أما بعد:
فيا عباد الله :اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه .
إخوة الإيمان:-
يقول الله تعالى في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وبعهد الله أوفوا، ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون [الأنعام:152]. وإذا أبرم المسلم عقداً فيجب أن يحترمه ، وإذا أعطى عهدا فيجب أن يلتزمه ، ومن الإيمان أن يكون المرء عند كلمته التي قالها ، ينتهي إليها كما ينتهي الماء عند شطآنه ، ويجب أن يعُرف المؤمن بين الناس بأن كلمته ميثاق غليظ ، لا خوف من نقضها ، ولا مطمع في اصطيادها ، والعهد لابد من الوفاء به، كما أن اليمين لا بد من البر بها إن لم تكن في معصية أو إثم.
والعهود التي يرتبط المسلم بها درجات ، فأعلاها مكانة ، وأقدسها ذمة ، العهد الأعظم بين العبد ورب العالمين، فإن الله خلق الإنسان بقدرته ، ورباه بنعمته ، وطلب منه أن يعرف هذه الحقيقة وأن يعترف بها ، وألا تشردبه المغويات ، ، فيجهلها أو يجحدها .
ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم . ووفاء الإنسان بهذا العهد أساس كرامته في الدنيا وسعادته في الأخرى .
ومن الوفاء المحمود أن يذكر الرجل ماضيه الذاهب لينتفع به في حاضره ومستقبله ، فإن كان معسرا فأغناه الله، أو مريضا فشفاه الله، فليس يسوغ له أن ينسى فضل الله عليه فيفصل بين أمسه ويومه بُِسور غليظ ، ثم يزعم أنه ما كان قط فقيرا ولا مريضا ، ويبني على غروره بحاضره مسلكا كله فظاظة وجحود وغرور بماله وقوته ، وكم من جبار جاحد قصمه الله وكم من غني جاحد أفقره الله وأذله وقصص التاريخ شاهدة .
أيها الأخوة المسلمون:
الإسلام يوصي باحترام العقود ويأمر بإنفاذ الشروط التي تتضمنها ، وفي الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله: ((المسلمون عند شروطهم)).
إن انتشار الثقة في ميدان المعاملات أساسه افتراض الوفاء في أي عهد ، ويجب أن تكون الشروط متفقة مع حدود الشريعة وإلا فلا حرمة لها ، ولا يكلف المسلم بوفائها ، وقد تتابعت آيات القرآن تحضّ على الوفاء وتخوّف من الغدر: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً وقال تعالى: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون [النحل:91]. ثم بين الله عز وجل أن الغدر ينزع الثقة ويثير الفوضى ويمزق الأواصر ويرد الأقوياء ضعافا واهنين: ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم [النحل:92].
عباد الله :
إن الرجل قد يحل عقدا أبرمه ، ينتظر ربحا أوفر من عقد آخر، وقد تطرح الأمة معاهدة بينها وبين أخرى جريا وراء مصلحة أحظى لديها ، لكن الإسلام يكره أن تداس الفضائل في سوق المنفعة العاجلة ، ويكره أن تنطوي دخائل الناس على نيات مغشوشة ، ويوجب الوفاء على الفرد والجماعة حتى تصان العقود على الفقر والغنى، وعلى النصر والهزيمة ، لا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلاً إن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون [النحل:95].
إخوة الإيمان:
من الشؤون التي اهتم الإسلام بها ونوّه بقيمة الوفاء فيها الديون، فسدادها من آكد الحقوق عند الله.
وقد قطع الإسلام وساوس الطمع التي تنتاب المدين وتغريه بالمطل أو إرجاء القضاء وأول ما شرعه الإسلام في هذا أن حرم الاستدانة إلا للحاجة القاهرة.
إن مشكلة الديون أسهرت عيون الكثيرين وشعّبت أفكار المدينين ، وهي حرية بأن نستجلي حقيقة الأمر وخطره فيها وأسباب النجاة ومسالك الظفر منها إن من المشاكل التي يعاني منها كثير من الناس تلك الديون التي أرهقت القلوب وأثقلت الكواهل وأشغلت الذمم وزرعت بذور الخلاف والشقاق بين الناس حتى شغلت بها المحاكم ودور القضاء ، فافترق بسببها الأخلاء والقرناء.
أيها المؤمنون:
الديَّن همّ في الليل وذل في النهار ، وقد عظم الشرع المطهر أمر الدين ولذلك تعوّذ منه النبي فكان يدعو في صلاته: ((اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) وجعل الديَّن غير داخل في المغفرة ولو أدى المرء عبادات عظيمة .
عن أبي قتادة : قال رجل: ((يا رسول الله ، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر يكفر الله عني خطاياي؟ فقال عليه الصلاة والسلام : نعم فلما أدبر ناداه فقال كيف قلت فأعاد قوله قال : نعم إلا الديْن كذلك قال جبريل)). رواه مسلم وفي رواية أخرى ((يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين)) رواه مسلم.
إذاً فنفس المسلم معلقة بديْنه حتى يقضي عنه ولعظم ذلك: ((كان في أول الأمر إذا قدّم إليه ميت للصلاة عليه سأل هل عليه دين؟ فإن كان عليه دين لم يُصَِل عليه، وقال لأصحابه صلوا عليه وإن لم يكن عليه دين صلى عليه)). فاتقوا الله عباد الله وإياكم والدين فإنه من يستغن يغنه الله ومن يتصبر يصبره الله وإننا بنظرة إلى مجتمعاتنا نشاهد مع الأسف العجب في حال كثير من الناس تساهلا في الديون والقروض دون ضرورة ولا حاجة ، وإنما هي مظاهر جوفاء ، وغنى زائف وتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، فتجد الفقير يقترض الأموال الكثيرة ليركب مراكب الأغنياء ويلبس ثياب الأثرياء ، ويسكن مساكن العظماء ، وذمته تشكوا إلى الله عظم البلاء ، إسراف وتبذير ومفاخرة وخيلاء ، طاعة لرغبات النساء وأحلام السفهاء ، إنها معصية لرب السماء فإلى الله وحده المشتكى ونسأله رفع البلاء.
لقد استهان المسلمون بالديون فاقترضوها لشهوات الغنى في البطون والفروج ، واقترضوها من اليهود والنصارى ، بالربا الذي حرمه الله وبمؤسساته التي تعلق القروض الربوية الميسرة لكافة الشؤون الخاصة والعامة فكان من آثار ذلك أن رأينا محق الله لبركة الأموال، ورأينا النكبات الجائحة في الديار والأموال ولا يزال الوفاء بتلك القروض مستعصيا لأنها بنيت على حرام في حرام.
إخوة الدين والعقيدة:
إن حديثنا عن الديْن لا يعني حرمته فالاستدانة جائزة إذا دعت إليه حاجة ملحة وضرورة كبيرة إلا أنه يجب على المستدين أن يكون دينه حلال المعاملة والشروط، وعليه أن يحسن القصد والنية بالسداد حيث أمر رسول الله بذلك: ((من أخذ أموال الناس وهو يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله)) رواه البخاري.
فأحسن النية يا عبد الله ليكون الله ظهرا معينا واعزم على رد القليل والكثير، وأدوا يا عباد الله الأمانات إلى أهلها كما يأمركم بذلك الله جل وعز ، فمن استدان دينا فليرده إلى صاحبه دون جحد أو مماطلة فإن مطل الغنى ظلم ، وليحسن الإنسان إلى من أقرضه فإن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه قال: ((خير الناس أحسنهم قضاء)) فبادروا إلى قضاء الناس حقوقهم قبل فوات الأوان والارتهان بالأعمال.
إخوة الإيمان:
إن من واجبات الدين وخصال المتقين وخلال الراغبين في فضل رب العالمين، إنظار المعسرين والصبر على الفقراء المدينين. يقول جل وعلا: وإن كان ذو عُسْرة فَِنظرة إلى ميسرة [البقرة:280]. ويقول : ((من أنظر معسرا أو وضع عنه أنجاه الله من كرب يوم القيامة)) وفي رواية: ((أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)).
فاتقوا الله والتزموا أمره واجتنبوا نهيه فإنه من يتق الله يجعل له من أمره يسرا ، وإن الله عز وجل يحب الأوفياء من عباده ، وما أهلك القرى الظالمة إلا بعد أن قال في أهلها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين .
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم . . .
|