وبعد فعن سهل بن سعد الساعدي قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)) [رواه ابن ماجة وغيره، والحديث صحيح].
عباد الله إن محبة الله للعبد من أعظم ما يوفق إليه الإنسان، فمن أحبه الله أكرمه، ووضع له القبول في الأرض، ومن أبغضه وضع له البغضاء في الأرض، ولقد بين عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث سبب محبة الله لعبده وسبب محبة الناس له، ومعلوم أن الإنسان يشعر بسعادة عظيمة إذا كان يحيى في مجتمع يحبه، ومن أحبه الناس آلفوه وعايشوه وتعاملوا معه.
فمِن تلكم الأسباب التي تحقق هذه المحبة، والتي جاء ذكرها في هذا الحديث الزهد في الدنيا. والزهد عباد الله هو الانصراف عن كل ما لا ينفع في الآخرة، بأن تخرج يا عبد الله من قلبك حب الدنيا والحرص عليها والرغبة إليها فتصبح الدنيا في يدك. وحب الله والآخرة في قلبك وليس معنى الزهد رفض الدنيا بالكلية والابتعاد عنها، فقد كان نبينا إمام الزاهدين وله تسع نسوة، وكان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من الملك والمال والنساء مالهما، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم كانوا من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال والنساء والبنين، ما هو معروف، فليس الزهد في الدنيا بأن تحرّم على نفسك ما أحله الله لك من الطيبات، إذ الحلال نعمة من الله على عبده، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فشكره على نعمته والاستعانة بها على طاعته واتخاذها طريقاً إلى جنته أفضل من الزهد فيها، والتخلي عنها، لأن الزهد في نعم الله زهد مخالف لهدي النبي وسنته، لا خير فيه، يظلم القلوب ويعميها ويشوه جمال الدين الذي اختاره الله لعباده، وينفر العباد من دين الله عز وجل ويهدم الحضارة، ويمكن أعداء الله من أمة الإسلام وينشر الجهل.
ومعلوم أن كل الحضارات لا تقوم إلا على العلم والكسب والزواج، وحضارة الإسلام ما قامت إلا على هذا، أمرت بالكسب حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)) [رواه البخاري].
وأمر بالزواج فقال: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج..)). بل جعل النبي الزهد في الزواج مخالفاً لهديه وسنته فقال: ((وإني أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
وأمر بالعلم الديني والدنيوي فقال عليه الصلاة والسلام: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) هذا من حديث العلم الديني.
أما العلم الدنيوي فلا يختلف اثنان في ضرورة طلب علوم الدنيا من طب وصناعة وزراعة وغيرها مما لا غنى للعباد عنه في هذا الزمان.
وما ضعفت شوكة المسلمين وتدهورت أحوالهم إلا بسبب تقصييرهم في طلب العلم الديني والدنيوي، واكتفوا بأخذ القشور من علوم الدنيا من أعدائهم بينما أخذوا عنهم كثيراً من أمور زائفة زائلة أدت بأهلها إلى الهلاك وضياع الدين والخلق والفضيلة.
ولكي تزهد يا عبد الله في هذه الدنيا زهد الأتقياء والصالحين لابد أن تعرف شأن الدنيا وقيمتها فقد جاءت نصوص كثيرة في كتاب الله وفي سنة رسول الله تزهد في الدنيا وتبين حقارتها وقلتها وسرعة زوالها، وترغّب في نعم الآخرة الدائمة التي لا تنقطع، فمن تلكم النصوص قوله جل وعلا: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور فالدنيا منقطعة زائلة فانية فلا ينبغي للعبد أن يشتغل بالفاني الزائل عن الباقي الدائم. كما دلت الآية على أن الحياة الدنيا غرور وباطل ولعب، وحقيقة اللعب ما لا ينتفع به. واللهو ما يلهي الإنسان عن الآخرة، ودلت الآيات على أنها زينة تصرف المفتون بها عن الآخرة. وأنها تفاخر بين الناس يفخر بعضهم على بعض بنعيمها الزائل من مال وولد وجاه وغيره، ثم شبه ربنا سبحانه سرعة زوال الدنيا بالمطر الذي ينزل على الأرض فتهتز به وتخضر، ثم سرعان ما تعود إلى ما كانت عليه من جفاف واصفرار وموات، فكذلك حال نعيم الدنيا سرعان ما يزول وينقضي.
وأما من السنة فما رواه جابر بن عبد الله أن رسول الله مر بالسوق بجدي ميت – أي ولد المعز – فتناوله فأخذه بأذنه ثم قال: أيكم يحب أن يشتري هذا بدرهم؟ قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه لأنه أسك – أي صغير الأذنين – فكيف وهو ميت فقال: ((فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) [رواه مسلم].
وكما جاء في الصحيح أيضاً أن النبي قال: ((ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع)).
ومما ينبغي عليك أن تعلمه يا عبد الله أن الذي يحمل العبد على الزهد في الدنيا قوة إيمانه، واستحضاره عظمة ربه، ووقوفه بين يديه واستحضار أهوال يوم القيامة، فإن ذلك يجعل حب الدنيا ونعيمها يضعف في قلبه، فينصرف عن لذائذها ويقتنع بالقليل منها.
ومنها أيضاً شعوره بأن الدنيا تشغل القلوب عن التعلق بالله وتؤخر الإنسان عن اللحوق بدرجات الآخرة، وأن الإنسان سوف يسأل عن نعيمها قال تعالى: ثم لتسألن يومئذ عن النعيم.
ومما يعينك أيضاً يا عبد الله على الزهد في الدنيا علمك بتحقير القرآن لشأن الدنيا ونعميها وأنها لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء. فشعور العبد النير القلب بهذا يجعله يزهد في الدنيا ويقبل على ما هو خير وأبقى قال تعالى: بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى.
وفقني الله وإياكم للزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة حتى ننال محبة الله عز وجل.
|