أما بعد:
قال الله تعالى: إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((من أشراط الساعة ظهور القلم)).
القلم أداة الكتابة، بها يعبر الشخص عما في نفسه، وعن طريقها يُكتب العلم ويُنشر، ويقال للشخص صاحب الكتابات الرصينة النافعة، فلان صاحب قلم، ويقال لعكسه: ألا فليكسر القلم.
أيها المسلمون: والأقلام عديدةٌ ومتنوعة، وأيضاً متفاوتة في الرتب:
فالقلم الأول: وهذه أعلاها وأجلّها قدراً ألا وهو قلم القدر الذي كتب الله به مقادير الخلائق، كما في سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: يارب وما أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيئ حتى تقوم الساعة)). فهذا القلم أول الأقلام وأفضلها وأجلها، وقد قال غير واحد من السلف أنه القلم الذي أقسم الله به في قوله جل شأنه: ن والقلم وما يسطرون .
عَنْ سُرَاقَةَ بْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعَمَلُ فِيمَا جَفَّ بِهِ الْقَلَمُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ أَمْ فِي أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ؟ قَالَ: ((بَلْ فِيمَا جَفَّ بِهِ الْقَلَمُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ)) رواه ابن ماجة. وعنده أيضاً قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول ((إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ ثُمَّ جَعَلَهُمْ فِي ظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ نُورِهِ مَا شَاءَ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَصَابَ النُّورُ مَنْ شَاءَ، أَنْ يُصِيبَهُ وَأَخْطَأَ مَنْ شَاءَ فَمَنْ أَصَابَهُ النُّورُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَ يَوْمَئِذٍ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ قُلْتُ: جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ)).
القلم الثاني: قلم الوحي، وهو الذي يُكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله. وأصحاب هذا القلم هم الحكّام على العالم، والعالم خدم لهم، وإليهم الحل والعقد، والأقلام كلها خدم لأقلامهم، وقد رُفع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوحيه الله تبارك وتعالى من الأمور التي يدبر بها العالم العلوي والسفلي.
القلم الثالث: قلم التكليف، وهو القلم الموضوع على العبد عند بلوغه، وهذا القلم بأيدي الكرام الكاتبين، وهم الملائكة الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم، ويرفع هذا القلم كما نعلم عن ثلاث، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق. وبالمناسبة فلهذا الحديث قصة يحسن أن تذكر في هذا المقام رواها الإمام أحمد في مسنده، وهو أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ قَدْ زَنَتْ فَأَمَرَ بِرَجْمِهَا فَذَهَبُوا بِهَا لِيَرْجُمُوهَا فَلَقِيَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: مَا هَذِهِ قَالُوا: زَنَتْ فَأَمَرَ عُمَرُ بِرَجْمِهَا فَانْتَزَعَهَا عَلِيٌّ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَرَدَّهُمْ فَرَجَعُوا إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: مَا رَدَّكُمْ قَالُوا: رَدَّنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا فَعَلَ هَذَا عَلِيٌّ إِلَّا لِشَيْءٍ قَدْ عَلِمَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ فَجَاءَ وَهُوَ شِبْهُ الْمُغْضَبِ فَقَالَ: مَا لَكَ رَدَدْتَ هَؤُلَاءِ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ وَعَنْ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَعْقِلَ)) قَالَ بَلَى: قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَإِنَّ هَذِهِ مُبْتَلَاةُ بَنِي فُلَانٍ، فَلَعَلَّهُ أَتَاهَا وَهُوَ بِهَا فَقَالَ عُمَرُ: لَا أَدْرِي، قَالَ: وَأَنَا لَا أَدْرِي فَلَمْ يَرْجُمْهَا. رواه أحمد.
قال شيخ الاسلام: والمجنون إذا صال ولم يندفع صياله إلا بقتله قتل، بل البهيمة إذا صالت ولم يندفع صيالها إلا بقتلها قتلت، وإن كانت مملوكة لم يكن على قاتلها ضمان للمالك عند جمهور العلماء. وحديث رفع القلم عن ثلاثة إنما يدل على رفع الإثم ولا يدل على منع الحد إلا بمقدمة أخرى وهي أن يقال من لا قلم عليه لا حد عليه، وهذه المقدمة فيها خفاء فإن من لا قلم عليه قد يعاقب أحيانا ولا يعاقب أحيانا والفصل بينهما يحتاج إلى علم خفي، ولو استكره المجنون امرأة على نفسها ولم يندفع إلا بقتله فلها قتله، بل عليها ذلك بالسنة واتفاق أهل العلم. انتهى.
وهناك رفع مؤقت لهذا القلم رحمة من الله للعبد المذنب أن يرجع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن صاحب الشمال – يعني الملك الذي عن شمال العبد المختص بكتابة السيئات – ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو المسئ، فإن ندم واستغفر منها ألقاها، وإلا كتب واحدة)).
القلم الرابع: قلم التوقيع عن الله ورسوله، وهو قلم الفقهاء والمفتين، وهذا القلم أيضاً حاكم غير محكوم عليه، فإليه التحاكم في الدماء والأموال والفروج والحقوق، وأصحابه مخبرون عن الله بحكمه الذي حكم به بين عباده، وأصحابه حكام وملوك على أرباب الأقلام، وأقلام العالم خدم لهذا القلم. إن هذا القلم ينبغي له أن لايحابي أحداً، وأن لا يداهن، لأنه قلم التوقيع عن رب العالمين، وعن سيد الأولين والآخرين، فهو القلم الذي عن طريقه يعرف الناس الحلال من الحرام، وما يجب عليهم وما لا يجب، ولو قيّد حرية هذا القلم وأحيط بضغوط وقع الظلم والفوضى الذي لا أول له ولا آخر، وما عرف الناس مراد الله ورسوله في هذه القضية أوتلك المسألة. فيا من حملكم الله مسئولية وأمانة هذا القلم، وهو التوقيع عنه: اتقوا الله تعالى فإنه قلم لايُأخذ إلاّ بحقه، وحقُه ألاّ يخشى صاحبه في الله لومة لائم، وإلاّ فليدع القلم. قال الله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الانسان إنه كان ظلوماً جهولاً .
القلم الخامس: قلم التوقيع عن الملوك ونوابهم، وأصحاب هذه الأقلام لهم مكانة لأنهم المشاركون للملوك في تدبير الدول، فإن صلحت أقلامهم صلحت المملكة، وإن فسدت أقلامهم فسدت المملكة، وأقلامهم هي الواسطة بين الملوك ورعاياهم. أصحاب هذه الأقلام هم وزراء السلطان ونوابه، عن أقلامهم تصدر قرارات الدول، وعن طريقهم تنفذ أو تلغى، ولا يقل أهمية ومسؤلية أصحاب هذه الأقلام عن سابقهم، فأولئك يوقعون عن الله في أمور الشرع، وهؤلاء يوقعون عن السلطان في سياسة الدنيا بحسب ما أمر به الشرع، فهو قلم عظيم، ولا يعطى إلا صاحب دين متين وفقه بأحكام الشرع ليس باليسير. قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم .
القلم السادس: قلم الحساب، وهو القلم الذي تضبط به أموال الميزانيات، مستخرجها ومصاريفها ومقاديرها، وما دخل ومن أين؟ وما خرج وإلى أين؟ وهذا القلم مبناه على الصدق والعدل والأمانة، فإذا كذب هذا القلم وظلم، وأخفى ودلّس، فسد أمر الناس، وضاعت الحقوق، ولذا لايعطى هذا القلم إلا لضابط للحساب، ومستعدٌ ليوم الحساب.
القلم السابع: قلم الشهادة، وهو القلم الذي تحفظ به الحقوق، وتصان عن الإضاعة، وتحول بين الفاجر وإنكاره، هذا القلم، يُصدّق الصادق، ويُكذّب الكاذب، ويشهد للمحق بحقه، وعلى المبطل بباطله، وهو الأمين على الدماء والفروج والأموال والأنساب والحقوق، ومتى خان هذا القلم فسد العالم أعظم فساد، وباستقامته يستقيم أمر العالم، ومبناه على العلم وعدم الكتمان. عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَبَائِرِ قَالَ: ((الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَشَهَادَةُ الزُّور))ِ. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَه)) رواهما البخاري.
القلم الثامن: وهو قلم التعبير، وهو كاتب وحي المنام وتفسيره وتعبيره وما أُريد منه، وهو قلم شريف جليل، مترجم للوحي المنامي، كاشف له، وهو من الأقلام التي تصلح للدين والدنيا، وهو يعتمد على طهارة صاحبه ونزاهته وأمانته، وتحريه للصدق، والطرائق الحميدة، والمناهج السديدة، مع علم راسخ، وصفاء باطن، وحس مؤيد بالنور الإلهي، ومعرفةً بأحوال الخلق وهيآتهم وسيرهم، وهو من ألطف الأقلام، وأعمها جولاناً، وأوسعها تصرفاً، وأشدها تشبثاً بسائر الموجودات، فتصرف هذا القلم في المنام، هو محل ولايته، وكرسي مملكته وسلطانه.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّة)). رواه البخاري. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يعبّر الرؤى لأصحابه، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ مِنْهُ ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالُوا فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْعِلْم)). رواه البخاري. وعنده أيضاً قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي ذَكَرَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ أَنَّهُ وُضِعَ فِي يَدَيَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَفُظِعْتُهُمَا وَكَرِهْتُهُمَا، فَأُذِنَ لِي فَنَفَخْتُهُمَا، فَطَارَا فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَحَدُهُمَا: الْعَنْسِيُّ الَّذِي قَتَلَهُ فَيْرُوزٌ بِالْيَمَنِ، وَالْآخَرُ: مُسَيْلِمَةُ)). وعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنْ الْمَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ، فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَى مَهْيَعَةَ وَهِيَ الْجُحْفَةُ)). رواه البخاري. وهناك باب كامل في صحيح البخاري عن الرؤى وتعبير النبي صلى الله عليه وسلم لها يمكن من أرادها أن يرجع إليها.
القلم التاسع: قلم التاريخ، يكتب تاريخ العالم ووقائعها، ميلادها ووفاتها وهو القلم الذي تضبط به الحوادث، وينتقل من أمة إلى أمة، ومن قرنٍ إلى قرن، لايدع شيئاً من تاريخ الدول إلا سجلها، ولا حدثاً إلا حفظها، فلا يمكن أن ينافق، ولا أن يُخفي، وما فاته قلم مؤرخ، سطره قلم آخر، إنه القلم الذي يحصر ما مضى من العالم وحوادثه في الخيال، وينقشه في النفس حتى كأن القارئ للتاريخ يرى ذلك ويشهده، إن هذا القلم قلم العجائب، لأنه يعيد لك العالم في صورة الخيال فتراه بقلبك، وتشاهده ببصيرتك، والسعيد من وعظ بغيره.
يا جامعي حطب التاريخ في قلم لا تحرقون سوى الأيدي بلا حذر
هلا وعيتم دروس الأمس دامية هلا استجبتم لضم القـوس للوتـر
فالقلب إن يعرف الايمان نبضته كان الجناحان ملئ السمع والبصر
القلم العاشر: قلم اللغة، وهذا القلم يشرح معاني ألفاظ اللغة وتصريفها، وأسرار تراكيبها، وما يتبع ذلك من أحوالها ووجوهها، وأنواع دلالاتها، وهو قلم التعبير عن المعاني باختيار أحسن الألفاظ، وأعذبها وأسهلها وأوضحها، وهذا القلم واسع جداً بحسب سعة الألفاظ وكثرة مجاريها وتنوعها، وبحسب صاحب القلم مما أعطاه الله من ملكة واستحضار.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه. . .
|