أما بعد:
أيها الأخوة المؤمنون: اتقوا الله واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، اتقوا يوما تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون.
عباد الله: إن الله جلت قدرته وتعالت أسماءه، أوجدنا في هذه الحياة من عدم هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكوراً. أوجدنا في هذه الدنيا لا للدوام والبقى، ولكن للموت وما بعد الموت كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون.
حكم المنية في البرية ساري ما هـذه الدنيـا بدار قـرار
بينا يرى الإنسان فيها سائراً حتى يكون خبرا من الأخبار
كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت)). وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: ((يا أيها الناس، اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه)).
أيها المسلمون: عباد الله: إن الموت مما ينبغي الإستعداد له واستشعار قربه، فإنه أقرب غائب ينتظر، وما يدري الإنسان لعله لم يبق من عمره إلا اليسير، وهو مقبل على دنياه، ومعرض عن آخرته.
تؤمل في الدنيا طويلا ولا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من مريض عاش دهرا إلى دهر
الموت بـاب وكل الناس داخلـه فليت شعري بعد المـوت ما الـدار
الـدار جنـة عـدن إن عملـت بما يرضي الإلـه وإن فرطت فالنار
هما مصيران ما للمرء غيرهمـا فانظـر لنفسـك ماذا أنت تختــار
ولو لم يكن بين يدي الموت كرب ولا هول سوى سكرات الموت لكان جديرا للإنسان أن يتعظ ويتكدر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته، والعجب كل العجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات وأطيب المجالس التي يأنس بها مع أولاده وأصدقائه وأقرباءه، وأخبر أن داعيا سوف يحضر ويدعوه إلى أمر من الأمور، لتنكد وتكدر عليه مجلسه، وفسد عليه عيشه، وهو في كل لحظة بصدد أن يدخل عليه ذلك الداعي، فكيف به إذا أيقن أن ملك الموت سوف يدخل عليه في أية لحظة بسكرات النزع، وهو عنه في سهو وغفلة، وما لذلك سبب إلا الجهل والغرور واشتغال القلب بالدنيا.
فليس للموت يا عباد الله وقت معلوم عند الناس فيخاف في ذلك الوقت ويأمن منه في سائر الأوقات، فليس يأتي في الشتاء دون الصيف، ولا يأتي في الليل دون النهار، ولا يأتي بعد عمر الخمسين فيأمنه من هو دون ذلك، وليس له علة دون علة كالحمى وغيرها، فيأمنه من لم يصبه ذلك. فحق على العالم بأمر الله عز وجل و وهو يعلم أن الله انفرد بعلم ذلك الوقت وعليه فينبغي أن لا يأمنه في وقت من الأوقات، وأن يكون مستعدا له أتم الاستعداد.
فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكيس من الناس من هم، فقال: ((أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا)).
أيها الأخوة المسلمون: إن ذكر الموت لا بد أن يكون مع تفكر قلب فارغ عن الشهوات، واستحضار لحاله عند الموت وأهواله، وشدائده وسكراته، ولا بد من تفكر في شدة النزع والألم الذي يعانيه عند خروج الروح من البدن، أعاننا الله وإياكم وجميع المسلمين على ذلك، حتى قالوا إن خروج الروح من البدن أشد من الضرب بالسيف، ونشر المناشير، وقرض المقاريض، لأنه يهجم على الإنسان ويستغرق جميع أجزائه من كل عرق من العروق، وعصب من الأعصاب، وجزء من الأجزاء، ومفصل من المفاصل، ومن أصل كل شعره، من المفرق إلى القدم، ليستل الروح منها.
فلا تسأل عن كربه وألمه فإنما يصيح المضروب ويستغيث لبقاء قوته. وأما الميت عند موته فإنه ينقطع صوته من شدة ألمه، لأن الكرب قد بلغ فيه، وغلب على قلبه، وعلى كل موضع فيه، وضعفت كل جارحة فيه، فلم يبق فيه قوة لاستغاثة، أما العقل فقد غشيه وشوشة، وأما اللسان فقد حجزه الحال وأبكمه، والأطراف فقد ضعفها وخدرها.
فإن بقيت فيه قوة، سمعت له عند نزع الروح وجذبها غرغرة من حلقه وصدره، وقد تغير لونه، وأربد وجهه، حتى كأنه ظهر من التراب الذي هو أصله. وقد جذب منه كل عرق على حدته، فالألم منتشر في داخله وخارجه، حتى ترتفع الحدقتان إلى أعلى أجفانه، وتتقلص الشفتان ويتقلص اللسان، فلا تسأل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه، ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجيا، فأول ما يبرد قدماه، ثم ساقاه، ثم فخداه، حتى تبلغ الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره إلى الدنيا وأهلها، ويغلق دونه باب التوبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يقبل التوبة من العبد ما لم يغرغر)).
وأما ما يستحب من الأحوال عند المحتضر، فأن يكون قلبه يحسن الظن بالله تعالى، ولسانه ينطق بالشهادة، ويستحب تلقينه لا إله إلا الله كما جاء في الحديث الصحيح من رواية مسلم: ((لقنوا موتاكم لا إله إلا الله)).
وينبغي للملقن أن يرفق به، ولا يلح عليه وأن يبشر بالجنة، لأنه في ذلك الموضع يا عباد الله يتحير الرجال والنساء، وأن إبليس عدو الله أقرب ما يكون من العبد في ذلك الموطن، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل وهو يموت فقال: ((كيف تجدك؟ قال: أرجوا الله وأخاف ذنوبي، فقال: ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجوا، وأمنه من الذي يخاف)).
إلى كم ذا التراضي والتمادي وحادي الموت بالأرواح حادي
فلو كنـا جمـادا لاتعظنـا ولكنــا أشـد مـن الجمـاد
تنـادينا المنيـة كـل وقت وما نصغي إلى قول المنـادي
وأنفاس النفوس إلى انتقاص ولكن الذنـوب إلـى ازديـاد
روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل))، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، واذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة.
واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة.
واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا أرحم الراحمين.
واستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
|