أما بعد:
إن صراع المسلمين مع الروم صراع قديم بدأ مع غزوة مؤتة، إن أول التقاء مع النصرانية كانت في مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة ،وكان سببها هو مقتل مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابي الحارث بن عمرو الأزدي رضي الله عنه بكتاب إلى ملك الروم بالشام والذي تم قتله من قبل حليف الروم شرحبيل بن عمرو الغساني ،الملك على أطراف الشام. لقد كان لقتل رسول رسول الله ،أكبر الأثر في نفس رسول الله فما كان منه صلوات ربي وسلامه عليه إلا أن بَعَث بَعّث مؤتة بقيادة ثلاثة من كبار الصحابة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة كان عدد المسلمين ثلاثة آلاف رجل ،فجمع النصارى جيشاً عدده مائة ألف رجل، وانضم إليهم من قبائل العرب لخم وجذام وغيرهم ،التقى الفريقان في قرية من قرى البلقاء في الشام ،وانتهت المعركة بانسحاب الجيش المسلم بدون هزيمة ،وقذف الرعب في قلوب الروم النصارى والخوف من هذه القوة الجديدة التي ظهرت في جزيرة العرب ،حتى أن بعض حلفاء الروم من العرب أفزعهم نبأ هذه الغزوة ،فسارعوا إلى عقد الصلح مع الرسول صلى الله عليه وسلم ودفع الجزية ،وقبل هذه الغزوة بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسائل إلى ملوك عصره يدعوهم للإسلام ،فكان من جملة ما كتب رسالته إلى قيصر ملك الروم.
(بسم الله الرحمن الرحيم ،من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم ،سلام على من اتبع الهدى أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام ،أسلم تسلم ،وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ،ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئاً ولا يتخذ بعضكم بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). إن هذا الكتاب الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم يمثل الإعلان الدائم والمستمر على أن الصراع بين الإسلام والنصرانية سيبقى ،لأن الشرط الذي في هذا الكتاب هو قبول الإسلام والخروج من النصرانية بل والتخلي عن الزعامة ،وهل سيقبل النصارى بهذا ،وزعامة العالم اليوم بأيديهم.
أما نحن المسلمون ،فواجب علينا تحقيق هذا الكتاب ،والسعي لتنفيذه ،وبذل كل غالٍ ورخيص في سبيل الوصول إليه.
أيها المسلمون: ينبغي أن نعلم بأن من سنن الله الثابتة في هذا الكون ،هو ديمومة الصراع مع النصارى ،وأنه سيستمر إلى نهاية العالم.وقد ورد ما يشير إلى بقاء هذا الصراع في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق غير مباشر حيث قال: فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين. والأصرح منه قول الله تعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون . إذاً صراع الإسلام والنصرانية سيستمر إلى قيام الساعة وهو فتنة ،ابتلى الله بها المسلمون ،وهذا قدرهم وما عليهم إلا الصبر والمواجهة.
وإليكم أيها الأحبة بعضاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها الإشارة إلى استمرار هذا الصراع ،وأنه يأخذ منحى المداولة، فتارة تكون الغلبة لهم، وتارة تكون الغلبة عليهم ،وأن هذا الصراع ينتهي بانتهاء الروم وانعدام النصرانية، وانتصار الحق في نهاية مسيرة الحياة الإنسانية والتي تعقبها نهاية العالم.وقبل استعراض بعض هذه الأحاديث ينبغي أن نعلم بأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ما هو إلا إرشاد للأمة من جانبين:
الأول: تنمية وتقوية الإحساس بالخطر النصراني حتى لا يستكين المسلمون لهم.
الجانب الثاني: تثبيت الإيمان لدى المسلم ،وألا يفقد الثقة بنفسه حتى في فترات زهو النصرانية وتصدرها الزعامة ،وليعلم بأنها مرحلة، وتكون النهاية للإسلام وأهله ،وللدين وأتباعه ،وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. إن هذه الأحاديث عباد الله ،تمثل المصل الواقي ،وتمثل الترياق الذي يحافظ على الأمة كيانها في فترات الضعف والذل والهوان كما هو في عصرنا الحاضر.
الحديث الأول: روى الحاكم في مستدركه بسنده عن كثير عن عبد الله عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((لا تذهب الدنيا يا علي بن أبي طالب قال عليّ: لبيك يا رسول الله. قال: أعلم أنكم ستقاتلون بني الأصفر ويقاتلهم من بعدكم من المؤمنين، وتخرج إليهم روقة المؤمنين أهل الحجاز الذين يجاهدون في سبيل الله لا تأخذهم في الله لومة لائم حتى يفتح الله عز وجل عليهم قسطنطينية ورومية بالتسبيح والتكبير، فينهدم حصنها فيصيبون نيلا عظيما لم يصيبوا قبله قط حتى أنهم يقتسمون بالترس، ثم يصرخ صارخ يا أهل الإسلام قد خرج المسيح الدجال في بلادكم وذراريكم، فينفض الناس عن المال، فمنهم الآخذ ومنهم التارك، فالآخذ نادم، والتارك نادم يقولون من هذا الصائح؟ فلا يعلمون من هو. فيقولون: ابعثوا طليعة إلى لد فإن يكن المسيح قد خرج فيأتوكم بعلمه، فيأتون فينظرون، فلا يرون شيئاً، ويرون الناس شاكين، فيقولون ما صرخ الصارخ إلا لنبأ فاعتزموا ثم أرشدوا فيعتزمون أن نخرج بأجمعنا إلى لد فإن يكن بها المسيح الدجال نقاتله حتى يحكم الله بيننا وبينه وهو خير الحاكمين، وإن يكن الأخرى فإنها بلادكم وعشائركم وعساكركم رجعتم إليها)). هذا الحديث يؤكد حقيقة أن الصراع مع الروم لن ينقطع بل إنه صراع دائم أساسه البعد الثقافي المرتكز على البعد الديني ،ولهذا فإن ديمومة الصراع سوف تستمر حتى ينتهي الأمر بغزو معقل النصارى وفتح مدينة روما وما يسبقها من مدن باستعادة السيطرة عليها من قبل المسلمين. كما يؤكد هذا الحديث أن الدولة الإسلامية سوف تنبعث من الجزيرة العربية كما انبعثت في الماضي، وستعود لها السيطرة على الأرض كما حدث في الماضي، لهذا فإن صراع الروم مع المسلمين في هذا العصر يرتكز على تحطيم القيم والمبادئ والعمل على غزو جزيرة العرب فكرياً بعد أن سقط ما حولها من قلاع المسلمين.
الحديث الثاني: وهو يؤيد هذا الحديث رواه الحاكم بسنده عن سهل عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق، فيخرج إليهم جلب من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم خلوا بيننا وبين الذين سُبُوا منا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا، ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله عز وجل، ويصبح ثلث لا يفتنون أبدا، فيبلغون القسطنطينية فيفتحون، فبينما هم يقسمون غنائمهم وقد علقوا سلاحهم بالزيتون إذ صاح الشيطان إن المسيح قد خلفكم في أهليكم)). في هذا الحديث إشارة إلى أنه يسبق المعركة معارك يغنم فيها المسلمون غنائم من بينها أسرى وهؤلاء الأسرى يُسلمون ويكونون في صفوف المسلمين. لهذا يرغب الروم في قتال أبناء جنسهم ،لكن المسلمين يمتنعون عن ذلك، ثم تنتهي المعركة بفتح القسطنطينية، وهذا الفتح ليس هو الفتح الأول الذي كان على يد محمد الفاتح.
الحديث الثالث: روى الحاكم بسنده عن يحيى بن أيوب عن أبي قبيل سمع عبد الله بن عمرو يقول لنا ،كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسُئل أي المدينتين تفتح أولاً ،يعني القسطنطينية والرومية فقال: ((مدينة هرقل أولاً)) ، يعني القسطنطينية. يشير هذا الحديث إلى أنه سيكون هناك فتح لكلتا المدينتين فالأولى فتحت ،وبقيت تحت سيطرة المسلمون فترة من الزمن ثم سُلبت ،وهناك ما يشير إلى أنه سيعاد فتحها ثانية ،وترجع في حوزة الدولة الإسلامية ،وستُفتح روما أيضاً.
الحديث الرابع: حديث نافع بن عيينة عن الإمام أحمد عن جابر بن سمرة قال: ((كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فأتاه قوم من قبل الغرب عليهم ثياب الصوف فواقفوه عن أكمة وهم قيام وهو قاعد ،فآتيته فقمت بينهم وبينه ،فحفظت منه أربع كلمات أعُدهن في يدي ،قال تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم تغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله ،قال نافع يا جابر، ألا ترى أن الدجال لا يخرج حتى تفتح الروم)). وقد روى هذا الحديث الإمام مسلم بلفظ قريب من هذا ،في هذا الحديث إشارة إلى تدرج الفتح ،وقد تحقق فتح جزيرة العرب وفارس ،فلم يبق من بلاد فارس جزء لم يكن تحت الولاية الإسلامية ،أما الروم فلا زال الصراع معهم ،ولا زال جزء من بلاد الروم لم يفتح ،وخاصة معقل النصرانية الديني وهو روما ،فالصراع معهم مستمر ،فتارة يدال للمسلمين عليهم ،وأخرى يدال للنصارى على المسلمين، ولازال مركز القيادة الروحية للنصارى لم يفتح. كما أن الحديث يشير إلى أن الصراع مع الروم وخضوعهم للدولة الإسلامية سوف لن يتحقق إلا قرب خروج الدجال ،وقد يكون السر في ذلك والله أعلم هو أن البعد الروحي للنصارى مقترن بالدجال ،لأن العقيدة النصرانية قائمة على الاعتقاد بعيسى وبعودته إلى الأرض. وعودته عليه السلام مقترنة بخروج الدجال، ولهذا فإن الصراع معهم مستمر ،وإن هزيمتهم ستكون الحلقة الأخيرة التي تسبق الدجال. فنسأل الله جل وتعالى أن يعصمنا من الفتن
ما ظهر منها وما بطن كما نسأله جل وتعالى، أن يعز دينه ويعلي كلمته ،وينصر أولياءه وأن يعجل بفرج هذه الأمة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|