أما بعد: فإن خيرَ الوصايا بعد المحامِد والتحايا الوصيةُ بتقوى الله العظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
كلُّكم راحِلٌ إلى الله عابِرٌ إلى الآخرة، والأيام تمضِي بالأعمار عجلَى مُسرِعة، والنفوسُ في هذه الدُّنيا عرايا مُسترجَعة، والأبوابُ إلى الله لم تزَل مُشرَعة، وعند الله الوعدُ والإيعاد، وهو للطاغِين بالمِرصاد، وللطائِعين رزقٌ ما له من نفاد.
أيها المسلمون، يصطرِعُ العالمُ اليوم على رغَباتٍ سياسيَّة وقوميَّة، ودينيَّة واقتصاديَّة، ويعيشُ أزمَاتٍ حادَّةً نتيجة الأهواء الفردية والمطامِع الإقليمية، واستِبدادًا يستمِدُّ بقاءَه بالبطش والاعتِداء. أنتجَ ذلك البغيَ والظلمَ، واشتِعالَ الحُروب، وسقوطَ الضحايا وخرابَ الديار؛ مما يُهدِّدُ العالمَ كلَّه بالاضطرابِ وسُوء الحال.
وقد نالَ المُسلمين قِسطٌ وافِرٌ من هذا البلاء، وأصابَهم ضِعفُ ما أصابَ غيرَهم، وتكالَبَت عليهم الأُمم، فاحتُلَّت بعضُ أوطانِهم، واستُنزِفَت خيراتُهم، وسُرِقَت أقواتُهم، وضاعَ صوتُهم.
فُرقةٌ وشتاتٌ، وتنازُعٌ واختلافٌ، وفي الوقت نفسِه تنتظِمُ كثيرٌ من الدُّول في تكتُّلاتٍ عالميَّة، ضيَّقَت هُوَّة الخلافات بينها، وتقارَبَ بعضُها مع بعضٍ من أجل مصالِحِها، مع أن ما بيننا من عُرَى الوحدة وأسباب التضامُن والتكافُل والتعاوُن والترابُط أكثر مما بين أُمم الأرض جميعًا.
إن واقعَ المُسلمين اليوم لَيُشبِهُ واقِعَهم يوم الأحزاب، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب: 10].
المسجد الأقصَى.. الأرضُ المُبارَكة وما حولَها.. شامُ العِزِّ وأهلُها.. بُورما وأفريقيا الوُسطَى.. فضلًا عن اضطِرابِ كثيرٍ من بلاد المُسلمين، واحتِرابِ بعضِهم مع بعضٍ، وتمالُؤِ الأعداء عليهم من الشرق والغربِ.
ولم يزَل جُرحُ فلسطين كُلَّما شُغِل المُسلِمون عنه بقضايا حادِثة كلَّما حرَّك المُحتلُّ ما يُهيِّجُه ويُدمِيه، مُستفِزِّين بذلك شُعورَ مئاتِ الملايين من المُسلمين، مُستعجِلين به ثوراتٍ وصِداماتٍ سُرعان ما تشتعِل، وما أبطأَ ما تنطَفِئُ.
والشعوبُ المُسلمة اليوم تغلِي غلَيَان المِرجَل، وقد أدركَ الأعداءُ ذلك، فانطلَقُوا جميعًا للوقوف أمام أمانِيها، وأجهَضُوا أحلامَها، مُستعِينين بالنفوس المريضة، والذين يُريدون جرَّ شُعوبِهم إلى هاوِيةِ التردِّي والذُّلِّ والشَّتَات.
إن المِليارَ مُسلم يتعرَّضون اليوم لامتِحاناتٍ عالميَّةٍ قاسِيةٍ، تقتَضِيها سُنَّةُ الابتلاء؛ ليقضِيَ الله أمرًا كان مفعولًا.
أيها المسلمون، أمَّتُنا المسلمة العظيمة المُمتدَّةُ في التاريخ عُمقًا، وفي الرِّيادة عُلُوًّا، والمُتسيِّدة على الدُّنيا حِينًا من الدَّهر، قدْرُها وقدَرُها أن تبقَى في الصَّدارة دومًا؛ إذ هي خاتمةُ الأُمم، وتمام الشرائع، والشاهِدةُ على الناس كافَّة، ووارِثةُ الشرائع السماوية والدين الحقِّ.
استقرَّت الدنيا حين سادَت، ونعِمَ الناس بالعدل حين حكَمَت، وهُدِيَ الناس لخالِقِهم حين دَعَت وأرشَدَت، واتَّصَلَت الأرضُ بأسباب السعادةِ إلى السماء، وكان المُسلِمون حينَها برِيَادة أُمرائِهم وعُلمائِهم وذوِي الرأيِ فيهم على وعيٍ بحقيقةِ أمَّتِهم وقدرِها، فضحَّوا وصبَروا وصابَروا، فنَعِموا ونعِمَت أمَّتُهم والناسُ كافَّةً بثمرة هيمَنَة الدين الخاتم حتى وصلَ الأثرُ للبهائِم والطير والنباتِ.
واليوم وقد اختلَفَت الموازِينُ، وطغَت حضارةُ الآلةُ على حضارة الإنسان، وتسيَّدَت المصالِحُ وتَوارَت الأخلاق، ووهَنَ كثيرٌ من حمَلَة هذا الدين، وأدرَكهم داءُ الأُمم قبلَهم، وقصَّر كثيرٌ من حُكَّام المُسلمين؛ أصبَحَت هذه الأمةُ مِزَعًا، وأمرُهم فُرُطًا، ذهبَت رِيحُهم، وخبَت نارُهم، وتضعضَعَت بين الأُمم كلمتُهم.
فأصبحَ الناسُ ينشُدون الهُدى عند غيرِهم، ويبتَغون الرَّشاد عند سِواهم، وعوَّلُوا كثيرًا على ما أنتَجَته حضارةُ المادَّة وعُصارة الفِكر الحديث، فما زادَهم ذلك إلا تِيهًا فوق تِيه. والعزاءُ في ذلك العَثار هو أن الداء ليس في الدين نفسِه، وإنما في كثيرٍ من حمَلَته. فلم تنطَفِئ الشُّعلةُ وإنما كلَّ حامِلُها، ولم تغِب الشمسُ وإنما عمِيَ البصير؛ فهذا الدينُ عصِيٌّ على الفناء، لا يقبلُ الذَّوَبان وإن ذابَ بعضُ أتباعه. وإذا قصَّر في حقِّه جيلٌ أتى الله من بعدِهم بأجيال.
كلُّ هذا وغيرُه يقتَضِي منا وقفةَ تأمُّلٍ نتدبَّرُ فيها طريقَ الخلاص، وخُطَّةً مُثلَى للنهضَة بأمَّتنا، وتجنِيبِها الفتن والحروب، والفقر والحاجَة، والمرض والجهل.
إن الصراعَ بين الأُمم اليوم ليس صِراع مُغالبَةٍ فحسب؛ بل هو صراعُ بقاءٍ أو فناءٍ، أن تكون أو لا تكون، في زمن عولَمة الفِكر والثقافة قبل عولَمة الاقتصاد والسياسة، في زمن هيمَنة القُوى وفرض الرأي بالقوة. فالتضامُن بين المُسلمين في هذا العصر ضرورةٌ للبقاء، والعالَمُ حولنا يتكتَّلُ، ولا يحترِمُ إلا الأقوياءَ المُتَّحِدين.
إن الشعوبَ الإسلامية لا تُريد غيرَ الإسلام عقيدةً تُؤمنُ بها، ونظامًا يحكمُها، ودينًا يجمع شتاتَها، وأُخُوَّةً تُوحِّدُ صفوفَها، وعملًا صادِقًا يُحقِّقُ أهدافَها، وعدالةً تسودُ مُجتمعاتها، ومُساواةً تنتظِمُ طبقاتها؛ لتعيشَ في سلام، وتعبُد الله في أمان.
أيها المسلمون، التكاتُف والتعاوُن فِطرةٌ في الخلق، ومبدأٌ إسلاميٌّ أصيل، وأمرٌ إلهيٌّ جليل، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2]، وقال عزَّ من قائلٍ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103]، وقال رسولُ الله : «مثَلُ المُؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفِهم مثَلُ الجسَد الواحِد؛ إذا اشتَكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَد بالسَّهَر والحُمَّى» أخرجه الشيخان، وقال رسولُ الله : «المُؤمنُ للمُؤمن كالبُنيان يشُدُّ بعضُه بعضًا» متفق عليه، وفي "مسند الإمام أحمد" بإسنادٍ حسنٍ: قال : «الجماعةُ رحمةٌ، والفُرقةُ عذابٌ».
وأولُ شيءٍ فعلَه رسولُ الله بعد مُهاجَره إلى المدينة أن آخَى بين المُهاجِرين والأنصار، وتكرَّرَت الآيات والأحاديث في الحثِّ على الاجتماع ونبذ التفرُّق، ومع أنه مأمورٌ شرعًا إلا أنه مُتحتِّمٌ عقلًا؛ فالاختلافُ من عدم العقل، قال الله عز وجل: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [الحشر: 14]. وقد عذَّب الله قومًا بالتِّيه والشَّتَات، أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة: 26].
عباد الله، إن هذه الأمة المسلمة تملِك إرثًا تاريخيًّا وحضاريًّا في الاتِّحاد والاجتِماع، وتملِك من مُقوِّمات الوحدة أكثر من غيرِها، ولقد جرَّبَت طُرقًا تائِهة، وأنفاقًا مسدودة، وسُبُلًا مُظلِمة، فلم تنجَح في ذهابِها، ولم ترشُد في إيابِها.
إن على الأمَّةِ الإسلاميَّةِ أن تسعَى بكل صِدقٍ وإخلاصٍ إلى التمسُّكِ بأسبابِ بقائِها كأمَّةٍ، وأن تعودَ إلى سبب رِيادَتها وإلى ذاتِ رِسالتِها.
إننا نطمَحُ إلى أن يُبادِرَ المعنِيُّون من رجالِ الحُكم والدعوة والسياسَة والاقتِصاد والتربية والاجتماع في عالمنا الإسلاميِّ إلى تبنِّي ذلك، والدعوة إليه بصِدقٍ وإخلاصٍ، وعزيمةٍ وإرادةٍ، حتى تقتَعِدَ أمَّتُنا مكانَها اللائِقَ بين الأُمم، وتُحقِّق إخبارَ الله عز وجل في كتابه الكريم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110].
والعالَمُ يشهَدُ إفلاسَ القِيَم الغربية، وتهاوِي الأنظِمة الوضعيَّة، وكثرة المآسِي الإنسانيَّة، وإهدار الكرامَة الآدميَّة، إضافةً إلى دعمٍ لدعواتٍ عُنصريَّة ومواقِف طائفيَّة، تسفِكُ دماءَ المُسلمين، وتشُقُّ صفوفَهم، وتُبدِّلُ دينَهم، وتجتَرُّ عداواتِ الماضِي وأحزان السالِفِين، وتُجذِّرُ للعداوات والانتِقام.
ويزيدُ شَتاتَ المُسلمين ثوَرَان حُمَّى التصنيف وكثرة الانتِسابات، حتى كادَ الاسمُ الشريفُ لأفراد الأمة والذي هو "المسلمون" يذوبُ في بحر الانتِسابِ للطوائِف والأحزاب والجماعات، ما بين مُنتسِبٍ بإرادتِه، أو منسوبٍ رغمًا عنه، في تفتيتٍ للمُفتَّت وتفريقٍ للمُفرَّق، حتى صارَ المُنشغِلون بتصنيف المُسلمين يُصنِّفُونَهم على كلمةٍ مُحتملَة، أو خطأٍ في فهم المُصنِّف نفسِه، مُضيفين طعَنَاتٍ للجسَد الجريح.
إن هذا يتطلَّبُ من المُسلمين جميعًا أن يُدرِكُوا عِظَم المسؤوليَّة، وأن يُحافِظُوا على ما بقِيَ لهم من أوطانِهم واجتماعِهم، وأن يشرَعوا في التضامُن فيما بينهم، وتقريب شُقَّة الخلاف، والعمل الجادِّ الدَّؤُوب للسَّير في طريق الوحدة على هديٍ من الكتابِ والسنَّة، مع فهمٍ لمُجرَيَات العصر، وتقدير ظُروفِه، والتحرُّك بخُطًى ثابتةٍ بعيدةٍ عن الارتِجال ورُدودِ الأفعال، والتعامُل مع الأحداث والوقائِع بأسلوبِ العصر ومنهَج الشرعِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال: 1].
ولقد قامَت مُحاولاتٌ للوحدة على غير أساس الإسلام؛ بل على أُسسٍ قوميَّة وعُنصريَّة، تُبعِدُ الإسلام وتُهمِلُ شرائِعَه، فما جنَت إلا الخسارَ والشَّتَات، ولم تترُك إلا الجروح الدامِيَة، والآثار المُدمِّرة التي لا زالَت الأمةُ تُعانِي من وَيْلاتها.
أيها المسلمون، إن تباشِير الخير تلُوحُ بوادِرُها، رغم الخُطوب المُدلهِمَّة والأخطار الجَسِيمة التي تُحيطُ بالمُسلمين، ورغم ضَراوة الهَجمَة عليهم، وفي الأمة خيرٌ كثيرٌ، وهي الشهيدةُ على الناس، القائمةُ بالحقِّ والعدلِ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140].
ولو صدقَت النيَّات لاستطاعَ المُسلِمون بوحدتهم أن يُقدِّمُوا النموذجَ الصادِقَ والمثلَ الحيَّ للإسلام الحقِّ الذي تتطلَّع الإنسانيَّةُ كلُّها إليه، لانتِشالِها من عثَارِها، وإنقاذِها من تخبُّطها وإفلاسِها في عالَم القِيَم والأخلاق، وسيطَرة الأنانيَّة والماديَّة، والشهوات بأنواعها على الأهواء، وغلبَتها على أخلاقِ الشُّعوب وقرارات السَّاسَة، وعجز حضارة المادَّة عن إسعاد البشر ووقف الحروب والصِّراعات.
إن التمزُّق الحالِيَّ للمسلمين هو محنةٌ عارِضةٌ، سبقَ أن تعرَّض الكِيانُ الإسلاميُّ لها، ثم تغلَّبَ عليها ونجا منها، وإن الاستِسلام للهَزيمة خطأٌ، وفُقدانَ الثقة في المُستقبل إثمٌ. وإن الهزيمةَ تجِيءُ من داخلِ النفس قبل أن تجِيءَ من ضغوط الأعداء، ولسنا أولَ أمَّةٍ ابتُلِيَت وفُرِضَ عليها أن تكافحَ لتحيا كما تُريد.
إن حَتميَّة التضامُن أمرٌ يفرِضُه الواقِع، وتنصَحُ به التجربة، وتدعُو إليه المرحلةُ الحرِجةُ التي تمرُّ بها الأمةُ، في عالَمٍ يتضامنُ المُتفرِّقون فيه والمُتبايِنون ثقافةً ودِينًا وعِرقًا من أجل المصالِح المُشترَكة، ونحن أولَى بذلك التضامُن، كما قال ربُّنا عز وجل: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92]، وقال سبحانه: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون: 52].
اللهم بارِك لنا في القرآن والسُّنَّة، وانفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمةِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.
|