أما بعد: فأُوصِيكم -أيها الناس- ونفسي بما وصَّى الله به الأولين والآخرين؛ حيث قال جل وعلا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131]. ألا فاتقوا الله عباد الله، وراقِبوه في الخَلوة والجَلوة، والغضب والرِّضا، واعبُدوه واشكرُوا له، إليه تُرجَعون.
عباد الله، أربعةُ أحرفٍ لا خامِسَ لها، متى وقع فأسُها لفظًا ومعنًى على أيّ فردٍ ممّن هو لبِنَةٌ من لبِنَات بناء المُجتمع المُتماسِك؛ فإنه الاهتزازُ ما منه بُدٌّ، ومن ثَمَّ حدوثُ الشَّرخ المُفضِي إلى تقوِيضِ ما حولَه من اللَّبِنَات، ليتتابَعَ شرخُ البِناءِ برُمَّتِه، إن لم يتساقَط بعضُه أو جُلُّه، وليس مُستحيلًا والحالُ هذه أن يسقُط كلُّه.
نعم عباد الله، إنها أربعةُ أحرُفٍ في مبناها، لكنها دواوين وأسفارٌ في معناها. إنها أربعةُ أحرُفٍ تُكوِّنُ كلمةً غصَّت بها حُلوقُ المُجتمعات، وبُحَّت لأجلها أصواتُ الناصِحين والمُرشِدين، وأجلَبَت بخيلِها ورجِلِها غُدُوًّا ورواحًا وسط أخلاقيات مُجتمعاتهم.
إنها الأحرُفُ الأربعةُ التي ينطِقُها كلُّنا أو جُلُّنا باللفظ المعروف، وهي: "الأثَرَة". نعم؛ إنها الأثَرَة، وإن شئتُم فقولوا: "الأنانية" كما تُسمَّى باللفظ الدارِج في أوساطِنا، أو كما يُسمِّيها بعضُ المُثقَّفين بـ"الأنا" أو "حب الذَّات". وأيًّا كانت هذه الأسماء فإن المُسمَّى واحدٌ، ومهما تعدَّدت تفسيراتُها وتصوُّراتُها بين الناس فإن الذمَّ أيضًا واحدٌ.
أجل عباد الله، إنها الأثَرَة التي هي: حبُّ النفس المُفضِي إلى تقديم رغَبَاتها وشهواتها دون اعتِدادِ حقوق الآخرين العامَّة والخاصَّة.
إنه حبُّ الذَّات الذي يُعمِي ويُصِمُّ ليجعلَ المُصابَ به لا ينظرُ إلا من زاويةٍ واحدةٍ ضيِّقةٍ داكِنة، لا يرى فيها إلا نفسَه ومصلحتَه، ضارِبًا بهما ما للمسلمين من مصالِح عُرضَ الحائِط. فليس لمصلحة الأُسرة أو المُجتمع مقامٌ في قاموسِ أخلاقِه، يرى في الحياة كلِّها معنى نفسِه لا معنى الناس، قد حرَمه الله حلاوةَ الإيمان التي لا تتحقَّق بمثلِ هذه الصفةِ المَقيتة. كيف لا وقد قال النبي : «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه» رواه البخاري ومسلم.
إن كلِمة "أنا" تبدأُ بزَهوِ النفس ينتفِخُ شيئًا فشيئًا، حتى يُصبِحَ ورَمًا عقليًّا وخُلُقيًّا، لا يُحسِنُ صاحبُه بسببه نُطقًا إلا بكلِمة "أنا"، ولا يُباشِرُ بسببه تعامُلًا إلا بعد أن يقول: "وماذا لي أنا؟"، ليتشبَّه برَكبِ أصحاب "الأنا" من أمثال فِرعون الذي قال عن نفسِه: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24]، والنمرود الذي قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: 258]، بعد أن سبقَ أصحاب "الأنا" إمامُهم الذي أجلَبَ على أخلاقِهم بخيلِه ورجِلِه إبليسُ عليه لعائنُ الله؛ حيث قال لخالِقِه ومولاه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12].
عباد الله، إن قيمةَ المُجتمع في أخلاقِه، فإن لم يحتسِب كلُّ فردٍ منه أنه جُزءٌ من هذا المُجتمع فإنه سيرَى أنه هو المُجتمعُ وحدَه، وهذه هي الأَثَرَةُ المُوجِعة.
إنه لن ينجحَ مُجتمعٌ كلُّ واحدٍ فيه لا يعرِفُ إلا كلمة "أنا"، فالمُجتمعُ أُسرةٌ يشتركُ جميعُ أفرادها في رِعايةِ كلِّ ما يُصلِحُها، واتِّقاء كلِّ ما يُفسِدُها، بالنظر إلى الصالِح العام فيُجلَب، وإلى الفساد العام فيُتَّقى، ضارِبين بكلمة "أنا" عُرضَ الحائِط؛ لأنه لن يَحيَا مُجتمعٌ كلُّ فردٍ من أفرادِه لا يرَى فيه إلا نفسَه، بل لا تقومُ قائمةُ المُجتمعات دون أن يتحقَّق فيها الشعورُ بالآخرين، واستِحضارُ حقوقهم التي أوجبَها الله على كل فردٍ؛ ليُحسِنَ رِعايَتها بما يُرضِي الله جل وعلا، لا بما يُرضِي نفسَه دونَهم.
قال رسولُ الله : «مثلُ القائمِ على حُدود الله والواقع فيها كمثَل قومٍ استَهَموا على سفينةٍ، فأصابَ بعضُهم أعلاها، وبعضُهم أسفلَها. فكان الذين في أسفَلِها إذا استقَوا من الماء مرُّوا على من فوقَهم فقالوا: لو أنَّا خرقْنا في نصيبِنا خرقًا ولم نُؤذِ من فوقَنا، فإن يتركوهم وما أرادُوا هلَكُوا جميعًا، وإن أخَذُوا على أيديهم نجَوا ونجَوا جميعًا» رواه البخاري.
نعم عباد الله، لو غلبَ على من في أعلى السفينة الأَثَرَة وقالوا: ما لَنا وما لَهم؟! لهلَكَ الجميع؛ إذ لا مقامَ لحبِّ النفس فيما تقتضِي الحالُ أن يكون مصلحةً عامَّةً للمُجتمع الواحِد.
إن شريعتَنا الغرَّاء حضَّت أشدَّ التحضيض على رفع النفس وزمِّها عمّا يشينُها، ومن ذلكم: قطعُ كل ما من شأنِه إذكاءُ معنى الكِبر، والغرور، والإعجاب بالنفس، الذي يُفضِي إلى مُراعاة مصلحَتها على حسابِ أي مصلحةٍ عامَّةٍ أو خاصَّةٍ. فعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: أتيتُ النبي في دَينٍ كان على أبي، فدققتُ البابَ، فقال: «مَن ذا؟» فقلتُ: أنا، فقال: «أنا، أنا!» كأنه كرِهَها. رواه البخاري ومسلم.
إنها كلمةٌ تتكرَّر في تصرُّفاتنا اليومية، وقد لا تَعني عادةً أن صاحبَها يزهُو بنفسِه، أو أن لها هدفًا أكثر من أن يُعرِّفَ بنفسِه، ومع ذلكم كرِهَها النبي ؛ ليُؤصِّلَ في أمَّته معنى التواضُع واللِّين، والنَّأْيِ بالنفس عن أي سبيلٍ من سُبُل الغُرور والإعجابِ وحبِّ النفس دون ما أباحَ الله للمرء.
وبعدُ: يا رعاكم الله، فلقد طغَت الأثَرَةُ في كثيرٍ من المُجتمعات، وضربَت بأطنابِها في الأُسرة والجِيران وساحَة المعرفة وسوق العمل، فأفرزَت الكسلَ في العمل التطوُّعيِّ، وأذكَت التنافُسَ في العمل المصلحِيِّ، كما أنها وأدَت الشفاعة ونفعَ الناس، وأذكَت الرِّشوَة والغُلولَ والابتِزازَ.
فإن كان النبي قد حرَّم على أمَّته منعًا وهات، فإن الأثَرَة تُصيبُ صاحبَها بسعَار النَّهَم، وحبِّ التشبُّع، فلا يعرِفُ إلا قول: "هاتِ وهاتِ". وما آفةُ المُجتمعات إلا بمثلِ ذلكم.
قال ابنُ القيم رحمه الله: "وليحذَر كلَّ الحذَر من طُغيانِ: أنا، ولي، وعندي؛ فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتُلِيَ بها إبليس وفرعون وقارون، فـأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف: 12] لإبليس، ولِي مُلْكُ مِصْرَ [الزخرف: 51] لفرعون، وإِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: 78] لقارون". انتهى كلامُه رحمه الله.
فيا للهِ؛ ما أعظمَ هديِ نبيِّنا وقُدوتنا وهو يُرشِدُ أمَّتَه أن لا يُقابِلُوا الأثَرَة بأثَرَةٍ مثلِها، فيُقابِلُوا الداءَ بالداء، وإنما أرشدَهم إلى ما تسمُو به النفسُ ويتحقَّقُ به صالِحُ الأمة والمُجتمع الواحِد. وهو لا يدلُّ إلا إلى الخير، ولا يُحذِّرُ إلا من الشرِّ، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: «إنكم سترَون بعدِي أثَرَةً وأمورًا تُنكِرونَها»، قالوا: فما تأمُرُنا يا رسول الله؟ قال: «أدُّوا إليهم حقَّهم، وسلُوا اللهَ حقَّكم»، وفي روايةٍ: «فاصبِروا حتى تلقَونِي» رواه البخاري.
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والذكرِ والحكمة، قد قلتُ ما قلتُ، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المُسلمين والمُسلمات من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفورُ الرحيم.
|