أما بعد:
فيا أيها الناس اتقوا الله واعلموا أن شأن اليمين عند الله عظيم وخطر التساهل بها جسيم . فليس اليمين مجرد كلمة تمر على اللسان . ولكنها عهد وميثاق ينتهي عند حده . ويجب أن يوافى حقه.
قال : (( من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض ، ومن لم يرض بالله فليس من الله )) والله تعالى يقول: واحفظوا أيمانكم [المائدة:89]. قال ابن عباس: يريد ( لا تحلفوا ) فيكون معنى الآية على هذا هو النهي عن الحلف، فلا ينبغي للإنسان التسرع إلى اليمين إلا عند الحاجة .
كثرة الحلف تدل على الاستخفاف بالمحلوف به، وعدم تعظيمه. وكثرة الحلف بالباطل من صفات الكفار والمنافقين قال الله تعالى: ولا تطع كل حلاف مهين [القلم:10]. فنهى نبيه عن طاعة الحلاف وهو كثير الحلف.
وقال عز وجل عن المنافقين: ويحلفون على الكذب وهم يعلمون [المجادلة:14]. وقال عنهم: اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله [المجادلة:16]. أي جعلوا الأيمـان وقاية يتقون بها ما يكرهون ويخدعون بها المؤمنين.
ومن قبلهم حلـف إبليـس لآدم وزوجـه ليخدعهما باليمين. قال الله تعالى عنه: وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين [الأعراف:21].
أي: أقسـم لهمـا أنه يـريد لهما النصح والمصلحة: فدلاهما بغرور [الأعراف:22]. أي خدعهما بذلك القسم وأوقعهما في المعصية والمصيبة.
معشر المؤمنين: ومن الاستخفاف باليمين أن يتخذ وسيلة لترويج السلع، قال النبي : (( الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة )). رواه البخاري ومسلم. ومعناه: أن يحلف صاحب السلعة أنه أعطي فيها كذا وكذا أو أنه اشتراها بكذا وكذا، وهو كاذب في الحلف عاص لله آخذ للزيادة بغير حق فيعاقبه الله بمحق البركة من كسبه وربما يتلف الله ماله كله .
وقال : (( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان ، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيـع إلا بيمينـه )) رواه الطبراني ورجـاله رجال الصحيح.
ومعنى ( جعل الله بضاعته ) أي جعل الحلف بالله وسيلة لترويج بضائعه، فيكثر من الأيمان ليخدع الناس فيشتروا منه اعتماداً على يمينه الكاذبة فكان جزاؤه إعراض الله عنه يوم القيامة . فلا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم .
وانظر – أخي المؤمن – كيف قرن بالزاني والمستكبر مما يدل على عظم جريمته نعوذ بالله من غضبه وعقابه .
وقد يتساهل بعض الناس بالأيمان في مجال الخصومات والتقاضي فيحلف الخصم ليكسب القضية ويتغلب على خصمه بالباطل دون مبالاة بحرمة اليمين والجراءة على رب العالمين.
واسمعوا ما ورد في حق هذا من الوعيد الشديد. قال تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكـلمهم الله ولا ينظـر إليـهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم [ سورة آل عمران:77].
وروى الإمام أحمد والنسائي: (( أن رجلاً من كندة يقال له : امرؤ القيس خاصم رجلا من حضرموت إلى رسول الله في أرض فقضى على الحضرمي بالبينة فلم تكن له بينة فقضى على امرئ القيس باليمين . فقال الحضرمي : أمكنته من اليمين يا رسول الله ؟ ذهبت ورب الكعبة أرضي فقال رسول الله : من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان ، وتلا رسول الله : إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً … الآية )) [سورة آل عمران:77].
وروى الإمام مسلم في صحيحه : (( أن رسول الله قال: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل: وإن كان شيئاً يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك ))، وروى البخاري في صحيحه: (( أن أعرابياً جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال : الإشراك بالله قال : ثم ماذا ؟ قال : اليمين الغموس. قلت: وما اليمين الغموس ؟ قال : الذي يقطع مال امرئ مسلم يعني بيمين هو فيها كاذب )).
عباد الله : ومن الأيمان المنهي عنها اليمين التي يحلف بها المسلم ليمتنع بها من فعل الخير قال تعالى: ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله [النور:22]. أي لا تحلفـوا ألا تصلوا قرابتكم وألا تتصدقوا على المساكين والمحتاجين.
وإذا حلف الإنسان على ألا يفعل الخير، فإنه يشرع له أن ينقض يمينه ويفعل ما حلف على تركه ويكفر عن يمينه قال الله تعالى:
ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم [البقرة:224].
أي لا تجعلوا أيمانكم بالله مانعة لكم من البر والصلة للرحم إذا حلفتم على تركها، وذلك بأن يدعى أحدكم إلى صلة رحمه أو عمل بر فيمتنع ويقول: حلفت ألا أفعله، وتكون اليمين مانعة له من فعل الخير بل يكفر عن يمينه ويفعل الخير .
وفي الصحيحينعن النبي : (( إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ))
وإذا حلف على ترك مباح كلبس ثوب أو ركوب دابة أو أكل طعام ونحو ذلك فإنه يخير بين الاستمرار على يمينه وترك المحلوف عليه أو استعماله والتكفير عن يمينه قال الله تعالى: قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [التحريم:2]. أي شرع تحليلها بالكفارة وهو ما ذكره تعالى في سورة المائدة إذ يقول: فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم [المائدة:89]. فكفارة اليمين فيها تخيير وترتيب.
|