أما بعد:
فقال الله عز وجل: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلىّ إنما إلهكم إلهٌ واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا [الكهف: 110].
هذا خطاب من الرب جل جلاله لعبده ورسوله محمد يأمره فيه أن يخبر الناس بحقيقة شخصيته وبحقيقة رسالته. أما شخصيته فهو بشر مثل باقي البشر في الخصائص البشرية من ناحية الخلقة والطبائع والغرائز، إنه مثلهم في ذلك وإن كان يمتاز عليهم بالكمال في الطبيعة البشرية.
فهو في خلقته وخلقه وطبائعه وغرائزه في قمة الكمال وأحسن الأحوال . إنه وإن كان بشرًا مثل باقي البشر إلا أنه اختص كإخوانه الأنبياء والمرسلين اختص بمقام النبوة.
فقوله: بشرٌ مثلكم يثبت المماثلة وقوله: يوحى إلىّ يثبت المغايرة والمفاضلة هذه هي شخصيته كما تنطق بها هذه الآية الكريمة من سورة الكهف، والتي ترد على أولئك المجاذيب تؤدب أولئك المجاذيب الذين أعرضوا عن كلام ربهم وذهبوا يتخيلون ويحيكون الألغاز والأسرار والأحوال التي ما أنزل الله بها من سلطان حول شخصية النبي المصطفى .
فمن قائل إنه خلق من نور، ومن قائل أنه بشر لا كالبشر، ومن قائل إنه سر الخلق فمن أجله خلق الله الكون والأفلاك، إلى غير ذلك من المبالغات التي ترد عليها كلها هذه الآية الكريمة من سورة الكهف بشرٌ مثلكم وهذه الآية في نصفها الثاني تنبهنا إلى أن رسول الله محمدًا بُعث برسالة ليبلغنا إياها بأمر ربه عز وجل. أمره ربه بذلك وشدد عليه الأمر: يا أيها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته [المائدة: 67] لكنه فعل وبلغ رسالة ربه أكمل البلاغ فهذه هي رسالته كما تلخصها وتوجزها لنا هذه الآية من سورة الكهف وتجمع أطرافها في عبارتين موجزتين إنما إلهكم إله واحد هذا هو الركن الأول من رسالة المصطفى بل هذا هو الركن الأعظم من رسالته إنه التوحيد.
ثم الركن الثاني وله ثلاثة جوانب:
الجانب الأول: كما تنطق به هذه الآية من سورة الكهف الإيمان بالبعث وبلقاء الله تعالى في اليوم الآخر: فمن كان يرجو لقاء ربه [الكهف: 110].
والجانب الثانــي: جانب الامتثال والانقياد بالعمل الصالح: فليعمل عملاً صالحًا [الكهف: 110].
والجانب الثالث: جانب الحرص على العقيدة على جناب التوحيد والحذر والاحتراس من الشرك: ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا [الكهف: 110]. لقد جاءنا رسول الله بهذه الرسالة التي جوهرها تعلق القلب والجوارح بالإله الواحد الأحد.
فهل نعرض عن ذلك ونذهب نشتغل بحياكة الأسرار والألغاز والمبالغات والغرائب والعجائب حول شخصية النبي معاندين بذلك رسالته التي جوهرها كما قلنا الانشغال بالخالق عن المخلوق، الانشغال بالله وحده عن سائر من سواه.
معاندين بذلك هذه الرسالة ومرتكبين بذلك نهيه عاصين أمره فإنه من شدة شفقته على أمته وحرصه على هدايتها وإرشادها وتحذريها من مزالق الشيطان وحرصه على حماية جناب عقيدتها حماية جناب التوحيد وشدة شفقته على أمته. وخوفه عليها من الوقوع في ذريعة الشرك.
حذَّر أمته من ورطة الغلو، من حفرة الغلو في شخصيته الشريفة الكريمة فعن عبد الله بن الشخير رضى الله عنه قال: انطلقت مع وفد بني عامر إلى رسول الله فقلنا: يا سيدنا. فقال : ((السيد الله تبارك وتعالى)) فقلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا قولاً فقال : ((قولوا بقولكم - أو ببعض قولكم - ولا يستجرينكم الشيطان)) رواه أبو داود.
وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء ناس إلى النبي فقالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا فقال : ((يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله – مرتين - ولا أحب أن تنزلوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل)) رواه النسائي. وقد ثبت عنه أنه قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى بن مريم إنما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله)).
ولما قال بعض الصحابة: قوموا بنا نستغيث برسول الله، قال لهم رسول الله : ((إنه لا يُستغاث بي إنما يُستغاث بالله عز وجل)).
ولمّا قال له ذلك الصحابيّ: "ما شاء الله وشئت" قال له: ((ويلك أجعلتني لله ندا، ما شاء الله وحده)).
وهكذا نجد النبي المصطفى من كمال شفقته على أمته ومن كمال حرصه على حماية عقيدتها وحرصه على حماية جناب التوحيد وخوفه على أمته من الوقوع في شريعة الشرك والوقوع في ورطة الغلو، يحذرها من ذلك كله وخاصة منه ما يتعلق بشخصيته الكريمة وإلا فهو سيدنا كما أخبر بذلك بنفسه حين قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)). فإذا كان سيدنا يوم القيامة فهو سيدنا في الدنيا من باب أولى، فلو أطلق أحد عليه وصف السيادة لأصاب الحقيقة وما أخطأها ولكنه إن فعل ذلك من باب الغلو في تعظيمه فقد أثم بذلك لأنه ارتكب نهي المصطفى فإنه إنما نهى أولئك الوفد عن إطلاق تلك الأوصاف عليه لأنهم ربما أطلقوها عليه من باب الغلو في تعظيمه أو خشي عليهم من الوقوع في الغلو في تعظيم شخصه .
فيقعون في مثل ما وقع فيه النصارى فعيسى بن مريم رسول الله لمّا اختصه الله ببعض الآيات والمعجزات وقعت أمته في الغلو في شخصه عليه السلام فرسول الله محمد وقد اختصه الله بأعظم مما اختص بها عيسى بن مريم من الآيات والمعجزات الباهرات وكرّمه أعظم مما كرم عيسى بن مريم أولى بأن يُخاف على أمته من الوقوع في ورطة الغلو في شخصيته الكريمة الشريفة ولذلك حرص على تحذيرها من الغلو في شخصه.
حرص على تحذيرها من ذلك وأمرها بالاحتياط والاحتراز في وصفه وإطلاق الأسماء والأوصاف عليه : ((إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)).
هذه ترجمة عملية وتفسير عملي لقوله تعالى: إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلىّ [الكهف: 110] فـ بشر مثلكم يقابلها "عبد الله" و يوحى إلىّ يقابلها "رسول الله" ، وسوف نعود إلى هذا الباب بمزيد من الدروس والاستنباطات في الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول هذا واستغفر الله العظيم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|