.

اليوم م الموافق ‏10/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

الحشـــر

601

الرقاق والأخلاق والآداب

الموت والحشر

محمد بن إبراهيم حسان

المنصورة

غير محدد

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- صفة أرض المحشر 2- كيف يُحشَر الناس 3- هول الموقف 4- في ظلال العرش

الخطبة الأولى

أما بعد..

أحبتى فى اللـه:

كنا قد انتهينا فى اللقاء الماضى عند البعث، وتوقفنا عند هذه المشاهد التى تخلع القلوب، فلقد وقفنا عند هذا المنظر المهيب الرهيب لخروج الناس من قبورهم حفاة عراة غرلا، كل يبعث على الهيئة التى مات عليها فمن مات على طاعة بعث على طاعة ومن مات على معصية بعث على نفس المعصية التى مات عليها.

ذلك لقول النبى كما فى صحيح مسلم: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه))([1]).

ولقد أجرى اللـه الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شئ مات عليه ومن مات على شئ بعث عليه..

وأول من يبعث، وتنشق عنه الأرض يوم القيامة حبيب الرحمن محمد r، ففى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضى اللـه عنه أنه قال:

((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أول من ينشق عنه القبر، وأنا أول شافع وأول مُشَفَّع))([2]).

وإذا كان المصطفى يوم القيامة أول من ينشق عنه القبر، فإن أول من يُكسى يوم القيامة خليل الرحمن أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام.

كما فى صحيح مسلم من حديث ابن عباس أنه قال: ((ياأيها الناس إنكم تحشرون يوم القيامة حفاةً عراةً غُرْلا وأول الناس يُكْسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام))([3]).

وفى رواية البيهقى من حديث ابن عباس أنه قال :((أول الناس يُكسى من الجنة يوم القيامة إبراهيم عليه السلام ويؤتى بى فأُكسى حُلّة من الجنة لايقوم لها البشر)).

ولقد تكلم علماؤنا عن حكمة تقديم إبراهيم على نبينا محمد فى الكسوة يوم القيامة.

ومن أجمل ماذكره أهل العلم أن المشركين لما هموا بحرق إبراهيم وأشعلوا نار متأججة وظلوا يجمعون لها الحطب شهوراً، وأياماً حتى ارتفع لهيبها فى عنان السماء فكانت الطيور تسقط من ارتفاع لهب هذه النيران فلما هموا بإلقائه جردوه من ثيابه فلما صبر واحتسب وتوكل على اللـه جزاه اللـه سبحانه وتعالى عن ذلك فوقاه حر النار فى الدنيا والآخرة وكافأه يوم القيامة فكساه على رؤوس الأشهاد.

فأول الناس يبعث هو حبيب الرحمن، وأول الناس يُكسى هو خليل الرحمن وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أفضل الصلاة وأزكى السلام.

ترى ماذا يكون بعد البعث ؟!... إنه الحشـــر.

وهذا هو موضوع الحديث فى هذا اليوم الكريم المبارك، لذا أستحلفك باللـه أخى الحبيب أن تعرنى قلبك وسمعك فإن الموضوع من الخطورة، والرهبة، والهيبة بمكان.

وحتى لا ينسحب بساط الوقت سريعاً فسوف ينتظم حديثنا عن الموضوع فى العناصر التالية:

أولاً: صفة أرض المحشر.

ثانياً: كيف يحشر الناس؟!

ثالثاً: هول الموقف.

رابعاً: فى ظل عرشه.

 

أولاً: صفة أرض المحشر

ترى كيف تكون هيئة أرض المحشر؟!!

أتكون مثل أرض الحياة الدنيا ؟!

لاريب أنها ستكون مختلفة تماماً عن أرض الحياة الدنيا التى نعيش عليها

لم لا ؟! فإن الزمان غير الزمان.. فحتماً يكون المكان غير المكان.. حيث قال رحمان الدنيا والآخرة: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ             [إبراهيم: 48].

إذاً تتبدل أرض الدنيا وسماوات الدنيا.

فلقد وصف لنا المصطفى طبيعة الأرض التى سيحشر الناس عليها وصفاً دقيقاً بليغاً.

ففى الحديث الصحيح الذى رواه البخارى ومسلم من حديث سهل بن سعد الساعدى رضى اللـه عنه أنه قال:

((يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كَقُرْصَةِ النَّقِىِّ ليس فيها عَلَمُُ لأحدٍ)).

وفى رواية إلى قوله ((كقرصة النقى)) ثم قال: قال سهل، أو غيره: ((ليس فيها معلم لأحد))([4]).

أرض عفراء: أى بيضاء، والعفرة: البياض.

وعند ابن فارس: البياض الشديد الناصع البياض. قرصةُ نقى أو كقرصةٍ نقى، أى كالدقيق النقى من الغش والنخال.

قال سهل: ليس فيها معلم لأحد، المعلم: هو العلامات التى يتعارف بها الناس على الشوارع، والطرقات، والمدن.

فهى أرض بيضاء مستوية كالفضة البيضاء لايوجد عليها أشجار، أو أنهار، أو أبنية.

هذه هى صفة أرض المحشر كما أخبرنا الصادق المصدوق.

ولكن كيف يحشر الناس على هذه الأرض؟!

 

ثانياً: كيف يحشر الناس على هذه الأرض؟!

يخرج الناس من القبور حفاةً عراةً غُرْلاً كما قال رسول اللـه فى صحيح مسلم من حديث عائشة.

يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غُرلا قالت عائشة: يارسول اللـه الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض قال: ((ياعائشة الأمر أشد من أن يهمهم ذلك))([5]).

نعم واللـه يخرجون من القبور بهذا العرى والذل والهوان.

قال تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ ق: 41-42 ].

نعم واللـه إنه يسير على اللـه أن يحشرهم جميعاً من لدن آدم إلى أن يرث اللـه الأرض ومن عليها ولا يتخلف أحد ولا يمتنع.... كيف ذلك؟

يقول سبحانه وتعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا [ الكهف :47-48]

حشر اللـه الخلق جميعاً ولا يتخلف مَلِك، ولا متكبر، ولا حاكم، ولا زعيم، ولا طاغية، فلم نغادر منهم أحد.

قال سبحانه وتعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا ءَاتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [ مريم: 93-95].

هكذا كل يأتى الرحمن فلا يتخلف مخلوق فلقد أحصى اللـه الخلق من لدن آدم إلى آخر رجل قامت عليه القيامة، فهم ينطلقون جميعاً وراء هذا الداعى الكريم الذى جاء ليقود الخلق جميعاً إلى المحشر، انطلقوا خلفه لا يتلفتون، ولا يتخلفون صامتين مستسلمين خاشـعين.. يعلوهم صمت رهيب يزلزل قلوبهم سكون غامر يغمر المكان كله بالعظمة والهيبة والإجلال.

قال سبحانه: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـنِ فَلا تَسْـمَعُ إِلا هَمْسًـا يَوْمَئِـذٍ لا تَنْفَـعُ الشَّـفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَرَضِيَ لَهُ قَـوْلا يَعْلَـمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا [طه:108-111].

الكلام يومئذ همس!! والسؤال يومئذ لصاحب الأمر؟!!

وهل يستطيع مخلوق أن يتفلت أو يتخلف؟!!

وهل يملك طاغية أن يتغيب، أو يتأخر، وقد وكل اللـه بكل إنسان ملكين يسوقانه سوقاً إلى أرض المحشر.

قال تعالى: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ   [ ق: 19 - 22].

ها هو رسول اللـه يجسد لنا معانى هذه الآيات - عن مشهد الحشر يخلع القلوب ويأخذ بالألباب - فيقـول كمـا فـى الحديـث الـذى رواه الترمـذى بسند حسن يقول ((يُحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف، صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم))([6]).

وفى صحيح البخارى ومسلم من حديث أنس قال رجل: يانبى اللـه كيف يحشر الكافر على وجهه؟! فقال المصطفى : ((أليس الذى أمشاه فى الدنيا على رجلين قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟)). قال قتادة: بلى وعزة ربنا([7]).

ونحن نقول: بلى وعزة ربنا إنه لقادر أن يحشر الكافرين يوم القيامة على وجوههم.

أيها الحبيب: هل تصورت قبل أن ترى الحية أن دابة تمشى على بطنها؟! إن الذى جعل الحية تمشى بدون أرجل سيحشر الكافر وهو يمشى على وجهه يوم القيامة، إنه على كل شئ قدير.

أناس يمشون على الأقدام وأناس يركبون، من هؤلاء الذين يركبون فى هذا اليوم العصيب ؟!

اسمع لربك جل وعلا قال سبحانه: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [مريم:85].

وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [ فصلت: 30 ].

ويقدم الملائكة لأهل التقى ركائب من دواب الآخرة عليها سُرُج من ذهب فيركب المتقون، وينطلقون بها فى أرض المحشر حتى لا يمشون على أقدامهم فى هذا اليوم العصيب.. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!.

والتقوى هى أن يطاع اللـه فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر.

وسئل أبو هريرة عن التقوى فقال: "هل مشيت على طريق فيه شو ك؟" قال: نعم، قال: "فماذا صنعت إذا رأيت الشوك؟" قال: اتقيته، قال أبو هريرة: "كذاك التقوى".

وقال ابن المعتز:

وكبيــرهـا فهـــــو التقى

 

خــلِّ الذنـــوب صغيـرهـا

أرض الشـــوك يحـذر مايرى

 

واصنـع كمــــاش فـــوق

إن الـجبال مـن الحصــــى

 

لاتحـقـــرن صغيـــــرة

قال طلق بن حبيب:

التقوى أن تعمل بطاعة اللـه على نور من اللـه ترجو ثواب اللـه، وأن تترك معصية اللـه على نور من اللـه تخشى عقاب اللـه.

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا                   [ مريم: 85-86 ].

فالتقي يحشر راكباً، والعاصي يحشر وارداً، أما المتكبرون الذين انتشوا وانتفخوا فى الدنيا ولم يذلوا أنفسهم لله، ولم يخفضوا جناح الذل لخلق اللـه بل تراه مغروراً بكرسيه الذى جلس عليه، وتراه مغروراً بمنصبه وتراه متكبراً بماله، وتراه متكبراً بسلطانه وجاهه.

فهذا واللـه الذى لا إله غيره سيحشر بمنظر وهيئة لو علمها لوضع أنفه فى التراب ذلاً لمولاه، ولخفض جناح الذل لخلق اللـه.

غداً أقصر فإنك مأكول ومشروب

 

يا ابـن التـراب ومـأكول التراب

علام الكبرياء يا ابن آدم؟ وأنت تحمل البصاق فى فمك!! وتحمل العرق تحت إبطيك!! وتحمل البول فى مثانتك!! وتحمل النجاسة فى أمعائك!! وتمسح عن نفسك بيدك العذرة كل يوم مرة أو مرتين!!!

يا أيها الإنسان ما غرك!!

مر أحد السلف على رجل متبختر مختال فى مشيته فقال له هذا الرجل الصالح: يا ابن أخى هذه مشية يبغضها اللـه ورسوله.

فقال له المتكبر: ألا تعرف من أنا؟!!. من أنت أيها المغرور؟!

تصور معى مشهد حشر المتكبر يوم القيامة.

أخرج الترمذى عن رسول اللـه قال: ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذَّر فى صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان))([8]).

يحشر المتكبرون يوم القيامة كذر تدوسه الأقدام والأرجل لأنه كان منتفخاً منتشياً متكبراً مغروراً فى الدنيا.. والجزاء من جنس العمل.

فكما انتفخ واستعلى فى الحياة الدنيا يحشر يوم القيامة فى غاية الذلة والمهانة تطأه الأرجل والأقدام.

 فإذا ما وصلت الخلائق كلها إلى أرض المحشر تنزلت الملائكة ضعف عدد من فى الأرض.. تحيط الملائكة بأهل الأرض من كل جانب.

إن الموقف فيه من الأهوال والكروب ما يخلع القلوب وهذا هو عنصرنا الثالث

ثالثاً: هول الموقف

إذا ما وصل الناس إلى أرض المحشر ازداد الهم والكرب والغم. .. ولم لا‍!! وقد وقفوا قياماً طويلاً..طويلاً!!

و هاهي الشمس تدنوا من الرؤوس. ففى صحيح مسلم من حديث المقداد أنه قال: ((تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم مقدار ميل)) قال الراوى: فواللـه ماأدرى مايعنى بالميل: أمسافة الأرض، أو الميل الذى تكحل به العين؟‍! قال: ((فيكون الناس على قدر أعمالهم فى العرق فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيه ومنهم من يكون إلى حقويه ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً)) وأشار بيده إلى فيه([9]).

وفى الصحيحين من حديث ابن عمر أنه قال فى قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قال المصطفى : ((يقوم أحدهم فى رشحه إلى أنصاف آذانهم))([10]).

هل تصورت هذا المشهد؟ حرارة تذيب الحديد والحجارة فوق الرؤوس ولك أن تتصور البشرية كلها تحشر فى مكان واحد على أرض واحدة.

زحام يخنق الأنفاس!!

وفى هذا المشهد والموقف الرهيب يزداد الهم والكرب بإتيان جهنم.

إيه واللـه يؤتى بجهنم فى أرض المحشر كما قال المصطفى والحديث رواه مسلم من حديث جابر بن عبد اللـه: ((يؤتى بالنار يومئذ لها سبعون ألف زمام، ومع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها))([11]).

فإذا أقبلت جهنم، وأحاطت بالخلائق، ورأت الخلق زفرت، وزمجرت غضباً منها لغضب اللـه جل وعلا.. عند ذلك تجثوا جميع الأمم على الركب من الخوف والذلة.

قال تعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ   [الجاثية: 28].

وليس ذلك فقط بل يحدث ما تشيب منه الرؤوس وتنخلع له القلوب!!

اسمع إلى هذا الحديث الذى رواه الترمذى بسند صحيح قال رسول اللـه : ((يخرج عنق من النار له عينان تبصران وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إنى وكلت بثلاثة، لمن جعل مع اللـه إله آخر، وبكل جبار عنيد، وبالمصورين))([12]).

ويسجل القرآن جزاء كل جبار عنيد فيقول عز وجل: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:15-17].

فى هذا المشهد فى الحر الشديد، والزحام الرهيب!!

وفى هذا التدافع فى هذا الموقف الذى ترتعد منه الفرائص وتشيب له الرؤوس، ويهتز له الوجدان فإن الأنبياء حينما يرون هول هذا الموقف لايملكون إلا أن يقولوا: اللـهم سلم.. سلم!!

هذه دعوتهم يومها، والكلام مقتصر عليهم دون غيرهم!!

يومها تذهل كل مرضعة عن رضيعها، وتضع كل ذات حمل حملها وينتاب الناس الهلع، والرعب حتى تظنهم سكارى، وما هم بسكارى ولكن عذاب اللـه شديد.

يومئذ يفر المرء من أبيه، وأمه، وأخيه، وصاحبته، وينسى الابن أبويه اللذان برهما فى دنياه وألان لهما الجانب وأطاعهما فى غير معصية لله!!

يومها يفر الأخ من أخيه ولا تعد هناك روابط نسبية!!

ويومها تفر الزوجة من زوجها الذى أعطى لها كل عطفٍ وحنانٍ ورعايةٍ وصحبة جميلة حسنة!!

يومها ترمى الأم الحنون بطفلها فى غير وعى فلا أمومة فى هذا الموقف الرهيب المخيف، الكل يقول: نفسى... نفسى...! حتى الأنبياء!

الكل له شأن يلهيه، استمع لقول مولاك عز وجل فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس:33-37].

ولله در القائل :

يـــوم القيامة والسماء تمـور
حتـــى على رأس العباد تسيـر
وتبدلـت بعد الضياء كــدور
فرأيتها مثــل السحاب تسيـــر
خلــــت الديار فما بها معمور
وتقـــــول للأفلاك أين نسير
طـــَىَّ السجـل كتابه المنشور
وتهتكـــــت للعـالمين ستور
القصــــــاص وقلبه مذعور
كيف المصر على الذنـوب دهور
ولهـــا على أهـل الذنوب زفير
لفتى على طـول البلاء صبـور

 

مثــل لنفسك أيها المغـرور
إذا كـورت شمـس النهار وأُدْنِيَت
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت
وإذا الجبال تقلعت بأصولها
وإذا العشار تعطلت وتخربــت
وإذا الوحـوش لدى القيامة أحشرت
وإذا الجليــل طوى السماء بيمينه
وإذا الصحائف نشـرت وتطايرت
وإذا الجنيـن بأمه متعلق يخشـى
هـذا بــلا ذنـب يخاف جناية
وإذا الجحيـم تسعـرت نيرانها
وإذا الـجنان تزخرفـت وتطيبـت

تذكر كل هذه المشاهد.. الزحام شديد يكاد يخنق الأنفاس والشمس يكاد تصهر الرؤوس والكل يتدافع.. السؤال همس.. والكلام تخافت وجلال الحى القيوم عمر المكان بالهيبة.

فى هذه اللحظات ينادى الحق جل جلاله على مجموعة من الخلق فى أرض المحشر أن يتقدموا ليظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله.

من هؤلاء ياترى؟!! والإجابة على هذا السؤال تكون بعد جلسة الاستراحة.

أقول قولى هذا وأستغفر اللـه لى ولكم

 

 

الخطبة الثانية

أحبتى فى اللـه:

رابعاً: فى ظل عرشه

إن مجرد الكلام عن أهوال هذا اليوم ترتعد له الفرائص فكيف إذا عايناه وعاصرناه وعايشناه على أرض الواقع لا أرض الخيال؟!!

فى هذا الموقف ينادى الحق جل جلاله على أناس ليظلهم بظله يوم لاظل إلا ظله، ياترى من هؤلاء السعداء؟!

فى صحيـح البخـارى ومسـلم من حديـث أبى هريرة: قال المصطفى: ((سبعة يظلهم اللـه فى ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل، وشاب نشأ فى عبادة اللـه، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا فى اللـه اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصبٍ وجمال فقال: إنى أخاف اللـه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لاتعلم شماله ماتنفق يمينه، ورجل ذكر اللـه خالياً ففاضت عيناه))([13]).

((إمام عادل)): أى حاكم عادل عاش ليقيم العدل فى الأرض، سعدت به رعيته، وسعد هو برعيته، وكان يتقى اللـه فى هذه الأمانة، يعلم يقيناً أن الحكم والمنصب أمانة سيسأل عنها بين يدى اللـه كما قال المصطفى لأبى ذر: ((إن الولاية أمانة وإنها يوم القيامة حسرة وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها )). ترى ما جزاء هذا الحاكم؟! أن يظله اللـه يوم لا ظل إلا ظله.

((شاب نشأ فى عبادة اللـه))

أخى فى اللـه: إذا نشأت فى عبادة اللـه، وانصرفت عن معصية اللـه وإن زلت قدمك فى معصيته تبت إلى اللـه جل وعلا، أظلك اللـه بظله يوم لا ظل إلا ظله.

أيها الشاب الفتي.. أيها الشاب الزكى.. أيها الشاب الذى أسرفت على نفسك أرجو من اللـه عز وجل أن لا تتأخر لحظة عن التوبة وطاعة اللـه لأن الطاعة عِز، الطاعة شرف.. فلا عز فى الدنيا والآخرة إلا بطاعة اللـه.

ولماذا خص الشاب؟!!

لأن الشاب تجرى دماء الشهوة فى عروقه، لأنه - لا سيما فى سن المراهقة وسن الفتوة - تعصف الشهوة بكيانه عصفاً، ولكن بخوفه من اللـه ومراقبته لله يعصم نفسه ويحارب شهواته ويحارب نفسه الأمارة بالسوء.

لذا كافأ اللـه هذا الشاب الطائع، التقى، النقى، الطاهر الذى نشأ منذ نعومة أظافره يعبد اللـه، ويطيع اللـه ويحفظ حقوق اللـه ويمتثل أوامره ويجتنب نواهيه ويقيم حدوده، فيظله تحت ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله.

((ورجل قلبه معلق بالمساجد)) معنى ذلك أن قلبه فى المسجد، فإذا صَلَّى الفرض، وخرج إلى الدنيا يسعى على رزقه من الحلال، أو عاد إلى بيته وأولاده يخرج من المسجد، وقلبه مشتاق أن يرجع إلى المسجد مرة أخرى فهو متعلق بالمسجد يهوى الجلوس فى بيت اللـه بل يتمنى أن لو ييسر اللـه له الوقت ليقضى جُله فى بيت اللـه جل وعلا وهذا خير من أن تقضى وقتك أمام المسلسلات والمباريات والأفلام!! لماذا لا تحرص على أن تقضى هذا الوقت فى بيت اللـه جل وعلا؟!

فإذا تعلق قلبك به أظلك اللـه فى عرشه يوم لا ظل إلاَّ ظله.

((ورجلان تحابا فى اللـه اجتمعا عليه وتفرقا عليه)).

إنه الحب فى اللـه إن ((من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان))([14]) وإن آصرة الحب فى اللـه هى أغلى آصرة.. وأن رابطة الحب فى اللـه هى أغلى رابطة.. ألا وإن ((أوثق عرى الإيمان، الحب فى اللـه والبغض فى اللـه)) يقول اللـه سبحانه وتعالى فى الحديث القدسى وهو فى الصحيحين:  ((أين المتحابون بجلالى؟ اليوم أظلهم فى ظلى يوم لاظل إلا ظلى))([15]).

((ورجل دعته امرأة - أي للزنا - ذات منصب وجمال فقال: إنى أخاف اللـه)): تذكر اللـه جل وعلا وراقبه وأعرض عن هذه الكبيرة خوفاً من اللـه جل وعلا.

((ورجل ذكر اللـه خاليا ففاضت عيناه)): خلى بنفسه، وقام من الليل، وجلس يصلى أو يذكر اللـه سبحانه وتعالى فلما امتلأ قلبه بهيبة اللـه وبعظمة اللـه، فاضت عيناه بالدموع خوفاً منه وهيبة له سبحانه.

قال رسول اللـه : ((عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية اللـه، وعين باتت تحرس فى سبيل اللـه))([16]).

وهناك غير هؤلاء السبعة من الذين يظلهم اللـه فى ظله يوم القيامة.

ولقد جمع الحافظ ابن حجر فى كتاب مستقل هؤلاء الذين يظلهم اللـه فى ظله غير هؤلاء السبعة فى كتاب قيم سماه (معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال) وبين أن اللـه سبحانه يظل غير هؤلاء السبعة فى ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله ففى الحديث الصحيح أنه قال :

((مـن، أنظـر (أمهـل) معسـراً أظلـه اللـه فـى ظلـه يـوم لا ظـل إلا ظلـه))([17]).

أيها الحبيب الكريم: احرص على طاعة اللـه وعلى هذه الخصال من خصال الخير ليظلك اللـه فى ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.

وحينئذ يقوم بقية الخلق فى هذا الموقف قياماً طويلاً طويلاً، ويشتد الكرب عليهم حتى يتمنى بعضهم أن يحشر إلى النار ولا يقف فى مثل هذا الموقف المهيب الرهيب ظاناً أن النار لن تكون أشد عذاباً مما هو فيه من هم وكرب.

وهنا يبحث الخلق عمن يشفع لهم إلى اللـه جل وعلا ليقضى اللـه تبارك وتعالى بين الخلائق لينتهى هذا الموقف المهيب الرهيب، وهنا يقول كل نبى من الأنبياء: نفسى.. نفسى.

ويتقدم الحبيب المصطفى صاحب المقام المحمود وصاحب الحوض المورود، و صاحب اللواء المعقود، وصاحب الشفاعة العظمى يوم الدين يتقدم ليشفع للخلائق فى أرض المحشر ليقضى اللـه جل وعلا بينهم ونتوقف عند هذا المشهد الكريم عند مشهد شفاعة النبى r لأهل الموقف جميعاً لنعيش مع هذا الموقف. لنتعرف عليه لاحقاً إن قدر اللـه لنا البقاء واللقاء.

أسأل اللـه العظيم رب العرش الكريم أن يحسن خاتمتنا. إنه ولى ذلك والقادر عليه.

 

 

 



([1]) رواه مسلم رقم ( 2878) ، فى الجنة ، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت .

([2]) رواه مسلم رقم (1178) ، فى الفضائل ، باب تفضيل نبينا صلى اللـه عليه وسلم على جميع الخلائق ، أبو داود رقم (4763) ، فى السنة ، باب فى التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والترمذى رقم (3615) ، فى المناقب ، باب ماجاء فى فضل النبى صلى اللـه عليه وسلم .

([3]) رواه البخارى رقم ( 6524) ، فى الرقاق ، باب كيف الحشر؟ ، ومسلم رقم (2860) ، فى الجنة ، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ، الترمذى رقم (2425) ، فى القيامة ، باب ماجاء فى شأن الحشر ، والنسائى (4/114) ، فى الجنائز ، باب البعث .

([4]) رواه البخارى فى الرقاق ، باب يقبض اللـه الأرض ، ومسلم رقم (2790) فى صفات المنافقين ، باب فى البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة .

([5]) رواه البخارى رقم (6527) فى الرقاق ، باب الحشر ، ومسلم رقم (2859) فى الجنة ، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ، والنسائى (4/114) فى الجنائز ، باب البعث .

([6]) رواه الترمذى رقم (3141) فى التفسير ، باب ومن سورة بنى إسرائيل . وصححه شيخنا الألبانى فى المشكاة (5546) .

([7]) رواه البخارى رقم (4760) فى التفسير ، سورة الفرقان ، ومسلم رقم (2806) فى صفات المنافقين ، باب يحشر الكافر على وجهه .

([8]) رواه الترمذى رقم (2494) فى صفة القيامة ، وصححه شيخنا الألبانى فى المشكاة وهو فى صحيح الجامع برقم (8040) .

([9]) رواه مسلم رقم (2864) فى صفة الجنة ، باب صفة يوم القيامة ، والترمذى رقم (2423) فى صفة القيامة ، باب رقم (3) ، وهو فى صحيح الجامع رقم (2933) .

([10]) رواه البخـارى رقم (6531) فى الرقاق ، باب قوله تعالى : ألا يظن أولئك أنهم مبعثون . . . الآيـــة ، ومسلم رقم (2862) فى الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، باب فى صفة يوم القيامة .

([11]) روه مسلم رقم ( 2842) فى صفة الجنة ، باب فى شدة حر نار جهنم ، والترمذى رقم (2576) فى صفة جهنم ، باب ماجاء فى صفة النار .

([12]) رواه الترمذى رقم (2577) فى صفة جهنم ، باب ماجاء فى صفة النار ، وصححه شيخنا الألبانى فى الصحيحة رقم (512) ، وهو فى صحيح الجامع برقم (8051) .

([13]) رواه البخارى (2/119) فى الجماعة ، باب من جلس فى المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد ، ومسلم رقم (1031) فى الزكاة ، باب فضل إخفاء الصدقة .

([14]) رواه أبو داود رقم (4681) فى السنة ، باب الدليل على زيادة الإيمان ، وهو فى صحيح الجامع (5965) .

([15]) رواه مسلم رقم (2566) فى البر والصلة ، باب فى فضل الحب فى اللـه ، والموطأ (2/952) فى الشعر ، باب ماجاء فى المتحابين فى اللـه .

([16]) رواه الترمـذى رقـم (1639) فى فضائـل الجهـاد ، باب ماجاء فى فضل الحرس فى سبيل اللـه وصححـه شـيخنا الألبـانى فـى المشـكاة رقـم (3829) ، وهـو فـى صحيـح الجامـع رقـم (4112) .

([17]) رواه الترمذى رقم (1306) فى البيوع ، باب فى إنظار المعسر ، وصححه شيخنا الألبانى فى صحيح الترغيب (900) ، وهو فى صحيح الجامع رقم (6107) .

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً