.

اليوم م الموافق ‏18/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

6662

سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد

الصحابة, تراجم

خالد بن سليم الشراري

القريات

15/7/1432

جامع الشيخ محمد العثيمين

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- فضل قراءة سير الصالحين. 2- صفات عبد الله بن مسعود. 3- إسلام ابن مسعود. 4- قرب ابن مسعود من النبي . 5- من فضائل ابن مسعود. 6- وفاته رضي الله عنه.

الخطبة الأولى

عباد الله، إن النفوس لتكلُّ عن العمل، وتفترُ عن الطاعة، كما تكلُّ الأبدانُ وتفترُ، وإن ممّا يبعثُ نشاطَها ويزيدُ قوتَها ويقوي يقينَها قراءةُ سِيَرِ الصالحين ومعرفةُ أحوالِهم؛ ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: "لسيرُ الصالحين أحبُّ إلينا من كثيرٍ من الفقه".

كرر علي حديثَهم يا حادي     فحديثُهُم يجلو الفؤادَ الصادي

عباد الله، حديثنا في هذه الخُطْبة عن سيرة علمٍ من أعلام الأمة، وحبرٍ من أحبارها، بحرٌ في العلم، وجبلٌ في الإيمان، شهد له بذلك محمدٌ بنُ عبد الله ، كما شهد له أصحابُهُ رضي الله عنهم، فيا لها من شهادة! ويا لهم من شهداء!

حديثنا في هذه الخُطْبة عن فقيه الأمة، عن الصحابي الجليل عبدِ الله بنِ مسعود الهُذَليّ ، كناه النبيُّ بأبي عبد الرحمن قبل أن يولد له، ومات أبوه في الجاهلية، وأما أمه فكانت تكنى بأمِّ عبد، وقد أسلمت رضي الله عنها، وصحبتِ النبيَّ ، ولذلك كان يُنسبُ إليها أحيانًا فيقال: ابنُ أمِّ عبد.

كان ابن مسعود رجلاً نحيفًا، قصيرًا، شديدَ الأدمة، وكان لا يغيّرُ شيبه، قال الذهبي: "كان ابنَ مسعود معدودًا في أذكياء العلماء".

يحدثنا ابنُ مسعود عن لقاءٍ حَصَلَ له قبل أن يسلمَ مع النبي وأبي بكرٍ ، فيقول: جاءني رسولُ الله وأبو بكرٍ وقد فرا من المشركين، وأنا أرعى غنمًا لعُقْبَةَ بنِ أبي مُعَيْطٍ بجياد، فقال : ((يا غلامُ، عندك لبنٌ تُسقينا؟)) فقلتُ: إني مؤتمنٌ، ولستُ بساقيكم، فقال : ((عندك شاةٌ لما يَنْزُ عليها الفحلُ؟)) فقلت: نعم، فأتيته بها، فاعتقلها النبي ، ومسح الضَّرْعَ، ودعا، فحَفَلَ الضَّرْعُ -أي: امتلأَ لبنًا من شاةٍ لم يقرعها فحلٌ، يا لها من معجزة!- فأتاه أبو بكرٍ بصخرةٍ مُقَعَّرَةٍ كالإناء، فحلبها بتلك الصخرة، فشرب ، وسقى أبا بكرٍ ، وسقاني، وقال للضَّرْعِ: ((اقْلِصْ))، فقَلَصَ. ثم أتيته بعد ذلك فقلت: يا رسول الله، علمني من هذا القول، أو: من هذا القرآن، فقال : ((إنك غلامٌ مُعَلَّمٌ))، فأخذت من في رسول الله سبعين سورة، لا ينازعني فيها أحدٌ.

لقد كان ابنُ مسعود من السابقين إلى الإسلام، فهو سادسُ ستةٍ دخلوا في الإسلام، فعاصر الدعوة الإسلامية منذ بزوغ فجرها، وعايش المصاعبَ التي مرت بها في أول طريقها، فجاهد وصابر ، وكان ممن هاجر هجرةَ الحبشةِ وهجرةَ المدينة، ولازم النبيَّ ، وشهد بدرًا والمشاهدَ مع الرسول .

قال أبو موسى الأشعري : قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا حينًا، وما نحسبُ ابنَ مسعودٍ وأمَّه إلا من أهلِ بيت النبي ؛ لكثرة دخولهم وخروجهم على النبي . متفق عليه.

لقد بلغ ابنُ مسعود من قربه للنبي أعظمَ من ذلك، فقد روى مسلمٌ عن ابن مسعود أنه قال: قال لي رسول الله : ((إذْنُكَ عليَّ أن يُرفعَ الحجاب، وأن تستمع سِوادي حتى أنهاك))، فقوله: ((إذنك عليَّ أن يُرفعَ الحجاب)) معناه: إذا رأيت الحجاب الذي على بابِ بيت مرفوعًا فادخل بدون استئذان، فإن رفعَهُ علامةٌ على إذني لك بالدخول، وهذا لا يجعله الرجل إلا لخواصه، وقوله: ((وأن تستمع سِوادي حتى أنهاك)) معناه: لك أن تستمع إلى حديثي الذي أُسِرُّ به غيري ما لم أنهك عن ذلك، وهذا أيضًا لا يكون إلا لخواص الرجل.

وكان ابنُ مسعود هو صاحبُ سِواد النبي -يعني: صاحبَ سره-، وكان وصاحبَ وِسادِه -يعني: صاحبَ فراشه-، وكان صاحبَ سواكه ونعليه وطهوره، وهذا يكون في السفر. فكان يُلبس الرسولَ نعليه، ثم يمشي أمامه بالعصا، حتى إذا أتى مجلسه نزع ابنُ مسعود نعليه، فأدخلهما في ذراعه -أي: في كمه، وقد كانت لهم أكمامٌ واسعةٌ يحفظون بها الأشياء-، ثم يعطيه العصا، وكان يدخل أمام النبي بالعصا.

وفي صحيح مسلم: لما نزلت لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال عبدُ الله بنُ مسعود : قال لي رسول الله : ((قيل لي: أنت منهم)).

تلك المكارمُ لا قِعبانَ من لبنٍ    شيبا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا

ومرّ النبي ذات ليلة وبجانبه أبو بكر ، وبجانبه الآخر عمر ، مرَّ على عبد الله بن مسعود وهو قائم يصلي، فافتتح ابنُ مسعودٍ سورةَ النساء يَسْجِلُهَا -أي: يقرؤها قراءةً مفصلةً متأنيةً- فقال : ((من أحب أن يقرأ القرآنَ غضًّا كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد))، ثم أخذ ابنُ مسعود يدعو، والرسول يقول: ((سل تعط))، ومما دعا به ابنُ مسعودٍ: (اللهم إني أسألك إيمانًا لا يرتدُّ، ونعيمًا لا ينفدُ، ومرافقةَ نبيك محمدٍ في أعلى جنان الخُلد)، قال عمر فلما أصبحت ذهبت إلى ابن مسعود أبشره بما قال الرسول ، فوجدت أبا بكرٍ خارجًا من عنده قد سبقني، فقلت لأبي بكر: إنك لسباقٌ بالخير. رواه أحمد وغيره بسند حسن.

قال ابن مسعود: قال لي الرسول : ((اقرأ عليَّ القرآن))، قلت: يا رسولَ الله، أقرأُ عليك وعليك أُنزل؟! قال: ((إني أشتهي أن أسمعه من غيري)). قال ابن مسعود: فقرأت عليه سورةَ النساء حتى بلغت: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا، فغمزني برجله، فإذا عيناه تذرفان. رواه مسلم.

قال علي : أمر النبي ابن مسعود فصعد شجرة يأتيه منها بشيء، فنظر الصحابة إلى ساق ابن مسعود فضحكوا من دقة ساقيه، فقال الرسول : ((ما تضحكون؟ لرِجلُ عبد الله أثقلُ في الميزان يوم القيامة من جبل أحد)).

هو الجدُّ حتى تفضلَ العينُ أختَها          وحتى يكونَ اليومُ لليومِ سيدًا

وكان عبد الله بن مسعود يقول: (والذي لا إله غيره، ما من كتابِ الله سورةٌ إلا أنا أعلمُ حيثُ نزلت، وما من آيةٍ إلا أنا أعلم فيما أُنزلت، ولو أعلمُ أحدًا هو أعلمُ بكتاب الله مني تبلغُهُ الإبل لركبت إليه) رواه مسلم. قال : ((اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. عن مسروق قال: ذكروا عبد الله بن مسعود عند عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: ذاك رجل لا أزال أُحبُهُ بعدما سمعت من رسول الله يقول: ((اقرؤوا القرآن من أربعة نفر: من عبد الله بن مسعود -فبدأ به-، ومن أبي بن كعب، ومن سالم مولى أبي حُذيفة، ومن معاذ بن جبل)).

قال عبد الله بن مسعود : (لقد قرأت على رسول الله سبعين سورة، ولقد علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله، ولست بخيرهم، ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني لرحلت إليه)، قال شقيق: فجلست في حِلَقٍ من أصحاب محمد ، فما سمعتُ أحدًا منهم يعيب عليه شيئًا مما قال، ولا يردُّ عليه.

وقد حمل العلماء قوله: (من أصحاب محمد ) أنه أردا أصحابه في العراق؛ لأن ابن مسعود قال ذلك في العراق؛ لأن في المدينة من أصحاب النبي من هم أعلم منه كعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعًا.

وقال أبو مسعود الأنصاري: ما أعلمُ رسولَ الله ترك بعده أعلمَ بما أَنزل اللهُ من عبدِ الله بن مسعود. رواه مسلم.

عن عبد الرحمن بن يزيد قال: سألنا حذيفةَ عن رجلٍ قريبِ السمتِ والهدي من النبيِّ حتى نأخذَ عنه، فقال: (ما أعرفُ أحدًا أقربَ سمتًا وهديًا ودلاًّ بالنبي من ابنِ أمِّ عبد، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن عبد الله بن مسعود من أقربهم عند الله وسيلة يوم القيامة) رواه أحمد والترمذي وأصله في البخاري. والمراد بقوله: (المحفوظون): الذين حفظهم الله من تحريفٍ في قول أو فعل.

رضي الله عن عبد الله بن مسعود، وجمعنا به مع نبيّنا محمد في الفردوس الأعلى.

أقول ما تسمعون...

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما أمر، والشكر له وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كره ذلك من أشرك به وكفر، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُهُ ورسوله سيد البشر، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم المحشر.

أما بعد: فلقد علم أصحاب محمد بعده منزلة عبد الله بن مسعود ، وحفظوا له قدره، وأنزلوه مكانه.

بعث عمر عمارًا أميرًا على الكوفة ومعه ابنُ مسعود معلمًا ووزيرًا، وكتب عمر إلى أهل الكوفة في ذلك وقال لهم: (إنني قد بعثت إليكم عمارًا أميرًا، وابنَ مسعودٍ معلمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب محمد ، من أهل بدر، فاسمعوا لهما واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بعد الله على نفسي) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

سأل رجل أبا موسى الأشعري عن امرأة تركت ابنتها وابنة ابنها وأختها، فقال: (للابنة النصف، وللأخت النصف، وائت ابن مسعود فإنه سيتابعني)، فأتوا ابن مسعود، فأخبروه بقول أبي موسى، فقال: (قد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين، لأقضين فيها بقضاء رسول الله ، للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، وما بقي فللأخت)، فأتوا أبا موسى فأخبروه، فقال: (لا تسألوني وهذا الحبر بين أظهركم) رواه البخاري والنسائي واللفظ له.

وعن علقمة قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب وهو بعرفة، فقال لعمر: جئت -يا أمير المؤمنين- من الكوفة، وتركت بها رجلاً يملي المصاحف عن ظهر قلب، أي: يقول للناس اكتبوا القرآن، فيملي من حفظه والناس يكتبون، كيف يفعل هذا؟ والصحابةُ -وفي مقدمتهم عمرُ- متشددون في حفظ القرآن، خشية أن يُزاد فيه أو يُنقص، حتى إنهم لما كتبوه في المصاحف لم يكتبوا معه النقط ولا الحركات، مبالغةً في تجريده عما سواه، لئلا يختلط فيه غيره، فكيف يملي هذا الرجل القرآن من حفظه، وهو ربما غلط فأدخل في القرآن ما ليس منه، أو أسقط شيئًا من القرآن، فلما قال الرجل: جئت -يا أمير المؤمنين- من الكوفة، وتركت بها رجلاً يملي المصاحف عن ظهر قلب، ففزع عمر وغضب، وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شُعبتي الرحل، فقال للرجل: ويحك، انظر ما تقول. فقال الرجل: ما جئتك إلا بالحق. فقال عمر: ومن هو؟ فقال الرجل: ابن مسعود. فما زال يُطفئ غضب عمر، ويتسرى عنه حتى عاد إلى حاله، ثم قال عمر للرجل: ويحك، والله ما أعلم بقي من الناس أحدٌ هو أحقُّ بذلك منه، وسأحدثك عن ابن مسعود، فذكر له قصة مرور النبي بابن مسعود وهو يقرأ سورة النساء، وقوله فيه: ((من أحب أن يقرأ القرآنَ غضًّا كما أُنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد)) رواه الإمام أحمد.

عاد من الكوفة إلى المدينة في آخر حياته، ومر في طريقه بالرَّبَذَة -وهي: قرية قرب المدينة- ووافق فيها جنازةَ أبي ذرٍ ، وصلى عليه.

توفي ابن مسعود بالمدينة سنة ثلاث وثلاثين وله ثلاث وستون سنة، وأوصى أن يصلي عليه الزبير بن العوام .

رضي الله عن ابن مسعود، ورضي الله عن جميع أصحاب نبينا محمد ، اللهم اجمعنا بهم في دار كرامتك، اللهم وفقنا للاقتداء بهم، والسير على نهجهم.

عباد الله، صلوا وسلموا...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً