فبعد أن بينا لكم أهم أحوال الكفار المنافقين نبدأ منذ اليوم في بيان أحوال الكفار المجاهرين، وأصنافهم وطبقاتهم، ثم يأتي الحديث بعد ذلك بأمر الله تعالى عن موقف المسلم من كل هؤلاء وما يجب عليه من أحكام شرعية في هذا الشأن.
فأما الكفار المجاهرون فعلى طبقتين:
الأولى: رؤساء الكفر وأئمته وطواغيته ودعاته.
الثانيـة: الأتباع المقلدون من تبعة الكفرة وحميرهم الذين هم تبع لهم.
أما رؤساء الكفر وأئمته وطواغيته ودعاته الذين كفروا بالله وصدوا عن سبيل الله صدوا الناس عن الإيمان فإنه يُضاعف لهم العذاب يوم القيامة من وجوه.
أولهــا: من حيث عقيدتهم الكافرة نفسها التي اعتقدوها.
وثانيها: من حيث عنادهم وضلالهم وإعراضهم عن الحق عمدًا وعلى بصيرة.
وثالثها: من حيث سعيهم لإطفاء نور الله وإخفاء كلماته، وهدم دينه وصد الناس عنه.
فمن اجتمعت فيه من أئمة الكفر ودعاته ورؤساءه وطواغيته، من اجتمعت فيه هذه الثلاثة فهو من أشد عذابًا من أتباعهم لأنهم يحملون أوزارهم وأوزار أتباعهم قال تعالى: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابًا فوق العذاب [النحل: 88].
وقال سبحانه عن آل فرعون وهم من أشد الكفار وطغيانًا وجبروتًا قال تعالى: النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب [غافر: 46].
وكما أرسل سيدنا رسول الله إلى هرقل إمبراطور الروم يدعوه إلى الإسلام كان مما قال له في كتابه: ((أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين)) أي عليك إثم أتباعك.
فأئمة الكفر رؤساؤهم وطواغيته ودعاته هم أشد أعداء الله كفرًا وخبثًا وحقدًا على المسلمين وعداوة للمؤمنين.
أما الطبقة الثانية من طبقات الكفار فهي طبقة الأتباع المقلدين من جهلة الكفرة، وحميرهم الذين هم تبع لهم يقولون: إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [الزخرف:23].
فهؤلاء مع أنهم قد يكونون مسالمين لأهل الإسلام غير محاربين لهم، ولم ينصبوا أنفسهم لما نصب لهم أنفسهم أولئك الطواغيت والرؤساء وأئمة الكفر فإنهم مع ذلك كفار على الرغم من أنهم أتباع مقلدون، كفار بإجماع العلماء، لأن الأدلة تتضافر على وصفهم بالكفر قال : ((ما من مولود يولد إلا وهو على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه يمجسانه)).
فأخبر أن كل مولود حتى أطفال الكفار والمشركين، كل مولود يولد على الإسلام فهو مسلم حتى يبلغ ويميز، ثم أخبر أن أبويه يتوليان نقله من الفطرة إلى الكفر من الإسلام إلى الكفر، ومع ذلك وصفه بوصف الكفر مع أن سبب كفره هنا هو المنشأ والمربا الذي عليه والده، ومع ذلك فهو يهودي أو نصراني أو مجوسي وصفه رسول الله بوصف الكفر.
والقرآن صريح في أن الكفرة من الأتباع والمقلدين مثل مرؤوسيهم في الكفر وفي العذاب في النار فأخبر سبحانه عن هؤلاء الأتباع المقلدين لأئمة الكفر أنهم يصفون رؤسائهم في الكفر يوم القيامة بقولهم: ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابًا ضعفًا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون [الأعراف: 38].
وقال سبحانه وتعالى: وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعًا فهل أنتم مغنون عنا نصيبًا من النار قال الذين استكبروا إنا كلٌ فيها إن الله قد حكم بين العباد [غافر: 48].
فهذه الأدلة وغيرها دلت على أن الأتباع والمقلدين في أمم الكفر كفارٌ مثل طواغيتهم ورؤساءهم وأئمتهم في الكفر.
لكن في مسألة تعذيبهم في النار تفصيل لابد منه، وهو التفريق بين الكافر المقلد الذي تمكن من العلم ومعرفة الحق ووجه من الوجوه ثم أعرض عنه، وبين الكافر المقلد الذي لم يتمكن من العلم ومعرفة الحق ولو بوجه من الوجوه.
فأما الأول فلا عذر له عند الله يوم القيامة.
وأما الثاني فمنهم من يكون مريدًا للهدي تواقًا إلى الحق يقول يا ربي لو أعلم دينًا خير من هذا الذي أنا عليه لدنت به وتركت الذي أنا عليه، لكنه لا يعرف سوى ما هو عليه لا يقدر على غيره لعدم من يرشده إلى الحق ويبين له الحجة.
وإما أن يكون لا إرادة له في معرفة الهدى والحق، فهو على ما هو عليه لا يتطلع إلى ما سواه ولا تتوق نفسه إلى معرفة الهدى والحق، فهما وإن كانا ليسا سواء وإن كان هذا ليس مساويًا للأول لكنهما تحت حكم الله عز وجل يقضي بينهما يوم القيامة بحكمته وعدله.
فأما من لم يتمكن من العلم ومعرفة الحق ولو بوجه من الوجوه من الأتباع والمقلدين من أهل الكفر فحكمه حكم من لم تبلغه الدعوة من أهل الفترات.
يحكم الله بينهم يوم القيامة بحكمته وعدله فيمتحنهم يوم القيامة فمن أجاب منهم وأطاع أدخله الجنة، ومن كذب منهم وعصى أدخله النار.
والله سبحانه وتعالى لا يعذب أحدًا من خلقه حتى يقيم الحجة عليه أخبر بذلك في كتابه فقال سبحانه: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً [الإسراء:15]. وقال تعالى: رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [النساء:165].
وقال عز وجل: وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين [الزخرف: 76].
فهذا الذي عرف ما جاء به الرسول وتمكن من العلم به ولو بوجه من الوجوه ثم أعرض عنه فهو ظالم يُعذَّب بفعله هذا يوم القيامة، وأما من لم يعرف ما جاء به الرسول ولم يتمكن من هذا ولو بوجه من الوجوه فلا يسمى هذا ظالمًا. هذا من أهل الفترة الذين بينا حكمهم.
وقيام الحجة يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص. فقد تقوم الحجة في زمان غير زمان وقد تقوم الحجة في بقعة غير البقعة، وقد تقوم الحجة في شخص دون الآخر ذلك كله بسبب توافر أسباب العلم والمعرفة والبلاغ وبحسب قدرة المدعو على فهم الخطاب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا، قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين، ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون [الأنعام:130-131].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.