.

اليوم م الموافق ‏10/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

تفسير سورة العلق 1

1515

العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير

محمود بن عمر مشوح

الميادين

1/8/1395

أبو بكر الصديق

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- حث دعاة الإسلام على مراجعة خط الدعوة وعرضه على الأنموذج الأمثل كما عرضه القرآن والسنة الصحيحة. 2- ملامح المنهج الدعوة للمرحلة المكية كما عرضته السور الأولى في القرآن. 3- تفسير سورة العلق من أولها إلى قوله: أن رآه استغنى.

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيها الأخوة المؤمنون, فاليوم نقف إن شاء الله تعالى مع أوائل الوحي مستنطقين ومستلهمين, ولقد أوجزت لكم في الجمعة الماضية ما أرنو إليه من هذه الخطة الوعرة التي ألزمت بها نفسي, فقد ينبغي أن أكرر دون ملل أن هذه الأمة التي تتوزع في شتى أقطار المعمورة أضاعت صوابها منذ زمن بعيد, وضلت طريقها منذ زمن بعيد, ومن المؤسف أنه بالرغم من الجهود الكبيرة المبذولة من أجل التعرف على بدايات الطريق تعرفًا عقلانيًا صحيحًا, غير متأثر العواطف ولا خاضع للاندفاعات.

أقول: إنه من الأسف ما تزال أمتنا في شتى أقطارها بحاجة إلى إعادة نظر, ولقد يجب أن يكون معلومًا أن الإنسان من حيث هو إنسان يعقل ويدرك مطالب بإعادة النظرة في شأنه الخاص والشأن العام؛ لأن بحث الخطى والتعرف على ما مضى هو وحده الكفيل باعادة التوازن إلى مسيرة الأمة, وتعلمون دون ريب أن الله جل وعلا اختار محمد على عينه واصطنعه لنفسه, واختصه بأعظم رسالة, وطوقه أشرف مهمة, ثم اختار له خير الكلام, قرآن الله المنزل على قلب رسوله , وكما فصلته منذ البداية عناية الاصطفاء والاختيار, فإن ربنا تبارك وتعالى قد اختار له من منهاج العمل أقلها تكلفة, وأيسرها زمنًا, وأعودها فائدة بإذن الله القدير, وأحسب أن الأمة يمكن أن تستقيم خطواتها على الطريق السليم إذا استلهمت تلك الخطى المباركة التي خطاها رسول الله , ومن أجل سلامة المسير, ولكي يكون الكلام كلامًا علميًا متسمًا بالرصانة والاتزان رأينا أن نعود من البداية, ولقد كانت بين أيدينا أحداث السيرة, وآن أن أقول لكم كلامًا حول هذه القضية.

أوثق النوص التي بين أيدينا سيرة ابن هشام, وهي تلخيص لمغازي ابن إسحق, والمغازي ضاعت في جملة ما ضاع من تراث هذه الأمة, وما بقي بين أيدينا من حوادث السيرة يشكل أربعة مجلدات هي أوثق النصوص لو جرت غربلتها على طريقة المحدثين, ونقلة الأخبار لما بقي بين أيدينا مما يمكن الركون إليه والثقة به إلا القليل, ولكنا مع ذلك نملك النص الذي لا أوثق منه, ولا أصح: كتاب الله, حياة استمرت على الأرض تحمل أعباء الدعوة وتكاليف أوثق الجهاد في سبيل الله ثلاثًا وعشرين سنة, لا يعقل أن تكون تصرفاتها محصورة بين هذه القدر القليل من الأخبار التي تحصلت بين أيدينا لكنا على ضوء القرآن نستطيع أن نتتبع الوقائع ونستطيع أن نتعرف على الحركة التي كانت موجودة في ذلك الحين.

من أجل ذلك طلبت إليكم أن تقرأوا أوائل سورة العلق وسورة القلم وسورة المزمل وسورة المدثر, وإنما وقفت عند سورة المدثر لغرض؛ لأن سورة المدثر تشكل بداية البلاغ العام وظهور الدعوة بمظهرها المعروف عندنا الآن, والله جل وعلا يخاطب نبيه فيقول: يا أيها المدثر قم فأنذر, إننا نريد أن نتعرف من خلال آيات هذه السور على نوعية المهمات والمصائب الذاتية والخارجية التي كلف بها المسلمون من جهة, وكلف المجتمع الجاهلي بها من جهة أخرى, وإننا نريد من وراء ذلك أن نقيس حجم رد الفعل الذي حدث في المجتمع الجاهلي, وأن نتعرف أيضًا في ضوء القرآن على بواعث رد الفعل هذا.

فلنبدأ الآن:

أول سورة نزلت على رسول الله بإجماع يكاد يكون تامًا هي صدر سورة العلق, وقد مر معنا في حديث عائشة الذي ذكرناه منذ عدة جمع قولها: إن جبريل جاء النبي بصدر هذه السورة اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم, صدر السورة إلى هنا يكاد الإجماع ينعقد على أنه أول كلام إلهي صافح آذان البشرية حين تنزل على رسول الله , ثم ذهبت السورة تحكي أمورًا أخرى كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعًا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية كلا لا تطعه واسجد واقترب.

آيات قليلة بناؤها واضح, ولكنه معجز, القضايا التي أثارتها, المهمات التي طرحتها ما هي؟ هل فكرتم بها؟ تعالو نشترك بالتفكير, افتتاح السورة بقول الله جل اسمه خطابًا للنبي الكريم عليه السلام " اقرأ " مع أن النبي صلى الله عليه وآله أمي, لا يقرأ ولا يكتب ولا يحسب, شيء يلفت النظر, ما معنى أن تقول للأمي اقرأ؟ ألست تكلفه محالاً, وتكليف المحال عبث لا يليق بالعقلاء, ما معنى تكليفك لأمي بالقراءة, ولو اجتهد مجهوده كله ما أطاق ذلك؟ لكن في الأمر لطيفة, قول الله للنبي اقرأ لا يعني فقط أن الإنسان يجب أن يقرأ من الكتاب؛ لأن القراءة لا تتوقف على الكتاب فقط, ما معنى القراءة؟ القراءة مأخوذة من الفعل قرأ, القاف والراء والهمزة ـ في لغة العرب التي نزل بها القرآن وخوطبت بها الأمة ـ هذا البناء, هذه الحروف الثلاثة تدل على الجمع والاحتواء, نقول: قرأ الماء في الحوض إذا اجتمع, فمعنى القراءة جمع المعلومات كأنك إذا قرأت من كتاب جملة وجملتين وأكثر تختزن وتجمع وتحوي هذه المعلومات في ذهنك وحافظتك وذاكرتك, عملية الجمع هذه لا تتوقف على القدرة على القراءة المعتادة, إنما يمكن أن تتحصل بالتلقين, والجاهل الذي لا يعرف القراءة والكتابة يستطيع أن يستوعب, ويستطيع أن يحفظ في ذهنه الكلام الذي يقال له أو معظم الكلام الذي يقال له, ماذا يعني هذا؟ يعني هذا أن الإنسان إذا كان لا يحسن أن يقرأ ويكتب فهذا لا يعفيه من عملية المتابعة وجمع المعلومات مشافهة, والنبي مع أنه لم يكن يقرأ ولم يكن يكتب ولم يخط بيمينه كتابًا كما أخبر الله في القرآن فقد استطاع بعون الله وعنايته أن يجمع في صدره الشريف الوحي المكرم بسماعه وبحروفه, والصحابة رضي الله عنهم الذين تلى عليهم رسول الله هذا القرآن كانت غالبيتهم العظمى الساحقة لا تقرأ كتابًا, ولا تخط بيمينها شيئًا, ومع ذلك كان النبي عليه السلام يخبر بالآي من كتاب الله فيجمعه الصحابة رضي الله عنهم في صدورهم, وبذلك كانوا قارئين.

اقرأ باسم ربك الذي خلق ماذا يعني هذا القول؟ نحن نستمع في المحافل وفي المراسيم والقرارات: باسم الشعب الفلاني, باسم الأمة, نحن رئيس الجمهورية, أو نحن القاضي فلان, أو نحن الوزير الفلاني, نقر ما هو آت, فالتقرير ليس باسم شخص معين, وإنما هو باسم الأمة, وفقًا أو اعتبارًا بأن الأمة هي مصدر السلطان على النحو المفهوم والمرفوض في العصر الحاضر.

أريد أن أقول لكم إن هذا الكلام ليس جديدًا, فمنذ دولة المدينة في اليونان, ومنذ المفكرين الأوائل في الفقه السياسي كان هذا المفهوم معروفًا ومقررًا, جاء الإسلام وهذا المفهوم موجود يعرفه العرب من طريق اتصالاتهم بدولة الروم في الشام, ويعرف مثله عن طريق اتصالاتهم بدولة فارس في العراق وما والاها ويعرفونه في الحبشة وغيرها من البلاد, لكن مفهومًا آخر كان أضيق من هذا سابقًا كان سائدًا مفهوم القبيلة, ومفهوم العشيرة, ومفهوم شيخ القبيلة والزعيم كانت فراسته هي المعبرة عن القانون والتي يشكل رفضها وخرقها وعدم الانصياع لها جرمًا كبيرًا قد يستوجب ـ في كثير من الأحيان ـ النفي والطرد والخلع من القبيلة, ودارسو الأخبار والمطلعون على الأدب يعرفون أن ظاهرة الخلعاء في قبائل العرب ظاهرة معروفة جاء الإسلام وهي موجودة, فقول الله جل وعلا اقرأ باسم ربك الذي خلق يشكل مفترقًا للطريق بين الإسلام وبين ركام الجاهلية وغثائها الذي كان معروفًا زمن النبي عليه السلام, والذي سيظل معروفًا مادامت الدنيا دنيا, وما دام الناس في شرورهم, هذا الذي نرى, القراءة والعلم, الحركة والانتباه, القيام والقعود, أي تصرف من التصرفات لا ينبغي أن يكون باسم فرد, ولا ينبغي أن يكون باسم أمة, وإنما ينبغي أن يكون باسم الله, الله جل وعلا هو المالك, وهو المتصف, وهو الخالق, وهو الرازق, فالاشتراك معه في الأمر والتقرير, والتقدير والنهي محاولة للاعتداء على سلطان الله جل وعلا في كونه, كل ما يفعله الإنسان ينبغي أن يكون باسم الله على وفق منهاج شرعه وعلى وصف خطى نبيه , والأفراد والأمم والشعوب لا حق لها في أن تأمر وفي أن تنهى, وتأتي بقية لهذا بعد قليل.

اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق العلق: العلقة في كلام العرب نقطة الدم اللزجة المتجمعة, حينما يشير القرآن ـ من أوليات الوحي ـ إلى هذه الحقيقة, يترك للذهن أن يشرح, يلاحظ هذه القطرة من الدم التي وقعت في الرحم, كيف نشأت؟ وكيف تطورت؟ وكيف تخلقت جنينًا في البطن؟ ثم كيف خرجت إلى عالم الدنيا طفلاً لا يكاد يستقل بنفسه, ولا يحصل لنفسه على نفع ولا يدفع عنها أذى, ثم مازالت عناية الله تحف بهذا المخلوق العاجز حتى كان طفلاً يدرج ثم شابًا, ثم كهلاً, ثم شيخًا, وإذا هو بشر سوي, هذا الإنسان الذي يتحرك ويأتي بالمعجزات, ويقدم المنجزات ويفتح في العلم فتوحًا تذهل العقول, وتستأسر الألباب, هذا بدايته نقطة دم علقة, فحين يناديك ربك بالعلم والقراءة وأنت لا تعلم ولا تقرأ لا تغفل أيها الإنسان عن أن وقوف الشيء ووقوف المخلوق عند مرحلة واحدة أمر محال, فكل شيء إلى تطور, وكل شيء إلى ترقي, وكل شيء إلى اندفاع نحو الأحسن, ونحو الأفضل وكما تخلقت هذه العلقة فكان منها الإنسان المدرك المحس الفعال المريد, المفكر المقدر, كذلك أنت لا تستقِل نفسك ولا تسهن بها, أنت اليوم لا تعلم لكنك لو حاولت أن تقرأ وأن تجمع علمًا إلى علم وكلامًا إلى كلام وقضية إلى قضية, فلن يمضي كبير زمن حتى تكون عالمًا مع العاملين فإذا قعدت عاجزًا لا تقرأ ولا تتكلم ولا تغشى مجالس العلم ولا تسأل, فحتى متى؟ متى تكون عالمًا ودينك دين العلم؟ متى تكون عالمًا وفي الإسلام لا مكان للجهلاء؟ متى تكون عالمًا وأنت اليوم تعيش في عصر ينبذ الجهلاء والجاهلين, كذلك يجب عليك أن تكون من العالمين اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم.

هذه الأداة التي هي القلم لا يكلف شراؤها إلا مبلغًا زهيدًا, لكن قيمتها الذاتية لا تقدر بثمن, بهذا القلم عرفنا أخبار الأولين واطلعنا على تجارب الماضي, ونقلت إلينا حقائق العلوم, وكل ما تتنعم به الإنسانية من تراث حضاري, فالفضل فيه يعود إلى القلم, الماضون كتبوا وقرأنا وتعلمنا, ونحن نكتب ونضيف إلى هذا التراث ما أعاننا الله عليه, وأولادنا يفعلون ذلك؟ بم كل هذا الشيء؟ بهذه الأداة التي لا يكاد أحدًا يلقي إليها بالاً, هي القلم, من الذي علمك أيها الإنسان أن تكتب بالقلم؟ الله, الله الذي لا إله إلا هو علم بالقلم, علم الإنسان ما لم يعلم, هذا الكون الذي تعيش فيه أيها الإنسان, أأنت الوحيد فيه؟ أم هذا الكون يعج بعوالم لا تقع تحت حصر ولا عد؟ من الذي أخذ لك ضمانًا أنك وحدك الذي تطيق التعلم وغيرك من الكائنات لا تطيق ذلك؟ ما الذي يحول دون قدرة الله أن تخلق في هذا الجماد قدرة على الكلام والقراءة والكتابة؟ ما الذي يحول دون ذلك؟ لا شيء, وإنه محض التفضل من الله, اختار هذا الإنسان فعلمه ما لم يكن يعلم, وقبل أن يختصه الله بهذا الفضل العظيم, كان شيئًا كسائر الأشياء المبثوثة في كون الله العريض, وحين حل عليه فضل الله اصطفي بتعليمه ما لم يعلم, اسمعوا ماذا تقول مطالع سورة البقرة: وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ثم وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.

الله جل وعلا اختص أبانا آدم بهذه الكرامة وسحب الكرامة على أبنائه جميعًا لغاية أرادها الله وهو أعلم بها وهي غاية الخلافة في الأرض والقوامة على كلمات الله والحراسة لشريعة الله تبارك وتعالى علم الإنسان ما لم يعلم كلا هذه السورة ترددت فيها "كلا" ثلاث مرات كلا, وأنت تقرأ السورة تشعر أنك حين تقول كلا كأنما أنت تقود سيارتك في الطريق وإذا بك فجأة أمام النور الأحمر, فتجد نفسك مضطرًا إلى الوقوف لأنك لو تجاوزت لعرضت نفسك لخطر محقق, لا تتجاوز  كلا, بعد كلا, كلام عظيم ينبغي عليك أن تدركه وأن تفكر فيه طويلاً كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى مفتاح القضية كلها في هاتين الكلمتين إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ما الذي يحول بين الإنسان وبين الاهتداء لكلمات الله, ما الذي يحول بين الإنسان وبين قراءة آيات الله في الأنفس والآفاق.

حقيقة واحدة, نظر واحد نبهت عليه هذه السورة إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ما معنى الطغيان تقول: ملأت الكأس ماء فطغى الماء يعني أن الماء تجاوز حافة الكأس والإنسان حين يتجاوز حده نقول عنه طغى فلان, فالطغيان مجاوزة الحد المقدور للإنسان, ما أنت أيها الإنسان؟ عبد لم تكن إلهًا ولن تكون, وما ينبغي لك أن تنازع الله خصيصة الألوهية, أنت عبد حين تحاول أن تتعدى طورك وتجاوز مقدارك فأنت طاغ, والطغيان مجاوزة الحد كلا إن الإنسان ليطغى ليصرف عن الحد ويعرض عن الهدى, ويضرب بكلمات الله عرض الحائط بسبب طغيانه, بسبب نسيانه لنفسه, نسيانه لحقيقة ذاته, ما سبب ذلك أيضًا؟ أن رآه استغنى, أن هذا تفسير المراد سبب ذلك أن الإنسان يشعر بأنه قد استغنى عن أية قوة خارج ذاته, فمن أجل ذلك هو يطغى ويتجاوز حده, ومن أجل ذلك ينسى حقيقة العبودية التي ينبغي ألاّ ينساها ومن أجل ذلك ينصرف ويعرض عن الحق.

ما معنى استغناء الإنسان؟ شعوره بأنه غير محتاج إلى غيره, تعززه بالولد, تعززه بالمال, تعززه بالجاه والسلطان, تلك هي الأدواء, استغناء الإنسان يسبب نسيانه لحقيقة بقائه في هذه الدنيا, سبب واضح من أسباب الإنصراف عن الحق, ولكن الإنسان حينما يضع نصب عينيه أنه أبدًا ودائمًا عبد الله جل وعلا, ليس ربًا ولا قريبًا من الرب فإنه حينئذ يسمع كلمات الله حين تتلى عليه بأذن صاغية وقلب متفتح, بماذا ينسى هذا الإنسان؟ بسيطرة هذه العوامل عليه, صاحب الأولاد يرى أنه عزيز بأولاده, وراءه جيش لجب من الأولاد وأولاد الأولاد, فهو بغير حاجة إلى سند يأتيه من خارج ذاته, والله جل وعلا قد شرح ذلك, ألم تقرأوا ما قال ربكم تبارك وتعالى في سورة مريم: أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدًا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدًا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدًا ونرثه ما يقول ويأتينا فردًا.

ويلك يا مخلوق, ويلك يا تائه, من أنت حتى تستكثر بأولادك وأولاد أولادك, وترى أنك في غنىً عن العزيز الجبار يوم تقف بين يدي المنتقم القاهر لمن يكون بين يديك؟ لا ولد, ولا عبيد, ويأتينا فردًا, كذلك الإنسان يشعر أنه حين يملك المال في غنىً عن الناس, وفي غنى عن رب الناس, لم تحف به العناية حتى وصفت بين المال والنسب محنة واختبارًا, وإنما يرى أنه بجهده حصل على هذا المال, ليس هذا فقط, ولكن شعورًا خبيثًا آثمًا مجرمًا فيحكم في الإنسان حين يملك المال والثراء, أنا أستطيع أن أشتري اللذات فأمرح ما شاء لي المرح, أنا أستطيع أن أشتري الأعوان والأتباع من الإمعات والتافهين فيسيرون من خلفي وتصطفق النعال, أستطيع كذا وأستطيع كذا, ويحك, ما الذي يعلمك أن هذا المال سيبقى بين يديك؟ لا شيء, ألم تقرأ ما قال الله جل وعلا في سورة القصص: إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة المفاتيح لا تحملها إلاعصبة أولوُ قوة, ومع ذلك فبعض التافهين من الأغنياء الذين يملكون نسبًا قليلاً يظنون أن الدنيا دانت لهم, وأنهم يستطيعون أن يتخذوا الآخرين خولاً وعبيدًا لا إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال ـ اسمعوا ما قال هذا المفتري ـ إنما أوتيته على علم عندي أي بفهمي وبإرادتي وببصري وخبرتي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعًا ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون فخرج على قومه في زينته ـ لاحظوا الفتنة ـ قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ـ فماذا قال الذين يريدون ثواب الله؟ ـ وقال الذين آتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فلم يكن له من فئة ينصرونه من دون الله ـ أين المال, أين الأعوان, أين النسب, أين الغرور؟ حق الحق وذهب الباطل ـ وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا وكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين.

يا صاحب السلطان: مالك أيها الإنسان, أنت اليوم في دفة الحكم, وغدًا إنسان طريد لا تعرف أين تأوي, تسير خائفًا تترقب, فعلاّم الغرور بالسلطان, أبين يديك من الله صك أنك لا تنزل عن هذا الكرسي؟! لئن لم تنزلك قوى الناس لتنزلنك قوة الله التي لا تغلب ولا تغالب, حينما أرسل الله موسى عليه السلام إلى فرعون وملئه, وكلفه بالرسالة إليهم قال موسى رب إني قتلت منهم نفسًا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانًا فأرسله معي ردءًا ـ أي معينًا ـ يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانًا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون فلما جاءهم موسى بآياتنا قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وقال فرعون ـ انتبهوا إلى قولة الفراعين دائمًا وأبدًا ـ أيها الملأ ـ يعني يا أيها الأشراف ـ ما علمت لكم من إله غيري, أترون قولة الآلهة الجدد جديدة على سمع الدنيا, لقد قالها فرعون من قبل يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحًا لعلي أطلع إلى إله موسى وإنه لأظنه من الكاذبين واستكبر وهو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين.

هذا الغرور, هذا الاستعلاء الذي يأتي من تخمين الإنسان الغافل عن الدنيا من مال وأولاد وجاه ونسب ونقد, هذه الأشياء هي التي تصرف الإنسان عن الهدى, هذه الأشياء هي التي تضع بين أيدينا مفتاح السرور الذي يسر به الناس ولقد قص الله علينا نبأ هذا الإنسان فقال في سورة النور حينما ذكر أنه إذا مس الإنسان ضر دعا ربه فإذا كشف عنه الضر قال لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين, فلما أنجاه الله إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا.

هذا الداء الذي وضعه الله تحت ناظري محمد من بداية الطريق ليعرف الرسول اللبيب الكريم أن مكامن الداء, وماذا يجب أن يعمل؟ وكيف ينبغي أن يترقى بأنفس الناس إلى حقيقة كرم الله ونعمته السابغة, بهذه الرسالة يترقى, وتعليمه إياهم الوسائل التي تهذبهم وترقيهم وتسري لهم عن مكامن الأدواء التي تحول بينهم وبين الإصغاء إلى كلمات الله حتى يستدركوا أنفسهم ويستشعروا دائمًا مقام العبودية, هذا القرآن لا ينتفع به جبار عنيد, هذا القرآن لا ينتفع به العشائر, وأشباه العشائريين, هذا القرآن دواء نافع للإنسان الذي لا يطغى, للإنسان الذي يعرف أنه لله عبد, فإذا عرف ذلك وعرف مقام الألوهية, وأن له وحده حق الأمر والنهي أصغى بأذنيه وأصاغ بقلبه, وفتح جوارحه جميعًا للفهم عن الله والعمل بمقتضى ما أراد الله تعالى.

أريد أن أقف عند هذا الحد؛ لأتابع من بعد الكلام على هذه الآيات.

 

 

الخطبة الثانية

لم ترد.

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً