أمّا بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلأرْضِ مُفْسِدِينَ. أقبلوا على ربكم بصدق القلوب، واحذروا الخطايا والذنوب، لعل الله أن يثبِّت لكم في الصادقين قَدَما، ويكتب لكم في التائبين ندما.
عبادَ الله، قدرةُ الله لا يعرف البشر كيف تعمل، فهم يشاهدون آثارها ولا يدركون كنهها ولا طريقتها في العمل! يقع ما يريده اللهُ في كونه بيسرٍ لا مشقّةَ فيه ولا عسر، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ، يكفر بعجائب هذا الكون، العجائبِ التي يُفقدنا الإلْفُ جِدَّتَها وغرابتَها وإيحاءاتِها للقلب والحسّ، وهي دعوةٌ للإنسان أن يرتادَ هذا الكونَ كالذي يراه أولَ مرّةٍ؛ مفتوحَ العين متوفِّزَ الحسّ حيَّ القلب.
وكم في هذه المشاهد المكْرورة من عجيب! وكم فيها من غريب! وكم اختلجت العيون والقلوب وهي تطلع عليها أول مرة ثم ألفتها ففقدت هزة المفاجأة ودهشة المباغتة وروعة النظرة الأولى إلى هذا الخَلْقِ العجيب! تلك السماوات والأرض، هذه الأبعاد الهائلة والأجرام الضخمة والآفاق المسحورة والعوالم المجهولة، إنّ قلبَ المؤمن يتلقّى هذا الخلقَ وتتجدّد في حسِّه هذه المشاهدُ ويظلّ أبدا يذكر قدرةَ اللّهِ فيها فيتلقّاها في كلِّ مرّة بروعةِ الخلقِ الجديد.
عبادَ الله، هذه الحياة من أين جاءت؟ كانت كامنة في الحبة والنواة! ولكن من أين جاءت إلى الحبة والنواة؟ أصلها؟ مصدرها الأول؟ إنه لا يجدي الهرب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على الفطرة!
لقد حاول الملحدون تجاهل هذا السؤال الذي لا جواب عليه إلا وجود خالق قادر على إعطاء الحياة للموات، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ.
وحاولوا طويلا أن يوهموا الناس أنهم في طريقهم إلى إنشاء الحياة بلا حاجة إلى إله! ثم أخيرا إذا هم في أرض الإلحاد الجاحد الكافر ينتهون إلى نفض أيديهم والإقرار بما يكرهون: استحالة خلق الحياة! وأعلم علماء روسيا الكافرة في موضوع الحياة هو الذي يقول هذا الآن! ومن قبل راغ غيرُه من مواجهة هذا السؤال!
إنه لا يكفي -أيها المسلمون- أن تقول نظريةٌ ما تقوله عن أسباب هبوب الريح، وعن طريقة تكون السحاب، إن السر الأعمق هو سر هذه الأسباب، سر خلقة الكون بهذه الطبيعة وبهذه النسب وبهذه الأوضاع، التي تسمح بنشأة الحياة ونموها وتوفير الأسباب الملائمة لها من رياح وسحاب ومطر وتربة، سر هذه الموافقات التي يعد المعروف منها بالآلاف، والتي لو اختلت واحدة منها ما نشأت الحياة أو ما سارت هذه السيرة، سر التدبير الدقيق الذي يشي بالقصد والاختيار، كما يشي بوَحدة التصميم ورحمة التدبير، إنّ في ذلك لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
نعم، لو ألقى الإنسان عن عقله بلادة الإلْفِ والغفلة، فاستقبل مشاهدَ الكون بحسٍّ متجدِّد، ونظرةٍ مستطلعة وقلبٍ نوّره الإيمان، ولو سار في هذا الكون كالرائد الذي يهبط إليه أول مرة تلفتُ عينَه كلُّ ومضة، وتلفِت سمعَه كلُّ نأمة، وتُلفِت حسَّه كلُّ حركة، وتهزّ كيانَه تلك الأعاجيبُ التي تتوالى على الأبصار والقلوب والمشاعر، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
إنَّ هذا هو ما يصنعه الإيمان، هذا التفتح، وهذه الحساسية، وهذا التقدير للجمال والكمال، إنّ الإيمانَ رؤيةٌ جديدة للكون، وإدراك جديد للجمال وحياة على الأرض في خَلْقٍ من صنع اللّه، آناءَ الليلِ وأطراف النهار، ومع هذا فإنّ هناك من لا ينظر ولا يتعقّل، فيحيد عن التوحيد الذي يوحي به تصميمُ الوجود، والنظرُ في وحدة الناموس الكونيِّ العجيب! وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.
انظر -عبدَ اللهِ- إلى أصحابِ التجرِبةِ اليابانيّة، كيف يَحارُون ويتحوّرون! ويَقْلَقون وحُقَّ لهم ما يفعلون. كيف أنّهم في هِزَّةٍ عنيفةٍ مداها ثوانٍ معدودةٌ لا تكاد تُعَدُّ صاروا في عِدادِ المنكوبين والمضطرِّين! زلزالٌ بحريٌّ عنيف يعقبه تلاطمُ الموجِ وتَسارُعُ الريحِ المرسلةِ بقَدَرِ الله، فيكون ما ليس في حُسْبانِ البشر، فسبحانك يا رب! يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وقد قال حاكمُ (طوكيو): "إنّ ما أصابنا غضبةٌ إلهيّةٌ؛ لأنّ اليابانيين فيهم أنانيّةٌ بشعةٌ". سبحان اللهِ! وشهد شاهدٌ من أهلها. ألا فأين مَنْ ينكرون ارتباطَ سُنَنِ الكون بما يفعله العبادُ من ظُلمٍ وعِصيانٍ فوق الأرض؟! إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ.
وهذا الحدثُ يُنْبينا أنّ القوى العظمى كما يسمّونها هَباءٌ منبثٌّ أمامَ قدرةِ اللهِ وسطوتِه، والعبدُ المؤمنُ الممدودُ بحبلٍ من الله لا يمكن أنْ يخشى قوى الشرِّ والفسادِ مهما عَتَتْ وتجبَّرت، فماذا لها أنْ تفعل؟! إنّ البشرَ حينًا يبالغون في تهييب قوّةٍ معيّنة، وتخويفِ الناسِ بها وهي ذاتُها ضعيفةٌ عاجزةٌ تتكشَّف عند أقربِ سبب! وقد يخافها بعضُ الناس؛ لأنّ غيرَه يَعُدّها آلهةً تُخَافُ وتُرْهَب! وكيف يخاف آلهةً عاجزة كائنةً ما كانتْ هذه الآلهة، وقدْ تتبدّى أحيانا في صورة جبّارين في الأرض بطّاشين، وهم أمام قدرةِ اللّه مهْزولون مضْعوفون! كيف يخاف مؤمنٌ هذه الآلهةَ الزائفةَ العاجزة، ولا يخافون هم أنّهم أشركوا باللّه ما لم يجعل له سلطانا ولا قوةً من الأشياء والأحياء؟! وأيُّ الفريقين أحقُّ بالأمن: الذي يؤمن بالله ويكفر بالشركاء، أم الذي يشرك باللّه ما لا سلطانَ له ولا قوّة؟! فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ.
بارك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو أرحمُ الراحمين.
|