.

اليوم م الموافق ‏18/‏رمضان/‏1445هـ

 
 

 

منزلة المحاسبة

1334

الرقاق والأخلاق والآداب

أعمال القلوب

وجدي بن حمزة الغزاوي

مكة المكرمة

الملك فهد

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- المحاسبة في الدنيا تخفف حساب الآخرة. 2- المقايسة بين النعم وشكرها. 3- أركان المحاسبة (العلم – سوء الظن بالنفس – التفريق بين النعمة والنقمة). 4- أمور يحاسب عليها العبد يوم القيامة (الصلاة – العمر – الشباب – المال – حقوق العباد).

الخطبة الأولى

فيقول الله عز وجل آمراً عباده والمؤمنين:

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد أي: لتنظر كل نفس مؤمنة في أعمالها وأقوالها أتصلح لغد؟! أتصلح ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب شديد.

والمحاسبة في الدنيا، ويخفف على صاحبها محاسبة الآخرة، وكلما كان العبد دقيقاً واضحاً في محاسبة نفسه هان عليه الوقوف يوم العرض الأكبر.

وفي الأثر المعروف عن الفاروق كما عند الترمذي: ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وتزينوا للعرض الأكبر وإنما يخف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا)).

فما هي المحاسبة؟ وما هي أركانها؟ وكيف تكون؟!

اعلموا رحمني الله وإياكم أن المحاسبة تقتضي المقايسة بين نعم الله عز وجل على العبد وفعل العبد تجاه هذه النعم. والمقايسة بين ما أوجب الله على عبده من عبادات وطاعات ومدى استجابة العبد لأوامر ربه فهي نظر في رأس المال والربح والخسارة.

فرأس المال الواجبات والفرائض، والربح النوافل والطاعات والقربات، والخسارة قد تكون في رأس المال، وهذه مصيبة وقاصمة وقد تكون في الربح، فتكون نذيراً مدعاة للانتباه. وفي الحديث القدسي، يقول الرب عز وجل: ((وما تقرب إليّ عبدي بأحب إليّ مما افترضته عليه وما زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه)).

والمحاسبة لها أركان، لابد منها حتى تؤتي أكلها ويظهر أثرها على سلوك العبد وعمله.

أول هذه الأركان:

العلم، فلابد من معرفة الحلال والحرام والسنة والبدعة والطاعة والمعصية. والله عز وجل قد أخبر أن أخسر الناس أعمالاً الجهال، قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً [الكهف].

لذا كانت البدعة محببة إلى إبليس أكثر من المعصية؟ لأن المبتدع يظن أنه على خير وأنه على قربة وطاعة، بخلاف العاصي، فإنه يعلم أنه عاصٍِ لربه متبع لهواه. فالعلم بداية المحاسبة وأساسها وبدون علم لا تكون محاسبة، وصدق المصطفى إذ يقول: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) فجعل الفقه في الدين ومعرفة الحلال والحرام من علامات إرادة الله الخير بعبده.

وأما الركن الثاني:

فهو سوء الظن بالنفس؟

فالذي يحسن الظن بنفسه لا يحاسبها!! إذ كيف يحاسبها وهو يظن أنها نفس تقية قائمة لله بحقوقه وواجباته. فهو بذلك غافل عن المحاسبة بعيد عنها.

وهذا حال كثير من العوام فإنهم يمنون علينا بصيامهم وصلاتهم وزكاتهم. فيقول أحدهم: ألست أصلي؟! ألست أصوم؟ ألست أزكي؟ ألست أعطي حقوقي؟! ففيم التشديد عليّ، ساعة لربي وساعة لقلبي!!

وخير رد على هؤلاء المساكين، قول الله عز وجل: والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة ولما سمعت أمنا عائشة رضي الله عنها هذه الآية ظنت أن المراد بها أصحاب المعاصي، يعصون الله ثم يخافون أن تؤثر معاصيهم على قبول أعمالهم الحسنة. فقالت: يا رسول الله أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟! قال : ((لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات)).

فهذا حال المؤمنين المتقين، يخافون أن ترد أعمالهم ويخافون أن لا تقبل صلاتهم وصيامهم وزكاتهم، يخافون لا لأنهم موسوسون، ولكن لأنهم يعرفون قدر أنفسهم ويعرفون قدر ربهم عز وجل قبل ذلك. فأيقنوا أن أعمالهم مهما بلغت من الإتقان والكمال، فإنها لا تصلح أن تقدم بين يدي الكبير المتعال سبحانه وتعالى.

أرأيت الرجل منا يدعو إلى بيته ثرياً أو وجيهاً فيقدم له أصناف الطعام والشراب ويعتذر له أي اعتذار لأنه يعلم أن هذا الثري غير محتاج لطعامه ولا لشرابه وأنه متعود على أرفع وأكمل وألذ وأشهى من هذا الطعام، فمهما قدمت له لن تغلب ما عنده، فتشعر بحرج ولا تنفك عن الاعتذار، ولله المثل الأعلى، فلو تأمل أحدنا أن لله عز وجل ملائكة عظاماً لا هم لهم ولا شغل إلا الطاعة والعبادة، وأنه ما من موضع قدم في السماء إلا وملك واضع جبهته ساجد لله عز وجل، حتى أطت السماء وحق لها أن تئط ولو تذكر هذا العبد أن كل شيء، نعم كل شيء من حجر وشجر ودواب يسبح بحمد الله، ولكننا لا نفقه هذا التسبيح، لو تأملنا هذا وخطر على قلوبنا، لخجل أحدنا من طاعته ولعلم أنها قاصرة في حق الله عز وجل. استمع إلى المولى عز وجل وهو يأمر عباده بعد الوقوف في عرفة وبعد أداء الركن الأعظم وبعد المن عليهم بالعفو والمغفرة والعتق من النيران ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.

واستمع إلى ثناء المولى عز وجل على أهل الليل وعباده، وبالأسحار هم يستغفرون؟! يقول الحسن واصلوا صلاتهم بالتسبيح والاستغفار.

سبحان الله العظيم ممن يستغفر هؤلاء؟؟ ألم يقوموا لله والناس نيام؟! ألم يتركوا فرشهم الوثيرة وزوجاتهم ولذاتهم وقاموا يرجون الآخرة ورحمة ربهم!! ففيم الاستغفار؟! إنه معرفة العبد لقدر ربه أولاً ثم لقدر نفسه ثانياً فلما علم عظمة خالقه، وغناه عن خلقه، استصغر نفسه واحتقر عمله.

وأما الركن الثالث معاشر المؤمنين الذي لابد منه في محاسبة العبد لنفسه، فهو إدراك الفرق بين النعمة والنقمة!!

فالسعيد من وفق وهدي لمعرفة هذا الركن الهام والذي لابد منه في محاسبة العبد نفسه.

فالله عز وجل ينعم على عباده بنعم شتى، ولكن العبد يجعل منها نقمة وحجة عليه. فكان لزاماً على المحاسب نفسه أن يدرك الفرق وأن يحاسب نفسه بناء عليه.

والضابط والمعيار في التفريق بين النعمة والنقمة هو في استخدامها، وكيفية الإفادة منها.

فالمال نعمة من الله، إن أعانك على طاعة الله، وعلى صلة الرحم وتفقد المحتاجين والإحسان إلى الخلق. ونقمة وأي نقمة إن أعانك على شراء آلات اللهو والفساد وأدرت قلبك كبراً وتيهاً وتعالياً على الخلق.

ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

والصحة قد تكون نعمة وقد تكون نقمة، لذا قال : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ)).

وأي غبن أعظم من تسخير الصحة والعافية في المعاصي والموبقات وعدم صرفها في الطاعات والقربات.

والجاه والمنزلة الرفيعة، نعمة إذا استخدمها صاحبها في الشفاعة للخلق وقضاء حوائج المحتاجين والوقوف مع المظلومين.

ونقمة أيما نقمة إن استخدمها في جمع الحطام بغير حق، واستقطاع الأراضي والمنح على حساب المحتاجين وذوي الدخل المحدود.

وكم من ذي جاه ومنزلة، ظلم وطغى واستبد، فحول نعمة الله إلى نقمة.

فلا بد إذاً، معاشر المؤمنين من النظر في استخدامنا لنعم الولى عز وجل، فإن كان استخدامها في خير ومعيناً على خير وبر، فهي نعمة، وإلا فليحذر العبد من نقمة الله عليه.

أسأل الله الكريم رب العرش العظيم، أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ثم أما بعد:

فكيف تكون المحاسبة؟! وبأي شيء نبدأ؟! نبدأ معاشر المؤمنين، بما سيبدأ به المولى عز وجل يوم العرض الأكبر، فإن محاسبة الدنيا، كما نص تهون حساب الآخرة فالذي يحاسب نفسه ويردعها ويأطرها على الحق أطراً يهون عليه الحساب يوم القيامة.

وقد ثبت الحديث أن النبي قال: ((أول ما يحاسب به العبد الصلاة؟!)).

نعم أيها العبد المؤمن حاسب نفسك تجاه الصلاة!!

هل تحافظ على الصلوات الخمس التي كتبها علينا ربنا عز وجل؟!

فإن كان الجواب بنعم؟! هل تحافظ على أدائها في أوقاتها؟؟ فإن الله عز وجل فرضها في مواقيت محددة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً.

فإن كان الجواب بنعم؟؟ فهل تؤديها جماعة مع المسلمين؟.

فإن نجحت في هذا الحساب، فانتقل إلى الحساب الثاني الذي وردت به النصوص عن المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه إذ قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)) فها هو المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه يخبرنا بأن المرء لن تزول قدماه قبل أن يسأل هذه الأسئلة ! فهل جوابك عليها أيها المؤمن جواب مطمئن، جواب يجعلك تنام قرير العين مرتاح البال؟!

هل أفنيت عمرك فيما يرضي المولى عز وجل؟!

شبابك، فترة قوتك ونشاطك هل قضيته في طاعة الله أم في معصية الله؟ إن لم تكن إجابتك مرضية فتب إلى الله عز وجل فإنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.

وهذا المال الذي يتقاتل الناس على اكتسابه من كل الطرق دون مبالاة، أمن حلال اكتسبه أم من حرام. لن تزول قدماك حتى تسأل عن مصدر كسبه؟ هل هو مصدر حلال بين أم مصدر محرم؟ أم مصدر مليء بالشبهات التي أورثتها الشهوات؟!

فماذا أعد المؤمن لسؤال كهذا؟ وكيف يهنأ أكلة الربا وأهل الرشوة ومن تربى على الاختلاسات والسرقات من الأموال العامة والخاصة.

ولو سلم مالك من الحرام حال كسبه، فهل أنفقته في طاعة؟ أو في قربة أو حاجة أو على أقل تقدير في أمر مباح دون إسراف أو مخيلة؟!

كم من أناس كسبوا أموالاً من مصادر طيبة لا شبهة فيها ولكنهم أسرفوا وأنفقوا دون حساب ودون مراعاة لمشاعر الفقراء والمحتاجين ودون تدبر لثناء المولى عز وجل على المؤمنين إذ قال والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً.

وأما من ينفق ماله في الحرام والمعاصي والمنكرات، فما أكفره بنعم الله وما أبطره على هذه النعم.

فليتق الله ربه وليعلم أنه مسؤول في يوم يشفق فيه الأنبياء والمرسلون كل يقول: نفسي نفسي وكل يتذكر ذنبه ويبكي على خطيئته، فحاسب نفسك أيها اللبيب، أيها المؤمن، فاليوم دار عمل وتوبة وإنابة وغداً دار حساب وجزاء.

ومن الأمور التي يجب على العبد أن يحرص على محاسبة نفسه فيها، ما ورد ذكره في الحديث التالي الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ، وهو حديث جامع مانع، عظيم الفائدة واضح المعاني لا يحتاج إلى شرح أو تفصيل أذكر به نفسي وإياكم، سائلاً المولى عز وجل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، يقول المصطفى : ((أتدرون من المفلس؟! قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع!. فقال : إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)).

فماذا تنتظر أيها المؤمن بعد هذا البيان المفصل؟! أتنتظر أن يتكالب الناس على حسناتك؛ على صلواتك وصيامك وزكاتك وسائر عملك الصالح؟!

بادر بالتوبة وبادر باستسماح من ظلمت وتحللت منهم وأرضهم، واصدق نفسك وانصحها ولا تغشها تفلح وتفز.

إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

 

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً