.

اليوم م الموافق ‏29/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

النفخ في الصور

608

الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب

الموت والحشر, اليوم الآخر

محمد بن إبراهيم حسان

المنصورة

غير محدد

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- الصور وصاحبه من الملائكة 2- نفخة الفزع 3- نفخة الصعق

الخطبة الأولى

أما بعــــد:

فإن أصدق الحديث كتاب اللـه وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار.

أحبتي في اللـه:

هذا هو لقاءنا الثامن مع السلسلة الكريمة في رحاب الدار الآخرة ونحن الآن على موعد مع حدث هام يحدث حين قيام الساعة ألا وهو النفخ في الصور وإليك هذه الآيات الكريمة:

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا % نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:102-110].

فبعد أن تكلمنا آنفا عن العلامات التى ستقع بين يدي الساعة بقي لنا أن نتكلم عن قيام الساعة والأحداث التي ستقع حينذاك، فالساعة على الفور تقوم بعد حدوث هذه العلامات كلها بأمر من اللـه جل وعلا لإسرافيل بالنفخ في الصور لتبدأ القيامة بأحداثها المزلزلة المروعة.

وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أيدينا سريعاً فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم تحت هذه الموضوع في العناصر التالية:

أولاً: ما هو الصور؟ ومن هو صاحبه؟!

ثانياً: نفخة الفزع.

ثالثاً: نفخة الصعق.

فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب، وتدبر جيداً ماذا يحدث عند قيام الساعة في هذا الحدث المفزع المروع ألا وهو النفخ في الصور.

باديء ذي بدء أبدأ بسؤال أراه على لسان كل واحد منكم.

أولاً: ما هو الصور؟! ومن هو صاحبه؟

ما هو الصور؟!

اسـمـع الجـواب مـن سـيد الـمـرسـلـيـن في الـحـديث الصحيح الـذى رواه الإمام أحمد وأبـو داود والترمذي وغيرهم، من حديث عبد اللـه بـن عمرو بـن العـاص رضي اللـه عنهمـا قـال: جـاء أعـرابي إلى النبـي فقـال يا رسـول اللـه ما الصـور؟! فقـال: ((قـرن([1]) ينفخ فيه وصاحب هذا القرن هو إسرافيل([2])))([3]).

وفي الحديث الذي رواه الحاكم فى المستدرك وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي وهو كما قال، من حديث أبي هريرة رضى اللـه عنه يقول رسول اللـه: ((ما أطرف صاحب الصور منذ أن خلقه اللـه ووكله بذلك فهو ينتظر بحذاء العرش([4]) ما أطرف([5]) ينتظر متى يأمر كأن عينيه كوكبان دريان)).

 يقول الحبيب المصطفى في الحديث الذى رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني بشواهده من حديث أبي سعيد الخدري قال قال رسول اللـه : ((كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وَحَنَا جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ؟)) فثقل ذلك على أصحـاب النبي وشق عليهم فقالوا: كيف نصنع؟ فقال : ((قولوا: حسبنا اللـه ونعم الوكيل)) وفى رواية ((قولوا: حسبنا اللـه ونعم الوكيل على اللـه توكلنا))([6]).

بل وقد حدد لنا المصطفى اليوم الذي يأمر اللـه فيه إسرافيل بالنفخ فى الصور، ففى الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي اللـه عنه أن النبي قال: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة)) وفي راوية أخرى: ((وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليّ))([7]).

فيأمر اللـه جل وعلا إسرافيل بالنفخ في يوم جمعة، متى هو؟ اللـه أعلم لأننا قبل ذلك أَصَّلنْا أن القيامة لن تقوم إلا على شرار الخلق إذ أن رب العالمين سيرسل ريحاً طيبة باردة لتقبض أرواح المؤمنين على ظهر الأرض حتى لو دخل المؤمن في كهف أو غار في جبل تدخل هذه الريح لتقبض روحه ولا يبقى فى الأرض إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة.

ويأمر اللـه أن ينفخ النفخة الأولى نفخة الفزع وهذا هو عنصرنا الثانى.

ثانياً: نفخة الفزع

قال اللـه تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل:87].

اختلف أهل العلم فى من استثنى اللـه جل جلاله:

قال بعضهم: إنهم الأنبياء، ومنهم من قال: أنهم الشهداء فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.

ومنهم من قال: هم الملائكة، ومنهم من قال: بل هم جبريل وإسرافيل ومكائيل وعزرائيل وحملة العرش فقط.

ومنهم من قال: هم حور العين فى جنات رب العالمين.

ومنهم من قال: نبي اللـه موسى عليه السلام هوالمستثنى فى قوله تعالى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ .

واحتجوا على ذلك بحديث صحيح رواه البخاري أنه قال: ((أنا أول من يفيق بعد النفخة فإذا أنا بموسى آخذ بالعرش فلا أدري أكان ممن أفاق قبلي أم كان ممن استثناهم اللـه جل جلاله)).

لذا فأنا أقول بأن الجزم بمن استثنى اللـه في هذه الآية غير دقيق، فإذا كان معلم البشرية كلها لم يجزم لنبي اللـه موسى، إذا كان النبي سكت عن ذلك فلا ينبغي لأهل العلم قاطبة أن يجزموا لمن استثناهم اللـه في الآية فعلم اللـه لا ينال إلا بالخبر الصحيح عن رسول اللـه .

ففزع من في السماوات ومن في الأرض..!!

أي تنفك كل صلات الكون وروابطه، تتزلزل الأرض كالقنديل المعلق في سقف المسجد وترتج بأهلها رجَّات عنيفة مزلزلة، ما من أحد يسمع هذه الصيحة إلا وقد رفع لينا - أي رفع صفحة عنقه - يستمع إلى هذه الصيحة التي قد أفزعت كل حي من أهل السماء ومن أهل الأرض.

تصور معي هذه المشاهد التى تخلع القلب لتقف علىحجم وكم هذا الفزع الذى لا مثيل له البتة، فالشمس قد ذهب ضياؤها، والكواكب ما عادت تضيء، تناثرت هنا وهناك وتمزقت بأمر اللـه.

البحار والأنهار ما عادت تحوي بطونها ماءً، فماؤها تحول ناراً تتأجج، الجبـال من أرسـاها جعلها دكاء، أصبحت الآن قطع متناثرة كالعهن المنفوش.

ولك أن تعيش هذه الأحداث بقلبك وعقلك وكيانك حتى تقف على الهول الذى سينتاب هذه الأرض التي تراها الآن، تأمل هاتين الآيتين: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا [ الزلزلة: 1، 2 ].

تصور معي قول النبى : ((من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى العين فليقرأ إذا الشمس كورت وليقرأ إذا السماء انفطرت وليقرأ إذا السماء انشقت))([8]).

فلنقرأ معاً قول اللـه تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير:1-14].

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ بعد هذه النفخة يحدث انقلاب هائل في الكون عامة، فتكوير الشمس هو أن الشمس التى تمدنا الآن بالضوء والدفء والحرارة كل هذا ينسحب، وتظلم الشمس التي يضرب بضوئها كل ضياء.

قال ابن عباس: أي جمعت ووضعت تحت العرش.

فى صحيح مسلم من حديث أبي ذر أن النبي نظر يوماً إلى الشمس فقال لأصحابه: ((أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟)) قالوا: اللـه ورسوله أعلم، قال: ((إنها تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة لله جل وعلا))([9]).

وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أظلمت وتناثرت وذهب ضياؤها وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ، الجبال العملاقة الراسية في الأرض حينذاك يدكها الملك جل جلاله في الأرض وتتحول إلى قطع صغيرة متناثرة كالعهن المنفوش أي كالصوف المنفوش.

سبحان اللـه!! تدبر جيداً قول الملك:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه:105-111].

وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ العشار: هي النوق وهي من أغلى ما يمتلكه العربي في الجزيرة العربية.

إذا سمع الناس وأهل الأرض جميعا نفخة الفزع، فلا ينظر الرجل إلى هذه النوق، ما عادت تمثل له شيء أنذاك لأنه حدث لهم ما يشغلهم عن زخارف الدنيا.

وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ : السباع المفترسة إلى جوار الأليفة ما عاد الوديع يخشى المفترس!!

وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ : سبحان اللـه! حتى المياه التي كانت سبباً للحياة يحولها اللـه إلى حمم، كتل نارية يعود الماء إلىأصله - الأكسجين والنيتروجين - فيتحول الماء إلى نار مشتعلة متأججة.

وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ : زوجت أرواح المؤمنين بالحور العين فى جنات رب العالمين، أو قرنت الأرواح بالأجساد أو قرن الكافرون بالشياطين.

وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ : وإذا سئل عن قتل الموءودة أي ذنب اقترفته هذه البريئة لتقتل بهذا الظلم والعدوان.

وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ : تنشر الصحف للقراءة

وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ : أي طويت كطي السجل للكتب، يطويها الملك بيمينه، سبحان اللـه! ولم لا وهو رفعها بلا عمد..!!

وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعرَتْ أي تأججت واشتعلت نيرانها وجاءت تتلمظ وهي تقول هل من مزيد؟! هل من مزيد؟!

وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ : قربت للموحدين، قربت للمتقين، قربت للمؤمنين.

عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ : علم كل واحد حقيقة أقواله وحقيقة أعماله، سترى كل أعمالك.. سترى كل شئ قدمته من قول أو فعل، قد سطر عليك فِى كِتَابٍ عنْدَ رَبِّى لا يَضِلُّ رَبِّى وَلا يَنسَى .

وسألحق ذلك بالتفصيل إن قدر لنا اللـه البقاء واللقاء.

تدبر جيداً هذه الآيات..

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار:1-5].

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [ الانشقاق: 1 -5 ]

يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1- 2].

تدبر وتصور جيداً هذه المشاهد لتقف على حجم الهلع العظيم والفزع الذي يحدث يوم زلزال القيامة الكبير الذي لا شبيه له البتة.

وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم:42-50].

قف مع قول اللـه جل وعلا: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ أي من فزع وهلع اليوم الموعود، أفئدتهم خلت من القلوب، أين القلوب؟!! خرجت من الصدور، إلى أين؟!! إلى الحناجر... لماذا؟!! من الفزع!!

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ ، اللـه أكبر... يخرج القلب من مكانه فى الصدر إلى الحنجرة من شدة الهول والهلع والفزع.

أي فزع هذا؟!! أى هلع هذا؟!! قمة الهول!! قمة الفزع!! وهذا تصور قاصر، لكن لو تدبرت المعانى أعطاك اللـه جل جلاله قدر صفائك وإخلاصك وصدقك لتقف على حجم هذه المشاهد المروعة.

هذه النفخة تمضي فترة من الزمن... هل تعلمها؟.. بالطبع لا، فقد ثبت من حديث أبي هريرة أنه قال: ((بين النفختين أربعون)) قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوماً؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت.

ما معنى أبيت؟ قال أبيت أن أسأل عن ذلك رسول اللـه ([10]).

فَعِلْم هذه الأربعين عند رب العالمين، وبعد الأربعين يأمر اللـه جل وعلا إسرافيل أن ينفخ فى الصور النفخة الثانية وهذا هو عنصرنا الثالث.

ثالثاً: نفخة الصعق

اختلف أهل العلم فمنهم من قال: ينفخ إسرافيل نفختين اثنتين الأولى نفخة الفزع والثانية الصعق في آن واحد.

وتبنى هذا الرأي الحافظ ابن حجر والإمام القرطبي في التذكرة وقال: بأن الصعق ملازم للفزع الأكبر، أي فزعوا فزعاً ماتوا منه، ولذا فالحافظ والإمام القرطبي قالا: نفختين اثنتين في آن واحد.

وذهب شيخ الإسلام ابن تيميه والحافظ ابن كثير والإمام ابن العربي إلى أن اللـه يأمر إسرافيل أن ينفخ فى الصور نفخة الفزع الأكبر ونفخة الصعق ونفخة البعث، وهذا هو الذى أميل إليه لأن صريح القرآن يقول ذلك فلقد فرق اللـه في صريح القرآن بين نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث، إذ يقول وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [النمل:87].

وقال وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68].

ثم قال بعدها عن نفخة البعث ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68].

ولقد اختلف أهل العلم فيمن استثناهم اللـه، منهم من قال هم: الملائكة، ومنهم من قال: هم جبريل وإسرافيل ومكائيل وعزرائيل وحملة العرش فقط، ومنهم من قال: هم الشهداء، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ومنهم من قال: هم الحور العين، ومنهم من قال: إن نبي اللـه موسى عليه السلام هو المستثنى فى قوله تعالى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ، واحتجوا على ذلك بحديث صحيح رواه البخارى أنه قال: ((أنا أول من يفيق بعد النفخة فإذا أنا بموسى آخذ بالعرش فلا أدري أكان ممن أفاق قبلي أم كان ممن استثناهم اللـه جل وعلا)).

ولذا فأنا أقول بأن الجزم بمن استثنى اللـه فى هذه الآية غير دقيق، إذا كان المصطفى لم يجزم لنبي اللـه موسى يقول: فلا أدري أكان موسى ممن أفاق قبلي أم كان ممن استثناهم اللـه جل وعلا.

فإذا كان المصطفى لم يجزم لنبي اللـه موسى فلا ينبغي لأحد بعد المصطفى من أهل العلم قاطبة أن يجزم لمن استثناهم اللـه فى الآية، فعلم اللـه لا ينال إلا بالخبر الصحيح عن رسول اللـه .

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ صعق أي مات كل حي وبقي الحي الذى لا يموت.

ورد فى حديث الصور الطويل الذى رواه البيهقى والطبراني والطبري وابن أبي حاتم وغيرهم، وللأمانة العلمية التى اتفقنا عليها وأَصَّلناها من قبل فإن الحديث بطوله ضعيف، ومدار ضعفه على إسماعيل بن رافع، وهو ضعيف كما قال علماء الجرح والتعديل في هذا الحديث: ((يأتي ملك الموت للملك فيقول المَلِك لِمَلَك الموت يا ملك الموت من بقي؟ - وهو أعلم جل جلاله - فيقول: بقي جبريل وإسرافيل وميكائيل وحملة العرش وبقيت أنا، فيقول الملك ليمت جبريل - لام الأمر - ليمت إسرافيل ليمت حملة العرش، ويبقى ملك الموت فيأتي للملك فيقول له الملك: من بقي يا ملـك المـوت؟ فيقـول: بقيـت أنا، فيقـول الملـك: أنـت خلق من خلقي وخلقتـك لما ترى فمت يا ملك الموت فيموت ويبقى الحق الذى لا يمـوت)).

سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الذى كتب الموت على جميع الخلائق وهو الحي الباقي الذى لا يموت.

ماتت الملائكة... مات جبريل... مات إسرافيل... مات ميكائيل... مات ملك الموت... مات حملة العرش، مات الملوك.. مات الزعماء.. مات الرؤساء.. مات الوزراء... مات الأغنياء.. مات الفقراء.. مات الصالحون.. مات الطالحون... مات ذوو الهمم والغايات النبيلة.. مات الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن.. الكل يموت كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

ويبقى الملك فيطوي السموات والأرض بيمينه ويهتف بصوته جل جلاله ويقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يقول جل جلاله لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! فلا يجيبه أحد فيجيب على ذاته: لله الواحد القهار.

يقول جل جلاله: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [ غافر: 15-16 ].

أين الظالمون ؟! أين الطالحون ؟! أين الصالحون ؟! أين الفراعنة ؟! أين القياصرة ؟! أين الأكاسرة ؟! أين فرعون ؟! أين هامان ؟! أين قارون ؟!.

أين من اغتروا بالكراسي الزائلة ؟! أين من فتنوا بالمناصب الفانية ؟!

أين من اغتروا بالأموال والعمارات ؟! أين من اغتروا بالسيارات والدولارات ؟!

أين الظالمون ؟!! أين التابعون لهم في الغي؟

وذكرهـم في الورى ظلم وطغيان

 

أين من دوخوا الدنيا بسـطوتهم ؟!

أو هل نجا منه بالسلطان إنسـان؟

 

هل أبقى الموت ذا عزٍ لعــزته ؟!

الكل يفنى فلا إنـــس ولا جان

 

لا والذى خلق الأكوان من عــدم

قال جل وعلا: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ، وقال: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ [ القصص: 88 ].

مهما عشت فأنت راحل، مهما أحببت فأنت مفارق، مهما جمعت فأنت تارك.

فيا أخي الكريم: يا من أجلسك اللـه على الكرسي، يا من هيأ اللـه لك المنصب.. ورب الكعبة - أبذلها بكل حب وإخلاص - إن الكرسي زائل وإن المنصب فانٍ، وإن الحي جل جلاله هو الباقي، واعلم بأنك راحل.. فإياك أن تغتر بمنصبك، وإياك أن تفتن بكرسيك فلا تستغل الكرسي إلا في مرضاة اللـه وطاعته، واعلم بأن الكرسي إما أن يقربك إلى اللـه ثم الجنة بإذن اللـه، وإما أن يبعدك عن اللـه ويقذفك فى النار والعياذ باللـه، فاتخذ الكرسي وسيلة إلى جنة العزيز الغفار.

انظر أيها الحبيب نظرة التمحيص إلى من سبقك لو دام الكرسي لغيرك واللـه ما وصل إليك.

حريصـاً على الدنيا وللموت ناسيا
ويوما عبوساً تشيـب فيه النواصِيَا
تجرد عُرْيانـاً ولـو كان كاسيا
لكان رسـول اللـه حيا وباقيا
وتبقـى الذنـوب كـما هــــي

 

أيــا عبــدُ كَمْ يراك الله عاصياً
أنسـيت لقاء الله واللحد والثرى
لو أن المرء لم يلبس ثياب التقى
ولو أن الدنيا تدوم لأهلها
ولكنها تفنى ويفنى نعيمهـــــا

وتدبر قول القائل:

وأظلك الخَطْـبُ الجليــل
بك الأمـل الطـويل
الخليـل به الخليل
الثـــــرى حمل ثقيـل
فلا يبقى العـزيـز ولا الذليـــل

 

يا نفـس قد أزف الرحيــــل
فتأهبي يـا نـفس لا يلعـب
فلتنزلن بمنزل ينسى
وليركبـن عليـك فيــــه من
قـرن الـفنـاء  بنـا جـمـيعـا

إنها الحقيقة الكبرى التى تعلن على مدى الزمان والمكان فى أذن كل سامع، وعقل كل مفكر وأديب، أنه لا بقاء إلا للحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة التي تصبغ البشرية كلها بصبغة العبودية، والذل لقهار السماوات والأرض إنها الحقيقة التي تسربل بها طوعا وكرها الصالحون والطالحون، وشرب كأسها الأنبياء والمرسلون إنها الحقيقة الكبرى فى هذا الوجود بعد كلمة الإخلاص، كلمة التوحيد، كلمة لا إله إلا اللـه.

فيا أيها الأحبة الكرام:

إن الحياة على ظهر هذه الأرض موقوتة محدودة بأجل ثم تأتي نهايتها حتما، فيموت الصالحون والطالحون، يموت المجاهدون والقاعدون، يموت ذو الاهتمامات العالية والغايات النبيلة ويموت التافهون الحريصون على الدنيا بأي ثمن.

قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68].

..........الدعـــــــــاء

 



([1]) القرن : هو البوق ولا يعلم مقدار عظم هذه البوق إلا الملك جل جلاله .

([2]) إسرافيل : ملك كريم من ملائكة الرحمن وكله الله بالنفخ فى الصور منذ أن خلق الله الخلق وخلق الصور فدفعه إلى إسرافيل ووكله الملك بالنفخ فيه لذا فإن إسرافيل ينظر دائما إلى عرش الملك جل وعلا لا يطرف بعينه منذ خلقه الله مستعد للأمر من الملك فى أى لحظة من اللحظات .

([3]) رواه أبو داود رقم (4742) فى السنة ، باب فى ذكر البعث والصور ، والترمذى رقم (2432) فى صفة القيامة ، باب ما جاء فى شأن الصور ، وقال : حسن صحيح .

([4]) العرش : يقصد به عرش الملك جل جلاله .

([5]) ما أطرف : لم تغمض عينه طرفة واحدة .

([6]) رواه الترمذى رقم (2433) ، فى صفة الجنة ، باب ما جاء فى شأن الصور ، وصححه شيخنا الألبانى فى الصحيحة (1078،1079) ، وهو فى صحيح الجامع (4592) .

([7]) رواه مسلم رقم (854) ، فى الجمعة ،باب فضل يوم الجمعة ، والترمذى رقم (488) ، فى الصلاة ، باب ما جاء فى فضل يوم الجمعة ، والنسائى (3/89،90) ، فى الجمعة ، باب ذكر فضل يوم الجمعة .

([8]) رواه الترمذى رقم (3330) ، فى التفسير ، باب ومن سورة إذا الشمس كورت ، ورواه الإمام أحمد فى المسند رقم (4816،4934،4941،5855) ، والحاكم (2/515) وصححه ووافقه الذهبى وهو كما قالا ، وصححه شيخنا الألبانى فى الصحيحة رقم (1081) ، وهو فى صحيح الجامع رقم (6293) .

([9]) رواه البخارى رقم ( 4802) فى تفسير سورة يس ، ومسلم رقم (159) فى الإيمان ، باب بيان الزمن الذى لا يقبل فيه إيمان ، والترمذى رقم ( 3225) فى التفسير ، باب ومن سورة يس .

([10]) رواه البخارى رقم (4814) ، فى تفسير سورة الزمر ، ومسلم رقم (2955) ، فى الفتن ، باب ما بين النفختين ، والموطأ (1/239) ، فى الجنائز ، وأبوداود رقم (4743) ، فى السنة ، والنسائى (4/111) ، فى الجنائز ، باب أرواح المؤمنين .

الخطبة الثانية

لم ترد .

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً