.

اليوم م الموافق ‏28/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

سهر الليل (1)

6822

الأسرة والمجتمع

قضايا المجتمع

إبراهيم بن محمد الحقيل

الرياض

21/7/1434

جامع المقيل

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- هداية الله تعالى الإنسان إلى منافعه. 2- نعمة النوم. 3- سنة الله تعالى في تقسيم النوم واليقظة. 4- آية الليل. 5- قلب الناس لهذه السنة. 6- آفة السهر. 7- هديه في النوم. 8- ذم السهر من غير حاجة. 9- أضرار السهر.

الخطبة الأولى

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِ وَالْزَمُوهُ، وَوَقِّرُوا نَبِيَّهُ وَانْصُرُوهُ، وَاقْرَؤُوا كِتَابَهُ وَتَدَبَّرُوهُ، فَتَعَلَّمُوا عُلُومَهُ، وَقِفُوا عِنْدَ حُدُودِهِ، وَتَأَدَّبُوا بِآدَابِهِ، وَافْعَلُوا أَوَامِرَهُ، وَحَاذِرُوا نَوَاهِيَهُ؛ فَإِنَّهُ هِدَايَةُ اللهِ تَعَالَى إِلَيْكُمْ، وَهُوَ طَرِيقُ نَجَاتِكُمْ؛ إِنَّ هَذَا القُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء: 9، 10].

أَيُّهَا النَّاسُ، حِينَ خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الخَلْقَ وَأَسْكَنَهُمُ الأَرْضَ؛ هَدَاهُمْ لِمَا يَنْفَعُهُمْ، وَصَرَفَهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ، وَجَعَلَ مِنْ فِطْرَتِهِمْ سَعْيُهُمْ فِي مَنَافِعِهِمْ، وَفرَارُهُمْ مِمَّا يُهْلِكُهُمْ، فَلاَ يَحْتَاجُونَ فِيهَا إِلَى دِرَاسَةٍ وَتَعَلُّمٍ وَتَفْكِيرٍ، وَلاَ إِلَى مَهَارَةٍ وَذَكَاءٍ وَتَدْبِيرٍ؛ فَالطِّفْلُ يَرْضَعُ وَيَأْكُلُ لِيَبْقَى، وَيَفِرُّ مِنْ مَوَاطِنِ الخَطَرِ خَوْفًا مِنَ المَوْتِ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ المَوْتَ، وَلَكِنَّهَا فِطْرَةُ اللهِ تَعَالَى فِيهِ، وَهَكَذَا المَجْنُونُ وَالحَيَوَانُ، وَهُمَا بِلاَ عَقْلٍ، يَفِرَّانِ مِنَ المَخَاطِرِ، وَيَسْعَيَانِ فِيمَا يُبْقِي حَيَاتَهُمَا؛ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 49، 50].

وَمِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ تَعَالَى البَشَرَ، وَجَعَلَهُ قَانُونًا فِي الأَحْيَاءِ: آيَةُ النَّوْمِ، وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [الرُّوم: 23]، وَلاَ يُغَالِبُ أَحَدٌ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ إِلاَّ هَلَكَ؛ وَلِذَا كَانَ النَّوْمُ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي يَفْرَحُ بِهَا الإِنْسَانُ، وَالأَرَقُ مِنَ النِّقَمِ الَّتِي يُبْتَلَى بِهَا، وَمَنْ لَا يَنَامُ أَبَدًا لَا يَلْبَثُ أَنْ يَمُوتَ!

وَالأَصْلُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ اللَّيْلَ لِلنَّوْمِ وَالهُدُوءِ وَالسُّكُونِ، وَجَعَلَ النَّهَارَ لِلسَّعْيِ وَالحَرَكَةِ وَالكَسْبِ، فَسُكُونُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ يَدْعُوَانِ لِلْهُدُوءِ وَالنَّوْمِ، وَنُورُ النَّهَارِ وَصَخَبُهُ يَدْعُوَانِ لِلنَّشَاطِ وَالاسْتِيقَاظِ، وَهَذِهِ السُّنَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ سُبْحَانَهُ فِي الأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا مِنْ أَحْيَاءٍ، حَتَّى كَانَتْ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ؛ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْل سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ [الأنعام: 96]، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْل لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [يونس: 67]، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْل لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان: 47].

فَاللَّيْلُ يَسْتُرُ الأَشْيَاءَ، وَيَنْشُرُ سِتْرَهُ عَلَى الأَحْيَاءِ، فَتَبْدُو الدُّنْيَا وَكَأَنَّهَا تَلْبَسُ اللَّيْلَ وَتَتَّشِحُ بِظَلاَمِهِ فَهُوَ لِبَاسٌ، وَفِي اللَّيْلِ تَنْقَطِعُ الحَرَكَةُ وَيَسْكُنُ الدَّبِيبُ وَيَنَامُ النَّاسُ وَكَثِيرٌ مِنَ الحَيَوَانِ وَالطُّيُورِ وَالهَوَامِّ. وَالنَّوْمُ انْقِطَاعٌ عَنِ الحِسِّ وَالوَعْيِ وَالشُّعُورِ، فَهُوَ سُبَاتٌ، ثُمَّ يَتَنَفَّسُ الصُّبْحُ وَتَنْبَعِثُ الحَرَكَةُ، وَتَدُبُّ الحَيَاةُ فِي النَّهَارِ، فَهُوَ نُشُورٌ مِنْ ذَلِكَ المَوْتِ الصَّغِيرِ.

هَذِهِ الآيَةُ العَظِيمَةُ المُوَائِمَةُ لِلْفِطْرَةِ البَشَرِيَّةِ بَقِيَتْ فِي النَّاسِ مُنْذُ عَهْدِهِمُ الأَوَّلِ فِي الأَرْضِ، إِلَى أَنِ اكْتُشِفَتِ الطَّاقَةُ الكَهْرُبَائِيَّةُ، فَأَضَاءَتْ لَيْلَ النَّاسِ، وَحَوَّلَتْ هُدُوءَهُمْ إِلَى صَخَبٍ، فَقَلَبُوا سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ.

لَقَدْ كَانَ النَّاسُ قَدِيمًا يَنَامُونَ فِي أَسْطُحِ المَنَازِلِ وَأَفْنِيَةِ الدُّورِ، وَيُبَرِّدُونَ حَرَّهَا بِالماءِ يَرُشُّونَهُ فِيهَا قُبَيْلَ اللَّيْلِ، فَمَا يُصَلُّونَ العِشَاءَ الآخِرَةَ إِلاَّ وَرُؤُوسَهُمْ تَخْفُقُ مِنْ شِدَّةِ التَّعَبِ وَالنُّعَاسِ، فَيُصَلُّونَ وَيَنَامُونَ، وَيَقُومُ أَهْلُ اللَّيْلِ فِي ثُلُثِهِ الآخِرِ يَتَهَجَّدُونَ، فَيُصَلِّي النَّاسُ الفَجْرَ فِي المَسَاجِدِ صِغَارًا وَكِبَارًا، فَمَنْ نَامَ بَعْدَ الفَجْرِ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يَسْتَيْقِظْ لِلصَّلاَةِ أَيْقَظَهُ حَرُّ الشَّمْسِ، فَلاَ يَأْتِي الضُّحَى إِلاَّ وَالأَرْضُ تَدُبُّ بِالنَّاسِ، وَلاَ أَحَدَ مِنْهُمْ فِي فِرَاشِهِ؛ فَالرِّجَالُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَالنِّسَاءُ فِي المَنَازِلِ تُدَبِّرُهَا، وَالأَطْفَالُ مَعَ أَقْرَانِهِمْ، وَالبُيُوتُ مُفْعَمَةٌ بِالحَيَوِيَّةِ وَالنَّشَاطِ.

أَمَّا الْيَوْمَ فَأَضْحَتِ البُيُوتُ فِي الضُّحَى كَأَنَّهَا المَقَابِرُ فِي وَحْشَتِهَا وَسُكُونِهَا، إِنَّهَا الجِدَةُ وَالفَرَاغُ، قَلَبَا سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي البَشَرِ، وَلَيْسَ هَذَا الانْتِكَاسُ فِي كُلِّ الأَرْضِ، بَلْ فِي أَجْزَاءٍ مِنْهَا، فِي دُوَلٍ شَدِيدَةِ الحَرَارَةِ فِي الصَّيْفِ، يَجِدُ أَفْرَادُهَا وَسَائِلَ التَّبْرِيدِ، مَعَ ضَعْفٍ فِي العَمَلِ، وَسَعَةٍ فِي الرِّزْقِ، فَهَرَبَ بِهِمْ حَرُّ الشَّمْسِ إِلَى النَّوْمِ فِي الغُرَفِ المُظْلِمَةِ المُبَرَّدَةِ فِي النَّهَارِ، وَخَرَجَ بِهِمْ فَرَاغُ النَّهَارِ إِلَى سَهَرِ اللَّيْلِ لِلاسْتِجْمَامِ فِي الاسْتِرَاحَاتِ، أَوِ افْتِرَاشِ الأَرْصِفَةِ وَالخَلَوَاتِ، أَوِ التَّسَكُّعِ فِي الأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ، حَتَّى إِذَا بَهَرَهُمْ شُعَاعُ الشَّمْسِ مُصْبِحِيِنَ عَادُوا إِلَى أَكِّنَّتِهِمْ وَغُرَفِهِمْ فَسَقَطُوا فِيهَا هَامِدِينَ، هَذَا دَأْبُهُمْ فِي كُلِّ صَيْفٍ، وَالإِجَازَةُ فِيهِ تُعِينُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى انْقَسَمَتْ بَعْضُ البُيُوتِ إِلَى قِسْمَيْنِ لَا يَكَادُ يَرَى كُلُّ قِسْمٍ مِنْهُمُ القِسْمَ الآخَرَ وَإِنْ أَظَلَّهُمْ سَقْفٌ وَاحِدٌ؛ فَالمُوَظَّفُونَ الجَادُّونَ مِنْهُمْ يَنَامُونَ بِاللَّيْلِ وَيَعْمَلُونَ بِالنَّهَارِ، وَالمُعَطَّلُونَ مِنْهُمْ يَسْهَرُونَ اللَّيْلَ وَيَنَامُونَ بِالنَّهَارِ.

إِنَّ آفَةَ السَّهَرِ هَذِهِ قَدِ انْتَشَرَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ بُلْدَانِ المُسْلِمِينَ، وَسَلِمَ مِنْهَا الغَرْبِيُّونَ مَعَ أَنَّهُمْ أَسْبَقُ إِلَى التَّمَتُّعِ بِالطَّاقَةِ وَمُنْتَجَاتِ الحَضَارَةِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ جِدُّهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَشِدَّةُ مُحَاسَبَتِهِمْ عَلَى الإِخْلاَلِ بِهَا، وَجِدُّهُمْ فِي مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى صِحَّةِ أَبْدَانِهِمْ؛ ذَلِكَ أَنَّ لِقَلْبِ الفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ آثَارًا مَأْسَاوِيَّةً.

إِنَّ الأَصْلَ فِي السَّهَرِ أَنَّهُ مَذْمُومٌ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ، وَبِشَرْطِ أَلاَّ يُخِلَّ بِشَعَيرَةٍ وَاجِبَةٍ؛ لِأَنَّ عُمُومَاتِ القُرْآنِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ اللَّيْلَ لِلسَّكَنِ وَالنَّوْمِ، وَجَعَلَ النَّهَارَ لِلْحَرَكَةِ وَالانْتِشَارِ، ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ تُعَزِّزُ هَذِهِ الآيَةَ الرَّبَّانِيَّةَ فِي البَشَرِ لِتَجْعَلَهَا وَفْقَ الفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ؛ فعَنْ أَبِي بَرْزَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَكْرَهُ النَّوْم قَبْلَ العِشَاءِ وَالحَدِيثَ بَعْدَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا نَامَ رَسُولُ اللهِ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَلَا سَمِرَ بَعْدَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ. فَهَذَا هَديُهُ الدَّائِمِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، وَمَا نُقِل مِنْ سَهَرِهِ وَحَدِيثِهِ بَعْدَ العِشَاءِ فَهُوَ عَارِضٌ لِحَاجَةٍ دَعَتْ لِذَلِكَ.

وَلِذَا كَانَ يَذُمُّ السَّهَرَ وَيَعِيبُهُ؛ كَمَا رَوَى أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ يَجْدِبُ لَنَا السَّمَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ، أي: يَعِيبُهُ وَيَذُمُّهُ. وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي السَّهَرِ إِلاَّ لِمَنْ لَهُ حَاجَةٌ تَدْعُو لِلسَّهَرِ كَمَنْ يُصَلِّي أَوَّلَ اللَّيْلِ يَخْشَى أَلَّا يَقُومَ آخِرَهُ فَيُقَدِّمُ الوِتْرَ، أَوْ مَنْ كَانَ مُسَافِرًا؛ لِأَنَّ المَسِيرَ فِي اللَّيْلِ أَبْرَدُ وَأَهْوَنُ، وَفيِه تُطْوَى الأَرْضُ، وَيَقِلُّ العَطَشُ، أَوْ لِحَدِيثٍ يُذَكِّرُ بِالآخِرَةِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ غَيْرَ مَرَّةٍ، أَوْ لِعَمَلٍ لَا بُدَّ مِنْهُ كَحِرَاسَةٍ أَوْ نَحْوِهَا مِنْ مَصَالِحِ المُسْلِمِينَ، أَوْ لِعَمَلٍ لَا يُمْكِنُ إِنْجَازُهُ إِلاَّ فِي اللَّيْلِ، أَوْ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ، أَوْ لِتَفَقُّدِ أَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ مِنَ الإِمَامِ أَوْ نُوَّابِهِ، أَوْ لِحِفْظِ الأَمْنِ وَالأَعْرَاضِ مِنْ أَهْلِ الحِسْبَةِ وَالشُّرَطِ وَنَحْوِهِمْ.

وَأَمَّا السَّهَرُ لِلْحَدِيثِ فِي الدُّنْيَا، وَمُؤَانَسَةِ الأَصْحَابِ، وَالاسْتِجْمَامِ فِي الاسْتِرَاحَاتِ وَنَحْوِهَا، وَاتِّخَاذِ ذَلِكَ عَادَةً دَائِمَةً لَا تَنْقَطِعُ فَهُوَ إِلَى الكَرَاهَةِ أَقْرَبُ مِنْهُ لِلْإِبَاحَةِ، فَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مُنْكَرٌ -وَأَغْلَبُهُ كَذَلِكَ- كَالاجْتِمَاعِ عَلَى المَعَازِفِ وَمَا تَبُثُّهُ الفَضَائِيَّاتِ مِنْ سُوءِ المَشَاهِدِ، أَوْ عَلَى الغِيبَةِ وَالقِيلَ وَالقَالِ، فَهُوَ سَهَرٌ مُحَرَّمٌ وَاجْتِمَاعٌ عَلَى مُحَرَّمٍ، وَيَعْظُمُ خَطَرُهُ وَتَشْتَدُّ حُرْمَتُهُ إِنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ تَضْيِيعُ الصَّلَوَاتِ المَفْرُوضَةِ؛ فَقَوْمٌ يَسْهَرُونَ اللَّيْلَ حَتَّى إِذَا مَا بَقِيَ عَلَى الفَجْرِ إِلاَّ سَاعَةٌ أَوْ بَعْضُهَا نَامُوا إِلَى مَوْعِدِ الوَظِيفَةِ، وَقَوْمٌ يُوَاصِلُونَ سَهَرَهُمْ إِلَى نَحرِ الضُّحَى ثُمَّ يَنَامُونَ إِلَى المَسَاءِ، فَيُضَيِّعُونَ صَلاتَيِ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، وَكُلُّ أُولَئِكَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ بِتَضْيِيعِهِمْ فَرَائِضَ اللهِ تَعَالَى، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ.

وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((لَا سَمَرَ بَعْدَ الصَّلَاةِ -يَعْنِي: الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ- إِلَّا لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ: مُصَلٍّ، أَوْ مُسَافِرٍ))، وَقَدْ أَخَذَ بِهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ، فَكَرِهَ السَّمَرَ فِي حَدِيثِ الدُّنْيَا، وَرَخَّصَ فِيهِ لِلْمُسَافِرِ.

اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَارْزُقْنَا العَمَلَ بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَاكْتُبْنَا فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ.

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْل لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَار مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النمل: 86].

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ..

 

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاحْمَدُوهُ عَلَى مَا هَدَاكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى مَا أَعْطَاكُمْ؛ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْل وَالنَّهَار لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 73].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ، النَّهْيُ عَنْ سَهَرِ اللَّيْلِ كُلِّهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِذَلِكَ، وَاتِّخَاذه عَادَةً إِنَّمَا كَانَ لِمُخَالَفَتِهِ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ؛ وَلِمَا يُخلِّفُهُ مِنْ أَضْرَارٍ عَلَى الإِنْسَانِ؛ فَإِنَّ نَوْمَ أَوَّلِ اللَّيْلِ لَا يَعْدِلُهُ نَوْمُ آخِرِ اللَّيْلِ، وَنَوْمَ آخِرِ اللَّيْلِ لَا يَعْدِلُهُ نَوْمُ النَّهَارِ كُلِّهِ، وَقَلِيلُ نَوْمِ اللَّيْلِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ نَوْمِ النَّهَارِ لِجِسْمِ الإِنْسَانِ وَعَقْلِهِ وَذَاكِرَتِهِ، وِلِأَهْلِ الطِّبِّ أَبْحَاثٌ وَدِرَاسَاتٌ وَمَقَالاَتٌ فِي أَضْرَارِ السَّهَرِ، وَاتِّخَاذِهِ عَادَةً، وَمَا تَرَكَهُ الغَرْبِيُّونَ إِلاَّ لِعَظِيمِ ضَرَرِهِ، وَهُمْ أَهْلُ المُحَافَظَةِ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا، وَمِنْ أَسْبَابِ الأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ وَالانْتِحَارِ فِي بَعْضِ الدُّوَلِ الإِسْكَنْدَنَافِيَّةِ أَنَّ النَّهَارَ فِي الصَّيفِ يَطُولُ إِلَى ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ سَاعَةً، وَلَيْلَهُمْ سَاعَةٌ أَوْ سَاعَتَانِ، وَلاَ ظَلاَمَ فِيهِ، وَإِنَّمَا شَبِيهُ وَقْتِ المَغْرِبِ!

وَالنَّبِيُّ قَدْ زَجَرَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ كُلَّهُ فِي صَلاَةٍ وَعِبَادَةٍ، وَقَالَ: «لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ... فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَضَافَ أَبُو الدَّرْدَاءِ سَلْمَانَ الفَارِسِيَّ: فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْل قَالَ سَلْمَانُ: قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ : «صَدَقَ سَلْمَانُ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ. فَإِذَا نَهَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَنْ إِحْيَاءِ اللَّيْلِ كُلِّهِ بِالصَّلاَةِ مُحَافَظَةً عَلَى الجَسَدِ مِنَ التَّلَفِ وَالضَّعْفِ، وَهِيَ عِبَادَةٌ مِنْ أَجَلِّ العِبَادَاتِ؛ فَلَأَنْ يُنْهَى عَنْ سَهَرٍ لَا طَائِلَ مِنْهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى.

إِنَّ الإِجَازَةَ عَلَى الأَبْوَابِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُحَوِّلُونَ لَيْلَهُمْ إِلَى نَهَارٍ، وَنَهَارَهُمْ إِلَى لَيْلٍ، فَتَضِيعُ لَيَالٍ وَأَيَّامٌ كَثِيرَةٌ فِي غَيْرِ مَا يُفِيدُ لَا فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ، بَلْ يَحْمِلُ أَصْحَابُ هَذَا السَّهَرِ المَذْمُومِ أَوْزَارًا كَثِيرَةً بِمُحَرَّمَاتٍ يَرْتَكِبُونَهَا، وَفَرَائِضَ يُضَيِّعُونَهَا.

وَمِنَ الخُسْرَانِ الكَبِيرِ أَنْ يَسْرِيَ هَذَا البَلاَءُ الفَاتِكُ إِلَى بَعْضِ كِبَارِ السِّنِّ مِنَ المُتَقَاعِدِينَ، فَيَكِلُونَ شُؤُونَ بُيُوتِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ لِلْخَدَمِ وَالسَّائِقِينَ، وَيَسْهَرُونَ كُلَّ لَيْلَةٍ عَلَى لَهْوٍ مُبَاحٍ أَوْ مُحَرَّمٍ فِي اسْتِرَاحَاتٍ يَتَّخِذُونَهَا لَهُمْ طُوَالَ العَامِ، وَمَا ثَمَّ بَعْدَ الخَمْسِينَ وَالسِّتِّينَ إِلاَّ الاسْتِعْدَادُ لِلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَعِمَارَةُ الوَقْتِ بِطَاعَتِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيِّ : «أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً»، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ اعْتِذَارٌ كَانَ يَقُولَ: لَوْ مُدَّ لِي فِي الْأَجَلِ لَفَعَلْتُ مَا أُمِرْتُ بِهِ... وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الطَّاعَةِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهَا بِالْعُمُرِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ حِينَئِذٍ إِلَّا الِاسْتِغْفَارُ وَالطَّاعَةُ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْآخِرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ [الحجر: 99].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً