهم خيرًا من محمد , بل يصرحون بهذا بلا تحرج, وبلا حياء, وكذلك فرعون يرى أن موسى لا مجال لأن يسمع له أليس هو أي فرعون الحاكم والمتصرف والذي يملك كل الخيرات, والذي يملك أن يعطي ويمنع وأن يقيد يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون كذلك قالت قريش, رأت محمدًا عليه الصلاة والسلام رجلاً فقيرًا قليل ذات اليد وهم الذين يملكون الثروة ويجوبون أطراف البلاد بالتجارة ويسوقون العير على كل مكان, ومحمد لا يملك من هذا نقير.

وكذلك الغيرة ففرعون كان يغار من موسى, كيف يختصه الله جل وعلا بهذا الخير الذي منح له من الله, ويترك فرعون وذلك ما كان يقال لرسول الله قالوا ألم يجد الله رجلاً يرسله غيرك, وقالوا: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك, هم كانوا يتصورون أن يتنزل القرآن على زعيم من زعماء مكة, أو على زعيم من زعماء الطائف ناسين أن القيمة للمعنى الإنساني أولاً, وللاختصاص الإلهي أولاً وأخيرًا, والغيرة ذاتها هي التي دفعت أبا جهل إلى أن يستمسك بهذا الموقف العنيد الذي أورده مورد الهلاك ذات يوم جاءه رجل من خلصائه قال له يا أبا الحكم ـ وكذلك كان اسمه قبل أن يسميه رسول الله أبا جهل ثم تلبس هذه التسمية إلى آخر الدهر ـ ألا يا أبا الحكم ألا تسمع ما يقول محمد إنه والله لقول جميل, وطريقة مستقيمة ثم هو ابن عمك, عزه عزك وشرفه شرفك, فلماذا هذه الخصومة؟ ماذا تتصورون كان جواب الرجل الأرعن؟ قال: إنا تزاحمنا نحن وبني هاشم فأطعموا وأطعمنا, وسقوا وسقونا, وحملوا وحملنا حتى قالوا: منا نبي يوحى إليه من السماء فمن أين نأتي بمثل ذلك؟

الغيرة إذًا هي التي كانت تحمل أبا جهل وكثيرًا من المعاندين من العرب على أن يقفوا المواقف السيئة من رسول الله , هذا التشابه الملحوظ والذي لا تخطئه عين الدارس للقرآن الكريم بين موقف المشركين من محمد وموقف فرعون وقومه من موسى عليه السلام هو الذي سوغ أن تردد قصة موسى مع فرعون على أسماع العرب, ماذا كانت عاقبة فرعون بعد كل العناد مع ما هو عليه من العظمة والجبروت, والملك والثروة؟ نبذه الله جل وعلا في اليمّ فأغرقه وجعله نكال الآخرة والأولى, ماذا كانت عاقبة أبي جهل؟ نبذه الله تبارك وتعالى في القليب قليب بدر, وجعله الله جل وعلا نكال الآخرة والأولى.

هناك قانون واحد في مجال الدعوات يتحكم في مسارها في القديم وفي الحديث على سواء, إن الله جل وعلا لا يجامل المكذبين ولا يحابيهم ثم هم أولاً وآخرًا بعض خلق الله جل وعلا, وخلق الله يتفاضلون عنده بالتقوى وبالعافية, ثرواتهم أموالهم أولادهم لا تغني عنهم شيئًا وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن فالإيمان هو الذي يحدد مجال النجاة فقط, أما الذين يصرون على العناد ويركبون رؤوسهم في طريق الخطأ ومعاندة الحقيقة فمصيرهم في القديم وفي زمن النبي عليه الصلاة والسلام وإلى أن تقوم الساعة مقرر ومحتوم: سوف يدمرون لكن تحت شرط, ينبغي أن يفعل لكي يدمَرَ الباطل, لابد أن تكون جبهة الحق سليمة, فإذا كانت جبهة الحق سليمة فمصير الباطل محتوم, أما حين تكون جبهة الحق غائبة الرؤيا مشوشة الأهداف, سقيمة الانضباط في السلوك, فلا يمكن للباطل أن يدمر إلا على المدى البعيد, وبعد أن يوجد الله جل وعلا جبهة للحق هي خير وأهدى سبيلاً من هؤلاء المتخاذلين الذين يدعون ذلك زورًا وبهتانًا, وإذًا فالباطل مصيره مقرر وفقًا لقوانين الله التي لا تتخلف, لكن ذلك مرتبط بمدى استقامة المؤمنين على الجادة التي وضعهم عليها ربهم تبارك وتعالى.

هذا ما يوحيه قول الله إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهدًا عليكم كما, وهنا أداة المشابهة كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً, فما كان من فرعون فعصى فرعون الرسول ما كان من الله فأخذناه أخذا وبيلاً.

الخطبة الثانية

لم ترد.

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً