أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له، واعلموا ان الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه.
معشر المسلمين: كثير من الناس يتساهل بصغائر الذنوب ويصر عليها، وفي ذلك من الخطر والضرر ما يحمل المسلم والمسلمة على أن يأخذ حذره من سلوك الخاسرين.
إن حديثي إليكم في هذا المقام يتضمن خطر التساهل بصغائر الذنوب والمعاصي فضلا عن كبائرها، أما الكبائر فأمرها واضح، فلقد رتب الله عليها الحد في الدنيا أو الوعيد في الآخرة، عياذا بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه (ومن أراد الوقوف على ما ورد في حقيقة الكبائر وفي عددها وما ترتب عليها، فعليه بكتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر، فإنه قد جمع فأوعى).
أيها المسلمون: ذهب بعض أهل العلم إلى أن الذنوب كلها كبائر، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الذنوب قسمان كبائر وصغائر، حيث قد جاء التفريق في القرآن الكريم بين الذنوب، قال تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [النساء:31]. وقال سبحانه: الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم [النجم:32]. وقال النبي – -: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر)). فالذي بينهن هي الصغائر، فلقد أفادت هذه النصوص وغيرها، أن في الذنوب صغائر وهي المعبر عنها بالسيئات والعصيان واللمم، وسميت أيضا في الحديث بمحقرات الذنوب، وهي ما قل وصغر من الذنوب، ولا يسلم منها أحد إلا من سلمه الله وعافاه، قال النبي – -: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)).
معشر المسلمين: من الصغائر التي يتساهل بها الناس النظر إلى النساء الأجنبيات والشباب المردان سواء عن طريق مباشر كوجه لوجه، أو من وراء شق أو منظار أو عن طريق الصور الثابتة في المجلات ونحوها، أو الصور المتحركة في الأفلام، ولقد أمر الله تعالى المؤمنين والمؤمنات بالغض من أبصارهم، ذلك أن النظر هو المدخل الأساسي لتسرب الشهوة إلى النفس وطغيانها، فالغض من البصر يساعد على العفة وحفظ الفرج، قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن .. [النور:31]. سئل الإمام أحمد – رحمه الله – عن رجل قال بأنه ترك المعاصي وتاب وقال: لو ضرب بالسياط ما دخل في معصية أبدا غير أنه لا يدع النظر، فقال :أي توبة هذه؟. فالنظرة بشهوة سبب للفتنة وإشغال القلب، فاتق الله أيها المسلم وراقب الله، فإنه مطلع عليك، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قيل لبعض السلف: بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى من نظرت إليه، ولقد كان الربيع ابن خثيم – رحمه الله – من شدة غضه لبصره وإطراقه يظن أنه أعمى، ولقد طرق الباب يوما على صاحب له فخرجت له الجارية، ثم رجعت إلى سيدها، وقالت إن بالباب صاحبك الأعمى، ومر يوما على عصبة من النساء، فقالت واحدة منهن انظرن إلى هذا الأعمى كفانا الله شر العمى وليس بأعمى إلا عن الفتنة والباطل، وامتثل قول الله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم [النور:30].
ومن صغائر الذنوب الخلوة والاختلاط بالنساء الأجنبيات كما قد يحصل في المحلات التجارية التي تحتوي على ملابس النساء والأطفال ومحلات الخياطة النسائية ومسلتزماتها أو في البيوت بين بعض الأقارب من غير المحارم، أو بين الخدم والسائقين في البيوت والسيارات، أو الحدائق والمجامع العامة التي يبدوا فيها من النساء السفور والتبرج، وكذلك ما يحصل في المستشفيات والمستوصفات من خلو الطبيب أو الممرض أو الموظف بالطبيبة أو الممرضة أو المرافقة، وقد قال النبي – -: ((إياكم والدخول على النساء..)). وقال: ((ما خلا رجل بامرأة ألا كان الشيطان ثالثهما..)) وكذلك الخلوة والاختلاط بالشباب المردان، وخاصة –حسان الوجوه، وذلك أن الأمرد مظنة الفتنة، ولقد بالغ الصالحون في الإعراض عن المردان وعن النظر إليهم وعن مخاطبتهم ومجالستهم.
قال الحسن بن ذكوان – رحمه الله -: لا تجالسوا أولاد الأغنياء، فإن لهم صورا كصور العذارى، وهم أشد فتنة من النساء، وذلك لتمكن الإجتماع بهم ما لا يمكن في حق النساء.
أيها المسلم: احذر ممازحة المردان لئلا تتهم بالسوء، جاء رجل إلى الإمام أحمد – رحمه الله – ومعه صبي – حسن الوجه، فقال من هذا منك؟ قال: ابن أختي، قال: لا تجئ به إلينا مرة أخرى، ولا تمش معه في طريق، لئلا يظن بك من لا يعرفك ولا يعرفه سوء، وقال سعيد بن المسيب – رحمه الله -: إذا رأيتم الرجل يحد النظر إلى الغلام الأمرد فاتهموه. ولقد ذكر أن معلماً لديه بعض الطلاب في المسجد، فكانوا يقومون واحدا تلو الآخر حينما يفرغون من تسميعهم، حتى لم يبق منهم إلا إثنان، فهم أحدهما بالقيام فأخذ بثوبه وقال: اجلس حتى يفرغ فلان، وذلك خشية من وسوسة الشيطان حين الخلوة، فاحذروا أيها الشباب من التساهل في هذا الأمر، وابتعدوا عن كل وسيلة تؤدي إلى حصول الفتنة.
أيها المسلمون: ومن الصغائر السب دون القذف كالتنابز بالألقاب، وكذلك الأشراف على بيوت الناس والتجسس على أحوالهم وأخبارهم، وكذلك هجر المسلم فوق ثلاث، والأكل بالشمال من غير حاجة، وغير ذلك مما لا يترتب عليه حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة.
أيها المسلمون: ولا يعني كون هذه الذنوب صغائر أنها سهلة وهينة، كلا بل إن المعاصي كلها سبب للضلال والعقوبة والعذاب، قال تعالى: ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً [الأحزاب:36].
وقال عز وجل: ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً [الجن:33]. قال بلال بن سعد – رحمه الله -: ((لا تنظر إلى صغر الخطيئة أو المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت)). وقال علي بن أبي طالب لإبنه الحسن – رضي الله عنهما -: ((يا بني احذر من أن يراك الله عند معصية، ويفقدك عند طاعة فتكون من الخاسرين)) وقال النبي – : ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود، وذا بعود، حتى حملوا ما انضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)). وعن أنس – - قال: ((إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله – - من الموبقات)). قال: يعني بذلك المهلكات، وقال النبي – : ((إن المؤمن إذا أذنب نكتت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع وأستغفر صقل قلبه، فإن زاد زادت، فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [المطففين:14])).
وقال النبي – -: ((لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة، فيجعلها الله – عز وجل – هباءا منثورا، أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، يأخذون من الليل ما تأخذون، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)).
فعلينا معشر المسلمين أن نتقي الله تعالى ونذر ظاهر الإثم وباطنه قال تعالى: إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون [الأنعام:120]. نسال الله تعالى أن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأن يجنبنا سبيل الذين طبع على قلوبهم واتبعوا أهواءهم، الذين سول لهم الشيطان وأملى لهم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|