أما بعد :
فإن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على النفس من وقع الحسام المهند
وإن هذا الظلم ليتخذ صوراً شتى وأنواعاً مختلفة ، ومن أعظم هذه الأنواع خطراً ظلم الإنسان لمن جعل الله ولايته في يده كظلم الوصي للأرملة واليتيم ، وكظلم الزوج للزوجة والأولاد ونكتفي اليوم بذكر ظلم الولي لموليته في النكاح ، فقد فشا هذا النوع من الظلم في بعض أوساط المجتمع فخطره يشتد ونذره تمتد وآثاره تحتد.
لقد جعل الله سبحانه وتعالى ولاية النكاح في يد الرجل أبا كان أم ابنا ، أخاً كان أم أي قريب ذكر آخر له ولاية على امرأة وجعل الله هذه الولاية بيد الرجل لأنه أوفر عقلاً وأكثر حزماً وأبعد نظراً فعقله وعاطفته في توازن يمنع المرأة عن الزلل فى اختيار الزوج وهذا الولي لا يقوم بواجبه الذي أناطه الله به إذا عضل أي : منع موليته من النكاح أو زوجها بغير الكفء ، إذ هو بفعله هذا لا يذكر وصية رسول الله عندما يقول ، فيما أخرجه البخاري: (( استوصوا بالنساء ))، وهو - وفيما يرويه الإمام أحمد وابن ماجه – يقول: (( اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة )).
إن لتزويج المرأة بغير الكفء أو منعها من الزواج بالكفء أسباباً منها : النعرة القبلية ، والعصبية الجاهلية ، فالحبيب يقول: (( إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض )) رواه الترمذي وابن ماجه.
ولم يقل إذا أتاكم من ترضون قبيلته أو طبقته الاجتماعية . ونسمع ونرى عجباً من تحكم موازين جاهلية في هذه القضية فهذا قبلي وهذا حضري وذلك بدوي ، وما علم هؤلاء أن أشرف العرب زوجوا بلالاً مؤذن رسول الله وهو عبد حبشي ، وزيد بن حارثة مولى رسول الله تزوج القرشية ذات النسب والحسب زينب بنت جحش ويقول المصطفى عن هذه العصبية التي تفرق ولا تجمع وتضر ولا تنفع: (( دعوها فإنها منتنه )).
وقد يعضل الرجل مولاته عن النكاح طعماً في مهر أكبر وميزات أكثر مما دفعه الكفء فتنقلب المرأة المسكينة إلى سلعة تباع وتشترى وربما دفع المهر الأكبر الولي إلى تزويج المسكينة من رجل في سن أبيها أو أكبر ، ولا يعلم الولي أن هذا الزوج المسن ربما لا يشبع رغبات هذه المرأة الفطرية الجنسية فتطلب ما يشبع رغبتها عن طريق الحرام ، ثم لا تلبث بعد أن يهن جسد زوجها المسن وتذهب قواه أن تصبح خادمة له في بيته تنتظر موته فلا حول ولا قوة إلا بالله .
وقد يمنع الولي المرأة من النكاح استغلالاً لها في خدمة البيت أو استغلالاً لراتبها إذا كانت موظفة إذ أن زواجها يمنع هاتين الاستفادتين ، أو ربما منعها أنانية وحباً للنفس ، فالأب متيم بحب ابنته ، وشغوف بها لا يطيق فراقها فيبقيها عانساً في بيته يحرمها من متعة الزوج وإنجاب الذرية ، وعطف الأمومة ، ويقف سداً منيعاً أمام أسرة تمد الأمة بزادها من الرجال والنساء .
ونغمة جديدة أصبحنا اليوم نسمعها كحجة لمنع الفتاة من الزواج ألا وهي إكمال الفتاة تعليمها العالي ، فنرى الأب أو الأم يحبان أن يفخرا في المجتمع بذكر ابنتهما الحاصلة على الدرجات العلمية العالية ثم يفوتها ركب الزواج فتملأ الحسرة قلب الأبوين وقلبـها ، ويندم الجميع حين لا ينفع الندم . يكفي المرأة المسلمة أن تتعلم ما تطيع به ربها وتكمل به عبادتها وتحسن به التبعل لزوجها وتعي التيارات الهدامة من حولها ، الرامية لإخراجها عن كونها أنثى مؤمنة إلى سلعة فاتنة مضلة هادمة ، وما زاد عن قدر هذا العلم فهو من قبيل فرض الكفاية لا بأس به إن لم يتعارض مع واجب أهم وهدف أسمى وأكبر .
وفي مقابل من يمنع موليته عن الزواج نجد من لا يتريث ويتحرى في اختيار الزوج فهو يدفعها لأول طارق طرق بابه وكأنها حمل ثقيل ناء به كاهله ، واشتد على ظهره ، فكم من عجلة يعقبها ندم طويل وحياة مريرة .
ما يلبث الولي أن يكتشف فيما بعد الزواج أن هذا الزوج فاسق وماجن مبتلى بالشراب أو بشلة سيئة من الأصحاب أو يكتشف أنه ممن تعود السفر إلى بلاد الفجور والعهر ليتمتع من الشهوة الحرام، ولربما عاد يحمل مرضاً جنسياً خطيراً من الأمراض التي تملأ تلك البلاد فيزرع هذا المرض في رحم زوجته المسكينة البريئة وليسري المرض في ذريتها إلى قيام الساعة فلله كم يحمل هذا الولي في دفع ابنته لغير الكفء من وزر وإثم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
|