أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون- بامتِثال ما أمَر، والبُعد عما نهَى عنه وزجَر؛ فإن تقوَى الله صلاحُ الأعمال، وحُسن المُنقلَب والمآل.
عباد الله، إن مَن أصلحَ ما بينَه وبين ربِّه أصلحَ الله له آخرتَه ودُنياه، وأصلحَ له ما بينَه وبين الناس.
وإصلاح العبد لما بينه وبين الله هو بتوحيد الله تبارك وتعالى؛ بأن يَعبُدَ ربَّه وحده لا شريك له، بدُعائه ورجائه والتوكُّل عليه وخوفه ومحبَّته وتعظيمه، والاستعانة به وطاعته، والإيمان بأسمائه وصفاته، والثناء على الله بها، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحجِّ بيت الله الحرام، وبرِّ الوالدَين، وصِلَة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترك ما نهى الله عنه من المُحرَّمات والمُوبِقات، إلى غير ذلك مما أمر الله به أو نهى عنه، مع التمسُّك بالسنَّة والإخلاص لله في كل عمل، فمن أصلحَ ما بينه وبين خالقه بالتمسُّك بوصايا الله وبوصايا رسول الله أصلح الله أمورَه كلها، وأحسنَ له العاقبةَ في آخرته، قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأعراف: 35]، أي: لا خوفٌ عليهم في مُستقبل أمرهم، ولا هم يحزنون على ما مضَى من شأنهم. وقال الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأنعام: 48]، وقال تبارك تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30]، وقال عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ [محمد: 2].
وإصلاحُ الناس ما بينهم وبين ربِّهم بالعمل الصالح يُصلِحُ الله به الأمور، ويحفظُ الله به الأمةَ من الشُّرور، قال الله تعالى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء: 147]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف: 170]، وفي الحديث: «لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي على الحقِّ ظاهرين، لا يضرُّهم من خذَلَهم ولا من خالَفَهم حتى يأتي أمرُ الله تعالى».
عباد الله، إن ربَّكم تبارك وتعالى أَجَلُّ وأَكرَم وأوفَى من أن يتخلَّى عن عبده ويُضيِّعَه إذا صدقَ معه، وخافَ من اتباع هوى النفس، وعمِلَ بما يحبُّ ربُّه من الطاعات فرائضها ونوافلها، وجانَبَ المُحرَّمات. فمن كان لربِّه على ما يحبُّ الربُّ كان الله له على ما يحبُّ. قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40]، وقال تعالى: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ [التوبة: 111]، وقال تبارك وتعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 40، 41].
وأحسنُ أحوال العبد: أن يتولَّى اللهُ تعالى أموره كلها، ويحفظَه في دينه ودُنياه، ويُسدِّده ويُوفِّقه في أقواله وأفعاله وعاقبةِ أمره. ولا يُنالُ ما عند الله إلا بطاعته، وهل شقِيَ بطاعة الله أحد؟! أو هل سَعِدَ بمعصية الله أحد؟! عن أنس ، عن النبي ، عن جبريل عليه الصلاة والسلام، عن ربِّه تبارك وتعالى قال: «من أهانَ لي وليًّا فقد بارَزَني بالمُحارَبة، وما تردَّدتُ عن شيءٍ أنا فاعِلُه ما تردَّدتُ في قبض نفسِ عبدِي المُؤمِن؛ يكرَهُ الموتَ وأكرَهُ مَساءَته، ولا بُد له منه، وإن من عبادي المؤمنين من يُريد بابًا من العبادة فأكفُّه عنه؛ لا يدخُلُه عُجبٌ فيُفسِدُه ذلك، وما تقرَّب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُهُ عليه، ولا يزالُ عبدي يتنفَّلُ إليَّ حتى أُحبَّه، ومن أحبَبتُه كنتُ له سمعًا وبصرًا ويدًا ومُؤيِّدًا، دعاني فأجبتُه، وسألَني فأعطيتُه، ونصَحَ لي فنصحتُ له، وإن من عبادي من لا يُصلِح إيمانه إلا الغِنَى، ولو أفقَرتُه لأفسَدَه ذلك، وإن من عبادي من لا يُصلِح إيمانَه إلا الفقر، وإن بسطتُ له أفسَدَه ذلك، وإن من عبادي من لا يُصلِح إيمانَه إلا الصحّة، ولو أسقمتُه لأفسَدَه ذلك، وإنَّ من عبادي من لا يُصلِح إيمانَه إلا السُّقْمُ، ولو أصحَحتُه لأفسَدَه ذلك. إني أُدبِّرُ عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني عليمٌ خبيرٌ» رواه الطبراني. ولهذا الحديث شاهدٌ في "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة في بعض ألفاظه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسول الله يقول: «من الْتَمَسَ رضا الله بسخط الناس كفاه مَؤونَةَ الناس، ومن الْتَمَسَ رضا الناس بسخط الله وَكَلَهُ الله إلى الناس» رواه الترمذي.
عباد الله، إن من أعظم العبادات وأجمعها للخير: الدعاء؛ فالدعاءُ يُنزِلُ الله به الخيرات، ويدفع الله به البلاء والشُّرور والمكروهات، قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]، وفي الحديث: «ما من مسلم يدعو الله تعالى إلا آتاه الله مسألته، أو أعطاه مثلها، أو ادَّخَرَها له في الآخرة، أو صَرَفَ عنه من السوء مثل دعوتِهِ»، قالوا: يا رسول الله، إذًا نُكثِر؟ قال: «الله أكثر».
والدعاءُ مُضطرٌّ إليه كلُّ أحد، قال الله تعالى: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29]. قال عمر بن الخطاب : (إني لا أحمِلُ هَمَّ الإجابة، ولكن أحمِلُ هَمَّ الدعاء، فإذا أُلهِمتُ الدعاء كانت الإجابة معه). فالدعاءُ يُصلِح الله به الأمور، ويدفعُ الله به الشُّرور.
بسم الله الرحمن الرحيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|