الحمد لله الهادي إلى كل خير، والآمر بكل معروف وبر وإحسان غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير .
عباد الله: قال ابن القيم: إن الطاعة هي حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين من عقوبات الدنيا والآخرة، ومن خرج عنه أحاطت به المخاوف من كل جانب، ومن خاف الله أمنه من كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء.
والطاعة توجب القرب من الرب سبحانه، وكلما اشتد القرب قوي الأنس، والمعصية توجب البعد من الرب، وكلما زاد العبد بعداً قويت الوحشة.
عباد الله: إن الذنوب أمراض القلوب، ولا دواء لها إلا تركها بالاستعانة بالله، وقد أجمع السائرون إلى الله على أن القلوب لاتعطى مناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إليه حتى تكون صحيحة سليمة بمخالفة هواها الذي هو مرضها وشفاؤها مخالفته، ولا تتم سلامة العبد حتى يسلم من خمسة أشياء: من شك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد، والإخلاص يعم، ولذلك تشتد على العبد الضرورة في أن يلح على ربه دائماً ويسأله أن يهديه الصراط المستقيم، فإن الصراط المستقيم يتضمن علوماً وإرادات وأعمالاً وتروكاً ظاهرة وباطنة تجري عليه كل وقت، فتفاصيل الصراط المستقيم قد يعلمها العبد، وقد لا يعلمها، وما يعلمه قد يقدر عليه، وقد لا يقدر، وقد تريده نفسه، وقد لا تريده كسلاً وتهاوناً أو لوجود مانع، وما تريده النفس قد يفعله وقد لا يفعله، وما يفعله قد يقوم بشروط الإخلاص فيه، وقد لا يقوم، وما يكن مخلصاً فيه قد يكون متابعاً للرسول فيه وقد لا يكون، وما يتابع فيه قد يثبت عليه وقد يصرف قلبه عنه، وهذا كله واقع سار في الخلق، فمستقل ومستكتر، وليس في طباع العبد الهداية إلى ذلك كله، والرب تبارك وتعالى على صراط مستقيم في قضائه وقدره وأمره ونهيه وفي شأنه كله، فيهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بفضله ورحمته، ويصرفه عمن يشاء بعدله وحكمته.
عباد الله: والمعاصي تمحق بركة العمر، فإذا أعرض العبد عن الله واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية التي يجد غب إضاعتها يوم يقول: ياليتني قدمت لحياتي فعمر الإنسان هو مدة حياته ولا حياة له إلا بإقباله على ربه والتنعم بحبه وذكره وإيثار مرضاته.
ومن آثار المعاصي أنها تزرع أمثالها، ويولد بعضها بعضاً حتى يصعب على العبد مفارقتها، قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة وصفات لازمة وملكات ثابتة، فلو عطل المحسن الطاعة لضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأحس من نفسه بأنه كالحوت إذا فارق الماء حتى يعاودها، فتسكن نفسه وتقر عينه، ولو عطل العاصي المعصية وأقبل على الطاعة لضاقت عليه نفسه حتى يعاودها، حتى أن كثيراً من الفساق ليواقع المعصية من غير لذة يجدها ولا داعية إليها إلا لما يجد من ألم مفارقتها.
عباد الله: فلنفتح على أنفسنا أبواب الطاعات فلا يزال العبد يعاني الطاعة ويجاهد عليها حتى يألفها ويحبها حتى يرسل الله برحمته عليه الملائكة تؤزه إليها أزاً وتحرضه عليها وتزعجه عن فراشه ومجلسه إليها.
ومن آثار المعاصي: أنه ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له ولا كلامهم فيه قال : ((كل أمتي معافى إلا المجاهرون)).
ومنها: أن كل معصية من المعاصي فهي ميراث من الأمم التي أهلكها الله عز وجل ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
ومنها: أن المعصية سبب لهوان العبد على ربه وسقوطه من عينه، فتورثه المعصية الذل ولابد، فإن العز كل العز في طاعة الله من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً أي فليطلبها بطاعة الله، ومن دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك، وقال الحسن: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
ومنها: أن الذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين كما قال بعض السلف في قوله تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون قال الحسن: هو الذنب على الذنب، حتى يعمى القلب، لأن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زاد غلب الصدأ حتى يصير راناً ثم يغلب حتى يصير طبعاً وقفلاً وختماً، فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد.
ومنها: أن الذنوب تدخل صاحبها تحت لعنة الرسول فإنه لعن على معاصي كثيرة.
ومنها: حرمان دعوة الرسول ودعوة الملائكة، فإن الله أمر نبيه أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات.
ومنها: أن المعاصي سبب للفساد في الأرض في المياه والهواء والزرع والثمار والمساكن، ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون والمراد بالفساد الذنوب وموجباتها، وإنما أذاقنا الشيء اليسير من أعمالنا، فلو أذاقنا كل أعمالنا لما ترك على ظهرها من دابة.
ومنها: أن المعصية تطفئ من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن، ولهذا كان النبي أغير الخلق على الأمة والله سبحانه أشد غيرة منه قال : ((أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه والله أغير مني)) [رواه البخاري ومسلم]. ومن استحى من الله عند معصيته استحى الله من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستح من الله تعالى من معصيته لم يستح الله من عقوبته.
ومنها أن المعاصي تسقط الجاه والكرامة، وتسلب أسماء المدح والشرف، وتكسوه الذم والصغار، فتسلبه إسم المؤمن والبر والمحسن والتقي والمطيع والمنيب والولي والمصلح والعابد والأواب والطيب وغيرها، وتكسوه اسم الفاجر العاصي والمسيئ واللوطي والزاني وشارب الخمر والسارق والقاتل والخائن والكذاب والغادر والعاق وقاطع الرحم، فهذه أسماء الفسوق، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، التي توجب غضب الديان ودخول النيران وعيش الخزي والهوان.
أيها المسلمون: هذا قليل من كثير من آثار المعاصي ونتائجها، فيامن تعصي ربك عالماً ذاكراً مختاراً ماذا تريد؟ هل تريد العذاب والغضب؟ وهل تظن أن الحساب على غيرك وأنت متروك؟ أم هل أنت في شك من الوعيد؟ ولماذا التسويف هل ستعلم كم أيامك القادمة لتتوب في آخرها؟ أم هل غرتك صحتك وإمهال الله لك؟ أجب عن هذه الأسئلة؟ فلماذا يظلم العبد نفسه ويعصي خالقه ومولاه ويطيع عدوه؟ وماذا ينتظر العاصي وهو مقيم على غيه وضلاله وغفلته وإعراضه؟ أي شيء يريد وماذا ينتظر؟ وهو يعلم أن الله غاضب عليه ويتوعده ويهدده إنه من يأت ربه مجرماً فإن له نار جهنم لا يموت فيها ولا يحي وماذا أنتظر - وقد ضيعت أيامي باللهو والتفريط والميل - إذا دنى مني أجلي! فهل من توبة قبل الموت؟ وهل من رجوع إلى الله قبل فوات؟ الأوان وهل من يقظة لإعادة المحاسبة؟
فيامن تعصي ربك مهما كانت معصيتك صغيرة أم كبيرة ضع خد ضراعتك وذلك وانكسارك على عتبة سيدك ومولاك، فكم من معصية ساقت العبد إلى مولاه، فرجع إليه منكساً رأسه، حزيناً على تفريطه في جنب الله، نادماً منكسراً، وأشهدته تلك المعصية فقره وضرورته إلى حفظ سيده الرؤوف الرحيم إلى عفوه عنه ومغفرته له، وأخرجت من قلبه صولة الطاعة وكسرت أنفه أن يشمخ به أو يتكبر أو يرى نفسه خيراً من غيره وأوقفته بين يدي ربه موقف الخاطئين المذنبين مستحياً خائفاً منه محتقراً لطاعته مستعظماً لمعصيته عرف نفسه بالنقص والذم، وعرف ربه بالتفرد والكمال والفضل والحمد، فإن الذنب مهما صغر فإنه قبيح في مقابلة العظيم سبحانه الذي لا شيء أعظم منه، الجليل الذي لا أجل منه، المنعم بجميع النعم دقيقها وجليلها، فإن مقابلة الله بالمعاصي تعد من أقبح الأمور وأفظعها وأبشعها. |