.

اليوم م الموافق ‏25/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

الإحسان

203

الرقاق والأخلاق والآداب, فقه

الآداب والحقوق العامة, المساجد

عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي

عنيزة

16/6/1418

جامع السلام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- فضل الإحسان. 2- مجالات الإحسان. 3- دور المسجد في الإسلام.

الخطبة الأولى

 

أما بعد:

فيا إخوة الإيمان، الحديث النبوي المنبعث من مشكاة النبوة يحمل النفس المؤمنة على أن تعرف أسراره وتستضيء بأنواره وتستهدي بهديه...

روى عمر الفاروق قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا ُيرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام. فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)). قال: صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال : فأخبرني عن الإيمان. قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)). قال: صدقت، فأخبرني عن الإحسان. قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)). قال : فأخبرني عن الساعة. قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)). قال: فأخبرني عن أماراتها. قال : ((أن تلد الأَمَة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رِعاء الشاء يتطاولون في البنيان)) ثم انطلق، فلبثت مليًا، ثم قال: يا عمر، أتدري من السائل قال: الله ورسوله أعلم. قال: ((فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم))) رواه مسلم[1].

إخوة الإيمان:

تنشئة النفس المؤمنة وتربيتها على البر والتقوى، والعفة والأمانة، والخوف والمراقبة هي وحدها الطريقة العملية الممكنة لمعالجة الشر والانحراف لدى الفرد والمجتمع المسلم.

يشب الطفل على الخلق الكريم والنهج القويم إذا ما عُهِدَ بالتوجيه والتقويم، وينشأ شريرًا خطرًا على نفسه وعلى المجتمع إذا أهمل أمره وترك، وأعظم ما ينشأ الإنسان ويربى عليه هو مراقبة الله والخوف منه، وذلك هو الإحسان (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، إنه تعبير عجيب يحمل في اختصاره حقيقة هائلة وخلة مذهلة.

عباد الله :

الإسلام دين إحسان وإكرام وتكاتف وترابط وتعاون على البر والتقوى، بل وتجاوز وتسامح ما لم تنتهك حرمات الله، وقد أمر الله بالإحسان في غير ما آية من كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله : يقول جل وعلا:وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195] ويقول: وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 77]، ويقول تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ [النحل: 90].

وروى مسلم عن رسول الله أنه قال: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء)) [2] ويرغب جل وعلا في الإحسان ويبين آثاره وجزاءه وعظم مردوده في أهله في الآجل والعاجل، لتتسارع النفوس الخيرة إليه، وتتسابق في طلب ما وعد الله به أهله في الآخرة، من درجات عالية ولذة دائمة ونعيم سرمدي، مع حفظ الله لهم ونصره على من ناوأهم أو خالفهم، لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ [يونس:26]. وقال: إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128].

الإحسان ـ عباد الله ـ قاعدة عظيمة يقيم عليها الإسلام بناءه، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قاعدة يقيم عليها الإسلام نظمه كلها وتشريعاته وتوجيهاته، العابد في عبادته من صلاة وصيام وصدقة ونسك، بل القضاة في قضائهم، والتُجار في اقتصادهم، والساسة في سياستهم، والآباء والأولياء في أسرهم، فنظام المجتمعات بأسرها والحياة كلها، أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، تعبد الله بكل جارحة وكل خلجة بالظاهر والباطن بالسر والعلن، تعبد الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .

والمسلم إذا عبد الله في عمله كأنه يراه، فإنه يستحضر قرب الله منه، ويوجب له الخشية والخوف منه والهيبة والتعظيم له، وذلك أفضل الإيمان، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: ((أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث كنت)) رواه الطبراني[3].

أيها المسلمون:

الإحسان الذي أمر الله به، هو ترك المنهيات خوف عقاب الله، وفعل ما يستطاع من المأمورات رجاء ثواب الله، خوف ورجاء.

مقام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والإحسان الذي أمر الله به إحسان المسلم إلى نفسه بتزكية النفس بطاعة الله، وتصفية وتنقية عقيدتها من شوائب الشرك والبدع والمحدثات، بل وحفظها وحمايتها مما قد يعرضها لسخط الله وأليم عقابه.

الإحسان الذي أمر الله به الإحسان إلى عباد الله كافة، سيما ذوي الضعف والفاقة والمسكنة والحاجة واليتم من المسلمين وفي مقدمة ذلك الإحسان إلى الوالدين وذوي القربى: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الاسراء:23، 24]. ويقول جل وعلا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83].

من الإحسان: الإحسان إلى كل ذي كبد رطبة، من حيوان وطير وغير ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: ((دخلت النار امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض)) رواه مسلم[4]، وغفر الله لبغيٍّ من بني إسرائيل؛ لأنها سقت كلبا كاد يقتله العطش، كما قاله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم[5].

وإن من أعظم آثار الإحسان نفعا ،الإحسان إلى من ولاَّك الله أمره بسياستهم بكتاب الله وسنة رسوله ، مع البعد عن كل ما فيه حرج وعنت وإيغار للصدور وإهمال وظلم، وبهذا الإحسان يتحقق الخير والترابط والثناء والمحبة والولاء .

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم         فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

إن الإحسان كما فسره ينبغي أن يتجلى في الأمة بعامة، وفي كل شأن من شؤونها .

فالعابد في عبادته لله وصلاته في محرابه، يلتزم بالإحسان، فلا يعبد الله في العلن ويعصيه في السر.

وإذا خلـوت بريبـة في ظلمة         والنفس داعية إلى الطغيان

فَاسْتَحْي من نظر الإله وقل لها         إن الذي خلق الظلام يراني

والعالم المسلم هو أولى الناس بالإحسان، وأقرب الناس إلى الإحسان، وأكثر الناس دعوة إليه، فالعالم الرباني هو من تحقق فيه ذلك، فجمّل علمه بالعمل به، وطلب علمه رغبة بثواب الله ودرجاته العُلاَ والقرب منه، والزلفى لديه، قال سفيان الثوري رحمه الله : " إنما فُضِّل العلم لأنه يُتقى به الله وإلا كان كسائر الأشياء ".

وهكذا إحسان التاجر المسلم في تجارته واقتصاده، بالبعد عن المعاملات المحرمة وعن الغش والخديعة، ونشر السماحة والصدق .

الإحسان هو التزام الموظف في وظيفته بوقتها، وبحسن الاستقبال، وأداء الواجب على أكمل وجه.

الإحسان هو عدل الحاكم في حكومته، ونزاهة القاضي في محكمته، وهو البعد عن الظلم والجور.

الإحسان هو معاملة الناس بالحسنى والالتزام بالخلق الفاضل.

الإحسان هو أن يعاشر الزوجان بعضهما بالمعروف، ويحملها الإحسان على أن يصون كل منهما عرض الآخر في غيبته.

الإحسان تربية يغرسها الإسلام في أفراده ويوجهنا إلى غرسها فيمن حولنا ليبني كل واحد منهم حياته بنفسه، فيقوم بما أوجبه الله عليه ويترك ما نهاه الله عنه، غير معتمد على مدح الناس لعبادته ولطاعته أو على ذمهم عليه لإفراطه ومعصيته.

فالإحسان هو التربية الذاتية .

إن الإحسان كتبه الله عز وجل في كل شيء، وجميع العلوم والمعارف ترجع إليه وتدخل تحته، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، ولْيُرحْ ذبيحته)) رواه مسلم[6].

فاتقوا الله أيها المسلمون وراقبوا ربكم، وتخلقوا بالإحسان تفلحوا، وتفوزوا بوعد الله لكم، أحسنوا في نفوسكم وفي أمتكم وفيمن تحت أيديكم وفيمن ائتمنتم  عليه، إحسانًا متوجهًا به إلى الله سبحانه ومتبعًا فيه رسول الله ومبتعدًا فيه وبه عما يشوبُه أو يبطله من المن والأذى أو السمعة والرياء.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـٰتٍ وَعُيُونٍ ءاخِذِينَ مَا ءاتَـٰهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الذاريات:15-16].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . .




[1]  صحيح مسلم ح (8) ، وأخرجه أيضاً البخاري مختصراً ح (50).

[2]  صحيح مسلم ح (1955).

[3]  لم أجده في المطبوع ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/60) : رواه الطبراني في الأوسط والكبير ، وقال : تفرّد به عثمان بن كثير. قلت: ولم أرَ من ذكره بثقة ولا جرح)) ا هـ.

[4]  صحيح مسلم ح (904) ، وأخرجه أيضاً البخاري ح (3482).

[5]  صحيح مسلم ح (2245) ، وأخرجه أيضاً البخاري ح (3467).

[6]  تقدم تخريجه قريباً.

الخطبة الثانية

 

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون، المساجد هي بيوت الله عز وجل التي يرتادها الناس للصلاة خمس مرات في اليوم والليلة مقبلين على الله، رغبة في ثوابه وخوفًا من عقابه، ولذلك يتوجب على أئمتها العناية والحرص على فائدة الناس فيها، وذلك من خلال إقامة الدروس المفيدة والنافعة فيها، حيث وردنا تعميم وزارة الأوقاف وإدارة المساجد حاثًا أئمة المساجد على إقامة الدروس النافعة ،وضرورة دعوة أهل العلم وطلبته لتذكير الناس ونفعهم، ولذلك نوصى أئمة المساجد بالاستمرار على ما تميزت به هذه البلاد ولله الحمد من عادة حميدة بالحديث بعد صلاة العصر وقبل العشاء الآخر بقراءة بعض الكتب المفيدة في الحديث النبوي وتفسير آيات الله عز وجل وكتب العقيدة والفقه المبسطة والسيرة وأشباهها من الكتب المفيدة، وأن نحافظ على ما يساعد الناس ويقوي دينهم في نفوسهم عبر هذه البرامج والدروس الدعوية المقامة في المساجد.

نسأل الله جل وعلا أن يوفق المسلمين لما فيه نفعهم وخيرهم.

وصلوا وسلموا يا عباد الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً