.

اليوم م الموافق ‏21/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

أنواع الموت

6912

الرقاق والأخلاق والآداب

مواعظ عامة

عبد الباري بن عوض الثبيتي

المدينة المنورة

6/5/1435

المسجد النبوي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- معنى الحياة والموت. 2- الإسلام حياة. 3- موت القلوب. 4- الجهل موت. 5- ركود الهمة. 6- موت الحواس. 7- الموت الاجتماعي. 8- موت الوقت. 9- موت القيم والمبادئ. 10- الغيرة حياة. 11- موت الأمانة. 12- الاستجابة لأمر الله تعالى. 13- آية النوم.

الخطبة الأولى

أما بعد: فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].

الحياةُ وضِدُّها الموت في المعاني الحقيقية والمجازية؛ فحياةُ الأرض بالإنبات، وحياةُ العقل بالعلم وسَداد الرأي، قال الله تعالى: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [النحل: 21].

الإسلامُ أحيَا موتَ البشرية، وبعثَ فيها الرُّوحَ من جديد، أنقَذَنا الله بالإسلام من موتِ الرُّوح الذي هو أشدُّ من موتِ الجسَد، والعبدُ ما لم تُشرِق في قلبِه شمسُ الرِّسالة وينَلُه من حياتها ورُوحِها فهو في ظُلمةٍ، وهو من الأموات، قال الله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام: 122].

فهذا وصفُ المؤمن كان ميِّتًا في ظُلمة الجهَالَة، فأحيَاه الله برُوح الرسالة ونور الإيمان، وجعلَ له نورًا يمشِي به في الناس. وأما الكافِرُ فميِّتُ القلبِ في الظُّلُمات.

ومن صُور الموت: موتُ القلوبِ بضعفِ الإيمان؛ فالقلبُ الميِّتُ لا يعرِفُ ربَّه ولا يهتدِي بنُورِه، والحياةُ الحقيقيةُ هي حياةُ القلب، وعُمر الإنسان مُدَّة حياته هي حياتُه بالله، هي ساعات عُمره في البرِّ والتقوى والطاعة، ولا عُمر له سِواها.

وإذا أعرضَ العبدُ عن الله واشتغلَ بالمعاصِي ضاعَت عليه أيامُ حياتِه الحقيقية، وبعد إضاعتِها يقولُ: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر: 24].

قال الله تعالى: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ [الروم: 52]، شبَّهَهم في موتِ قلوبِهم بأهل القُبُور؛ فإنهم قد ماتت أرواحُهم، وصارَت أجسامُهم قبورًا لها، فكما أنه لا يسمعُ أصحابُ القبور، كذلك لا يسمعُ هؤلاء.

وإذا كانت الحياةُ هي الحِسُّ والحركة، فهذه القلوبُ لما لم تُحِسَّ بالعلم والإيمان، ولم تتحرَّك له كانت ميِّتةً حقيقةً، وليس هذا تشبيهًا لموتِها بموتِ البدَن؛ بل ذلك موتُ القلبِ والرُّوح. والجهلُ موتٌ وضياعٌ للحياة، والعلمُ ضياءٌ لها، ونورٌ للبصيرة، وبه سعادةُ الدنيا.

ومن جهِل نقصَت حياتُه، وفقدَ جُزءًا من زهرتها، قال الله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [الرعد: 19].

فالجاهلُ مُجرَّد جسدٍ يمشِي على الأرض وإن كان حيَّ البدَن، قال الله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس: 69، 70].

وقد يموتُ المرءُ بركُودِ همَّته وعزيمتِه، فتذبُل حيويَّتُه، ويغدُو أسيرَ الشهوات والملذَّات، يتحرَّكُ معها، وينشطُ لها. والمُسلمُ حياتُه وقَّادةٌ مع ذِكر الله والجنة والنار، وعزيمتُه ماضيةٌ في الطاعة والعبادة.

علامة الحياة هذه الهمَّة التي تجعلُ للمُسلم قيمة، ولحياته معنًى، ولعُمره أثرًا. وقد يموتُ المرءُ معنويًّا بموت مشاعِره، وتجمُّد عاطفتِه، وحركةُ المشاعِر وتجاوبُها مع الأحداث دليلُ الحياة وعلامةُ الإيمان. وكيف لا تتحرَّك مشاعِرُ المُسلم مع ما يمُوجُ في شرق الأرض وغربِها من فتنٍ مُترادِفة ومِحَنٍ مُتتالِية، تعصِفُ بالأمة الإسلامية؛ حربُ إبادةٍ، وانتِهاكٌ للمُقدَّسات، وقتلٌ وتهجيرٌ، وسُخريةٌ واستِهزاءٌ، وفُرقةٌ وشَتاتٌ، وتخلُّفٌ وفقرٌ.

عن حُذيفة بن اليَمان قال: سمعتُ رسول الله يقول: «تُعرَضُ الفتنُ على القلوبِ كالحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَ فيه نُكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرَها نُكِتَ فيه نُكتةٌ بيضاء، حتى تصيرَ على قلبَين: على أبيَضَ مثل الصفاء، قلا تضُرُّه فتنةٌ ما دامَت السماواتُ والأرض، والآخر أسود مربادّا، كالكُوز مُجخِّيًا، لا يعرِفُ معروفًا ولا يُنكِرُ مُنكرًا، إلا ما أُشرِبَ من هواه».

وقد تموتُ الحواسُّ، قال الله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف: 179]. وحياةُ الحواسِّ تكون في حُسن الخُلُق، وأدب الكلمة، وخُشوع النظر، وغضِّ البصر، وخفضِ الجَناح، قال رسولُ الله : «تبسُّمُك في وجهِ أخيكَ صدقةٌ».

وقد يموتُ المرءُ اجتماعيًّا بانحِسار دورِه في الحياة والمُجتمع، وضعفِ تواصُلِه مع أهلِه وأقارِبِه والناس، فيعيشُ مُنعزِلًا، ويُؤثِّرُ هذا على رسالتِه في بناءِ مُجتمعِه ووطنِه وأمَّتِه وتنمية شخصيَّته.

والحياةُ -عباد الله- هي الإنجازُ والطُّموحُ، والموتُ يعني اليأسَ والخمولَ والكسلَ وتعطيلَ الطاقات والبَطالَة.

الإنجازُ أن تصنعَ شيئًا لنفسِك ووطنِك وأمَّتك ومُجتمعك، ولن يشبعَ مُؤمنٌ من خيرٍ حتى تكون الجنة مُنتهاه، وقد غرسَ فينا رسولُنا الكريمُ الطُّموحَ فقال: «فإذا سألتُم الله فاسألُوه الفِردوسَ»، ويقول عُمر بن عبد العزيز رحمه الله: "إن لي نفسًا توَّاقَة".

وموتُ الوقت -عباد الله- هو موتُ الإنسان في الحياة، ويُفرِزُ عواقِبَ وخيمةً في السُّلُوك والأخلاق والعقيدة. يقول الحسنُ البصريُّ رحمه الله: "ما من يومٍ ينشقُّ فجرُه إلا نادَى مُنادٍ من قِبَل الحقِّ: يا ابنَ آدم، أنا خلقٌ جديدٌ، وعلى عملِك شهيدٌ، فتزوَّد منِّي بعملٍ صالحٍ؛ فإني لا أعودُ إلى يوم القيامة".

وإنه لمن فضلِ الله: أن يُلهَمَ الرجلُ استِغلال كل ساعةٍ من عُمره في العمل، ومن المُؤسِفِ أن البعضَ لا يُبالُون بإضاعة أوقاتهم سُدًى، قال رسولُ الله : «نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحَّةُ والفراغ».

وقد تُقتلُ الليالي بما يُسمِّيه بعضُهم "إحياء الليالي"، والتي هي في حقيقتها قتلٌ لساعات العُمر وإماتةٌ له وشلٌّ لحركته.

وقد تموتُ القِيَمُ والمبادِئُ، وتفشُو مظاهر سُلُوكيَّةٌ سيِّئةٌ؛ من حسَدٍ، وأنانيَّةٍ، وحقدٍ، وظُلمٍ، فتموتُ الحياةُ الفاضِلَة بشُيُوع هذه السُّلُوكيَّات المَشِينة.

والغيرةُ -عباد الله- حياةٌ، وموتُها يقودُ إلى الدَّمار، وجلبِ كل عارٍ، والأعراضُ غاليةٌ وثمينةٌ، قال : «ومن قُتِل دون أهلِه فهو شهيدٌ».

إن غيرَة الرجلِ على نسائِه دليلٌ على قوة إيمانِه وعُلُوِّ همَّته، ومُجتمعٌ يُحفَظُ فيه النساء ويغارُ فيه الرِّجالُ مُجتمعُ طُهرٍ وعفافٍ.

وموتُ الأمانة ونضوبُ منابِعِها مُؤشِّرٌ خطيرٌ إلى مرضٍ عُضالٍ، ورفعُ الأمانة من قلوبِ الرِّجال من مظاهر الخلَل في بُنيان المُجتمعات، قال عبدُ الله بن مسعودٍ : (إن أول ما تفقِدون من دينِكم الأمانة، وآخِرَ ما يبقَى الصلاة)، وعن عبدِ الله بن عمروٍ أن رسولَ الله قال: «لا تقومُ الساعةُ حتى يظهرَ الفُحشُ والتفاحُشُ، وقطيعةُ الرَّحِم، وحتى يُؤتمَن الخائِنُ ويُخوَّن الأمين».

والاستِجابةُ لله وللرسول حياةٌ، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24].

تكون الاستِجابةُ حياةً بالعمل الصالِحِ، والامتِثال لأوامِر الشَّرع وتعظيمِها وتحكيمِها، وعلى قدر الاستِجابة تكون الحياةُ النافِعةُ الطيِّبة، ومن لم يستجِبْ لله وللرسول فحياتُهم ناقِصةٌ غيرُ كامِلة، وحياتُهم لا تُسمَّى حياةً وإن مشَوا على الأرض، قال الله تعالى: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ [الأنعام: 36].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، أحمدُه سبحانه وأشكرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه.

أما بعد: فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].

عباد الله، والنومُ موتٌ، وهو آيةٌ من آيات الله ونعمةٌ من نِعَمه، وهو موطنُ عِظَةٍ وعِبرةٍ، ومُعجِزةٌ تشهَدُ على قُدرتِه سبحانه، اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: 42]. فاقتضَت حكمةُ الله أن ينامَ الإنسانُ حتى يعيشَ الجسَد.

وكثرةُ النوم موتٌ للحياة، ومظِنَّةُ فسادٍ وفوات المصالِح. وقد سُئِل عُمر بن الخطَّاب عن جِدِّه في نهارِه وقيامِه في ليلِه، فقال: (إنني لو نِمتُ في نهارِي ضيَّعتُ رعِيَّتي، ولو نِمتُ في ليلِي ضيَّعتُ نفسِي)، قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام: 60].

ألا وصلُّوا -عباد الله- على رسول الهُدى؛ فقد أمرَكم الله بذلك في كتابه...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً