.

اليوم م الموافق ‏25/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

اتباع لا ابتداع

209

قضايا في الاعتقاد

البدع والمحدثات

عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي

عنيزة

27/5/1419

جامع السلام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- ابن مسعود ينهى عن الابتداع في الدين. 2- أحدايث في ذم الابتداع. 3- دعوة للتمسك بالكتاب والسنة. 4- التحذير من مخالفة هدي النبي .

الخطبة الأولى

 

أما بعد:

فيا عباد الله، اتقوا الله ـ تعالى ـ وتوبوا إليه، أخرج الدارمي بسند صحيح أن أبا موسى الأشعري قال لابن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فيقول: هللوا مائة فيهللون مائة فيقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم شيء، ثم أتى حلقة من تلك الحلق فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون قالوا: يا أبا عبد الرحمن، حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، قال: فعدوا سيئاتكم فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم! هؤلاء أصحابه متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، والذي نفسي بيده أنتم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد، أو مفتتحوا باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم مريد للخير لم يصبه[1].

أيها المؤمنون، العبادات في الإسلام تتوقف على أصلين مهمين: الأول: الإخلاص لله ـ تعالى ـ في أي عبادة يقوم بها العبد والثاني المتابعة في هذه العبادة لرسول الله باتباعه فيها وعدم الابتداع بها، وقد سبق لنا الحديث في الخطبة الماضية عن الإخلاص ونحن نتحدث اليوم عن الاتباع وعدم الابتداع.

عباد الله، لقد أكمل الله للأمة هذا الدين ورضيه وأتم به نعمته، وكتاب الله وسنة رسوله محمد لم يتركا في سبيل الله الهداية قولا لقائل، ولم يدعا مجالا لمتشرع، العاقد عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى، ظافر بخيري الدنيا والآخرة، ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناًً [المائدة:3].

عن النبي أنه قال: ((ما تركت شيئا يقربكم الله إلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئا يبعدكم عن الله إلا وقد نهيتكم عنه)) رواه الطبراني بإسناد صحيح[2].

كل عبادات المتعبدين يجب أن تكون محكومة بحكم الشرع في أمره ونهيه، جارية على نهجه موافقة لطريقته، وما سوى ذلك فمردود على صاحبه، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله  : ((من عمل  عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) متفق عليه[3].

الشرع الحكيم رسم للعبادات والتكاليف طرقا خاصة على وجوه خاصة زمانا ومكانا، هيئة وعددا، وقصرا لخلق عليها أمرا ونهيا، وعدا ووعيدا، وأخبر أن الخير فيها والشر في تجاوزها وتعديها، قال أهل العلم: من زعم أن ثمة طرقا أخرى للعبادات وعَبَد الله بمستحسنات العقول، فقد قدح في كمال هذا الدين وخالف ما جاء به المصطفى الأمين، وكأنه يستدرك على الشريعة نقائص لم يفطن إليها الشارع، قال مالك ـ رحمه الله ـ: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة لأن الله تعالى يقول: ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]. فما لم يكن يومئذ دينا، فلا يكون اليوم دينا " أ. هـ كلامه ـ رحمه الله ـ.

إن الابتداع وتلمس المسالك والطرق التي لم تشرع معاندة للشرع ومشاقة له، وهو محض اتباع الهوى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ٱتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ [القصص:50].

ولئن قصد صاحب البدعة ببدعته التقرب إلى الله والمبالغة في التعبد، فليعلم أن في هذا مداخل للشيطان عريضة في مسالك ملتوية ووسوسات مميلة، وإنَّ قصداً في سنة خير من اجتهاد في بدعة.

أيها الأخوة المؤمنون، لا شك أن من معاني الخير العظيمة المعجزة في هذا الدين أن بقي رونق الإسلام زاهيا ونوره مشرقا، بالرغم مما مر عليه طوال هذه السنين من حروب ومكائد خفية وظاهرة، وكم هي كثيرة تلك الأديان والعقائد التي لم تصمد أمام التاريخ فحرفت وتغيرت، لكن الإسلام ـ ما زال بحماية الله ـ نقيا صافيا، رغم دسائس الأعداء من داخله وخارجه الذين يريدون القضاء عليه بشتى الوسائل والمحاولات، وإن من هذه الدسائس ما هو للقضاء على الدين باسم الدين، وذلكم بأن تحدث أمور تزاد في الدين وهي ليست منه فهذه هي البدعة التي حذرنا الله منها وبين خطرها، وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]. ويقول ـ جل وعلا ـ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38].

ويقول : ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي))[4]، ويقول محذرا وموصيا: ((فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))[5].

يقول عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله وولاة الأمور من بعده ـ أي الخلفاء الراشدين ـ سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستعمال لطاعة الله  وقوة على دين الله، ليس لأحد تغيير فيها، ولا النظر في رأي يخالفها، من اقتدى بها فهو مهتد، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا"ا.هـ كلامه ـ رحمه الله ـ.

إخوة الإيمان، حين نتأمل هذه النصوص العظيمة وغيرَها، نجد الأمر واضحا باتباع الكتاب والسنة والنهي ملزما الابتعاد عن الابتداع والمبتدعين، فالبدعة إذاً هي كل ما أحدث في الدين وهو ليس منه وليس له دليل من كتاب الله وسنة رسوله أو خلفائه الراشدين وهي خاصة بالعبادات، أما بالنسبة للعادات الدنيوية على اختلاف أنواعها فهي مباحة؛ لأن الأصل في العادات والمنافع الحل إلا ما ترتب عليه ضرر واستخدم في محرم أو جاء دليل على تحريمه، كما يجب أن نعلم أن الإحداث في الدين بدعة ولو مالت القلوب وأحبتها. ولقد ضلت أمم كثيرة لأنها فتحت باب الهوى لنفسها في الدين لما رأى عمر بن الخطاب عن بعض الرهبان من النصارى وتزهدهم ورهبنتهم بكى، فقيل له: يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكر ـ قوله تعالى ـ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَـٰشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَىٰ نَاراً حَامِيَةً [الغاشية2-4].

أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰتٍ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون [فاطر:8].

إن غير سبيل المؤمنين نزعات وأهواء وضلال عن الجادة وشق لعصا الطاعة ومفارقة للجماعة. فاتقوا لله ـ عباد الله ـ واعلموا أن في ظهور البدع انطماسا لسنن، فالسعيد من عض على السنة بالنواجذ فأحياها ودعا إليها واطمأن بها قلبه فرد الله به مبتدعا، وهدى به زائغا، وأنقذ به حائرا.

كتب عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ إلى عدي بن أرطاة بشأن بعض القدرية فقال: "أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه   وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت به سنة، فعليك بلزوم السنة، فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر ناقد كفوا، وهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل كانوا فيه أحرى، فهم السابقون، تكلموا بما يكفي ووصفوا ما يشفي، فما دونهم مقصر، وما فوقهم محسر، لقد قصّر فيهم قوم فجفوا، وتجاوز آخرون فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم" ا.هـ كلامه ـ رحمه الله ـ.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ثُمَّ جَعَلْنَـٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلْمُتَّقِينَ [الجاثية:18، 19].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..




[1]  سنن الدارمي ح (204) وذكر الحديث، وفي آخره قال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحِلق، يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج.

[2]  المعجم الكبير للطبراني ح (1647)، ولفظه:  ((ما بقي شيء يقرّب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيّن لكم)). وانظر السلسلة الصحيحة (1803).

[3]  أخرجه مسلم ح (1718) بهذا اللفظ . ولفظ البخاري (2697): ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)).

[4]  صحيح، أخرجه الترمذي ح (3788).

[5]  صحيح، أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود ح (4607)، والترمذي ح (2676) وقال: حسن صحيح، والدارمي ح (95).

الخطبة الثانية

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد:

فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعةٌ وكل بدعة ضلالةٌ وكل ضلالة في النار، فاتبعوا ـ رحكم الله ـ ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ولا  تبتدعوا  فقد كفيتم، قال حذيفة بن اليمان : "كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله فلا تتعبدوها فإن الأول لم يَدَع للآخر مقالا".

وإننا حين نتحدث عن البدعة ونستعرض هذه النصوص وغيرها مما هو في كتاب الله وسنة رسوله، لننظر بعين الأسف والحسرة للحالة التي وصل إليها كثير من طوائف المسلمين، حيث انتشرت البدعة فيهم، وأصبح لها أنصار وأتباع، بل ومع الأسف علماء يسوغون ضلالها ويُروّجون لها تعصبا وعمى عن حقيقة هذا الدين وجوهره، فانتشرت البدعة لدى المسلمين فنتج عنها تفرق المسلمين وشتات دينهم في نفوسهم حيث تحلقوا ببدع عليها يوالون ويعادون، ولذلك فإنه يجب علينا أن نحذر ونحذر دائما من الوقوع في شرك الابتداع كما ضل كثير من الناس وأن لا تأخذنا العاطفة في تقويم البدعة والحكم عليها، وأن يكون علاجنا لها مبنيا على حكمة وحسن توجيه.

جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس ـ رحمه الله ـ فقال: من أين أُحرم للحج؟ قال: من حيث أحرم رسول الله ، قال الرجل: فإن أحرمت قبل ذلك؟ قال: فلا تفعل فقال الرجل: ما تكره من ذلك؟ قال: أكره عليك الفتنة قال الرجل: وأي فتنة في أميال، أزيد بها من الخير فقال مالك: فإن الله تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم [النور:63]. وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك خُصِصْت بفضل لم يُخص به رسول الله أو ترى أنه قد قصر فيه.

فاتقوا الله ـ يرحمكم الله ـ وخذوا بالنهج الأول وعليكم بالاتباع وابتعدوا عن الابتداع.

وصلوا وسلموا يا عباد الله...

 

 

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً