.

اليوم م الموافق ‏19/‏رمضان/‏1445هـ

 
 

 

وقد خاب من حمل ظلما

6569

الرقاق والأخلاق والآداب

الكبائر والمعاصي

وضاح بن سيف الجبزي

صنعاء

مسجد العروة الوثقى

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- مفاسد مرض الظلم. 2- تحريم الظلم. 3- أعوان الظلمة. 4- مصارع الطغاة وسوء عاقبة الظالمين. 5- الملك لله تعالى. 6- عبر وعظات من الأحداث الأخيرة. 7- نصيحة لولاة الأمر.

الخطبة الأولى

وَبَعْد: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.

أيها المسلون، إنَّ من الأمراض الفتاكة والجرائم البشعة التي انتشرت في أواسط المجتمعات، حتى هلك إثر ذلك أفرادٌ وجماعات، وسحقت بسببه شعوبٌ، وأبيدت أُمم، وسلبت خيرات، ونزعت بركات، ويكفينا إذا أردنا أن نعرف خطورته أن نعلم أن الله جل جلاله حرَّمه على نفسه، وجعله محرَّمًا بين عباده، ومن أجل مكافحته وعلاج المرضى بدائه وإزالته واستئصاله؛ بعث الله الرسل، وأنزل الكتب، وأوضح السبل، قال سبحانه إرشادًا لعباده وتذكيرًا: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا، وقال: وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا، وقال: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا.

لقد حذر الباري جل في علاه من هذا الداء المستفحِل، فقال: ((يا عبادي، إنِّي حرمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)). إنها دعوة للتطهر من أدران الظلم بجميع أنواعه، في حق العباد وحق المعبود، جاءت في سياق الامتداح للذين سمت نفوسهم، وتطهرت أرواحهم من براثِن الشرك ومستنقعات الرذائل: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ.

فوَا عَجَبًا كَيْفَ يعصى الإِلَه      أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الجَاحِدُ

وَللَّـــهِ فِـــي كُـــلِّ تَـــحْـــرِيـــكَـــــةٍ        وَفِي كُلِّ تَسْكِينَةٍ شَاهِدُ

وَفـــِي كُـــلِّ شِـــيءٍ لَــــــهُ آيَـــةٌ         تَدُلُّ عَلَـــى أَنَّهُ الوَاحِــدُ

إنّ الظلم والطغيان هو الديوان الذي لا يتركه الله حتى يقتصَّ من الظالم للمظلوم؛ فمرتع الظلم وخيم، وعاقبته سيئة، وجزاءُ صاحبه البوار وخراب الدار، ولو بغى جبلٌ على جبلٍ لدُّكَ الباغي منهما.

عن جابرٍ قال: لما رجعت مهاجرةُ الحبشةِ إلى رسول الله قال: ((ألا تخبروني بأعجب ما رأيتم في أرض الحبشة؟)) فقال فتيةٌ منهم: بلى يا رسول الله، بينما نحن يومًا جلوسٌ إذ مرت عجوزٌ من عجائزهم تحمل على رأسها قُلةً من ماء، فمرت بفتًى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها، فخرت المرأة على ركبتيها وانكسرت قُلَّتُها، فلما قامت التفتت إليه وقالت له: سوف تعلم يا غادر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، سوف تعلم ما أمري وأمرُك عنده غدًا، قال : ((صدَقَت، كيف يقدِّسُ اللهُ قومًا لا يؤخذ من شديدهم لضعيفهم؟)).

أَمَــــــا وَاللـــهِ إِنَّ الظُّلـــْـــمَ شُــــــؤْمٌ     وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ

إِلَى الدَّيَّانِ يَـــوْمَ الـــدِّينِ نَمْضِـــي    وَعِنْـــدَ اللهِ تَجْتَـــمِـــعُ الْخُـــصُـــومُ

سَتَعْلَمُ فِي الْحِسَابِ إِذَا الْتَقَيْنَا    غَدًا عِنْدَ الْمَلِيكِ مَنْ الظَّلُومُ

تَنَـــامُ وَلَمْ تَنَـــمْ عَنْـــكَ الْمَــنَـــايَـــا       تَنَـــبَّـــهْ لِـــلْـــمَـــنِــــــيَّـــةِ يَـــا نَــــــؤُومُ

لَهَوْتَ عَـــن الْفَنَاءِ وَأَنْتَ تَفْنَى      وَمَـــا حَـــيٌّ عَلَى الدُّنْيَــا يَدُومُ

تَرُومُ الْخُلْـــدَ فـــِي دَارِ الْمَنَايَــا     وَكَـــمْ قَــدْ رَامَ غَيْرُكَ مَا تَرُومُ

سَـــلِ الأَيَّامَ عَنْ أُمَمٍ تَقَضَّتْ     سَتُــخْبِرُكَ الْمَـــعَـــالِمُ وَالرُّسُـــومُ

ذُكِر عن أبي بكر الوراق أنه قال: "أكثر ما ينزع الإيمانَ من القلب ظلمُ العباد".

وإنَّ من ألدِّ خصوم البشرية وأعداء الإنسانية جلساء الظلمة وبطانتهم وأعوانهم، الذين يحققون للظالم رغباتِه، ويوصلونه إلى طموحاته وأمنياته، يحسنون القبيح ويقبِّحون الحسن، يزينون له الباطل ويسترون الحق، يحجبون الفضيلة ويعينون على الرذيلة، يقرِّبون السفهاء ويُبعدون العقلاء؛ ولذا نعى القرآن على أمثال أولئك الأعوان: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ. فكيف بمن أعانهم على ظلمهم أو كان أداةً من أدوات الظلم والطغيان لقمع الحق؟!

وتأمل -يا عبد الله- إلى قول ربك وهو يبين مصارع الطغاةِ وأعوانِهم، وأنهم لا يستطيعون أن يقدموا عذرًا ولا مبررًا وهم الذين كانوا يثبِّتُون أوتاد الظلم ليخلُدَ في الأرض، قال تعالى حكايةً عن فرعون وحرسه وقواته الخاصة به: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ. مهما قدموا من مبررات فلن يسلموا، وصدق الله: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ.

والشعب لو كان حرًا ما استخف به      فردٌ ولا عاث فيه الظالم النهم

ورويَ عَن ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سُلِّطَ عَلَيْهِ)). وَقَالَ سَعِيدُ بنُ الْمُسَيِّبَ: "لا تَمْلَؤُوا أَعْيُنَكُمْ مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ إِلاَّ بالإِنْكَارِ مِنْ قُلُوبِكُمْ؛ لِئَلا تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ". وَقَالَ مَكْحُولُ الدِّمَشْقِي: "يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ؟ فَمَا يَبْقَى أَحَدٌ مَدَّ لَهُمْ حِبْرًا أَوْ حَبَّرَ لَهُمْ دَوَاةً أَوْ بَرَى لَهُمْ قَلَمًا فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلاَّ حَضَرَ مَعَهُمْ، فَيُجْمَعُونَ فِي تَابُوتٍ مِنْ نَارٍ فَيُلْقَوْنَ فِي النَّارِ". وَجَاءَ رَجُلٌ خَيَّاطٌ إلى سُفْيَانِ الثَّوْرِي، فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أخِيطُ ثِيَابَ السُّلْطَانِ هَلْ أَنَا مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ؟ فَقَالَ سُفْيَانُ: أَنْتَ مِنَ الظَّلَمَةِ أَنْفُسِهِمْ وَلَكِنْ أَعْوَان الظَّلَمَةِ مَنْ يَبِيعُ مِنْكَ الإِبْرَةَ وَالْخُيُوط.

وأما عاقبة الظلم ففي الصحيحين من حديث أبي موسى عنه أنه قال: ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلِتْه)).

فَهَيْهَـــاتَ أَنْ يَنْجُـــو الظَّلُومُ وَخَلْفُهُ         سِهَـــامُ دُعَـــاءٍ مِنْ قِســـيِّ رُكُـــوعِ

أيها المسلون، لقد ساق لنا القرآن نماذجَ وأمثلةً لمن استكبروا في الأرض، وطغوا وبغوا، وعاثوا فيها الفساد، وساموا شعوبهم أمر الشقاء والعذاب. كيف كانت عاقبتهم؟ ما أخبار قُرُوشِهم وعروشِهم؟

استمع إلى قول الحقِّ تعالى شأنُه وتقدست أسماؤه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ، لنتذكر جيدًا: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادْ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادْ.

أيُّها المصلون الراكعون الساجدون، إنَّ ليل الظلم لن يستمر، وثوب العار سوف يتمزق، وشمس الحق سوف تشرق، وأعداءُ الله مهما مكروا فإنَّ الله سيستدرجهم من حيث لا يعلمون، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ. يقول : ((إِنَّ الرَّجُلَ لتُرفعُ له يومَ القيامةِ صحيفةٌ حتى يرى نفسه أنَّه ناجٍ، فما تزالُ مظالمُ بني آدم تتْبعه حتى ما يبقى له حسنة، ويحمل عليه من سيئاتهم)).

إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ، وقال: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، وقال: أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، وقال: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا، وقال: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ، وقال: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ.

إنَّ عصابة الظلم والطغيان في كل مكانٍ وزمان تُحسن تقديم المبررات والأعذار، حتى يوم القيامة يظنون أنه سينجيهم تذرُّعهم: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ. وأين كانت عقولكم إذن؟ أما كنتم تقرؤون قوله تعالى: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه؟! لكن الباري يبين لنا خزي أولئك القوم بقوله: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ.

فيا ويح أهلِ الظلمِ والفحشِ والعدا      إِذا أقبلت يومَ الحسابِ جهنمُ

دخل طاوس بن كيسان على هشامِ بن عبد الملك فقال له: إنَّي أُحذِّرُك يوم الأذان، فقال هشام: وما يوم الأذان؟ قال طاوس: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، فصعق هشام بن عبد الملك. قال بعض السلف: "لا تظلمنَّ الضعفاء فتكون من شرار الأقوياء".

فكَم قد رَأينا ظالمًا متمردًا       يرى النجم تيهًا تحت ظل ركابه

قال شريحٌ القاضي: "سيعلم الظالمون حق من انتقصوا، إنَّ الظالمَ لينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النَّصر والثواب".

يا أحبابنا، لقد أخبرنا عن امرأةٍ دخلت النَّار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فكيف بمن يصادر حقوق أمة ومقدرات شعب؟! كيف بمن يحارب الناس في رزقهم وقوت يومهم؟! كيف بمن يضيق على الناس الخناق ويجعلهم في خلاف وشقاق؟! والله والله والله، لن يفلتوا أبدًا من بين يدي الجبار جل جلاله، لا في الدنيا ولا في الآخرة. يقول صلوات ربي وسلامه عليه: ((بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي والعقوق)).

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ.

واستغفروا الله العظيم وتوبوا إليه، إنه هو الغفور التواب الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله القائل: قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابْ.

إنَّ إعطاء الملك هبة من الله، ولذلك قال: تُؤْتِي، لكن تأمل -يا عبد الله- كيف يُسلب الملك؟ قال الله: وَتَنْزِعُ، إنَّها صورة الأخذ الإجباري الذي يُنزعُ كما تُنزعُ الرُّوح. فهل تأمله الملوك، وتصوروا ذاك الأخذ، وتذكروا ساعةَ الانتزاع؟! إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ.

من كان يتصور أنَّ مصادرة عربةٍ في ساحة الزيتونة ستسقط حُكمًا، وتغير مسيرة طاغية، وتقضي على حقبةٍ من الزمان حُورِب فيها العباد؟! مصادرة عربة؟! وما أكثر العربات! بل الحقوق والحريات التي تصادر اليوم! وكأنَّ أهل تونس يقولون:

يومٌ من الدَّهر لم تصنع أشِعَّتَه   شمسُ الضُّحى بلْ صنعناهُ بأيدينا

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى.

إنه مهما بلغت قوة الطاغية وقبضته الحديدية على شعبه فإن سقوطه إذا أراد الله تعالى سيكون من حيث لا يتوقع، وتلك سنة الله تعالى في الظالمين: أن يذلهم ولو على أيدي أقرب الناس إليهم، ويسقطهم بأهون الأسباب عليهم، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ، فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا.

لقد كان ذاك الطاغية هو وأسرته وحاشيتُه في النعيمِ غافلين، وفي لحافِ الرَّغدِ دافِئين، وفي بستانِ الترفِ مُنعَّمِين، فجاءهم أمرُ اللهِ ضُحى وهم يلعبون، وبياتًا وهم نائمون، فخُرِّبت دُورُهم، وهُدِّمَت قصورُهُم، وهُتكت سُتُورهُم، وفُضِحوا على الملأ، وأُورِدوا موارد الهالِكين، لا إله إلا اللهُ! فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.

هذا المصابُ وإِلاَّ غيرُه جلَلُ     وهكذا تُمحقُ الأيَّامُ والدُّولُ

اطمأَنوا في سِنةٍ من الدهْر، وأمْنٍ من الحدَثان، وغفْلةٍ من الأيامِ، وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ.

خفقَتْ على رؤوسِهِمُ البنودْ، واصطفَّتْ على جوانِبِهم الجنودْ.. يا سبحان الله!

كأنْ لم يكُن بين الحَجُونِ إلى الصفّا        أنيسٌ ولم يسْمُرْ بمكَّة سامِرُ

رتعُوا في لذَّةِ العيشِ لاهين، وتمتَّعُوا في صفْو الزمان آمنِين، ظنُّوا السراب ماءً، والورم شحْمًا، والدنيا خُلُودًا، والفناء بقاءً، وحسِبوا الوديعةَ لا تُستردّ، والعاريةَ لا تُضمن، والأمانةَ لا تُؤدَّى، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُون.

فجـــائِعُ الدهـــرِ ألـــوانٌ مُنـــوَّعـــةٌ    وللـــزَّمـــانِ مَسَـــرَّاتٌ وأحـــزانُ

وهذه الدارُ لا تُبقي على أحدٍ   ولاَ يدومُ على حالٍ لها شأنُ

يا سبحان الله! أبعد ثلاثٍ وعشرين سنةً يُفهم الشعب، وتبدأ الحرية وقد بلغ من الكبر عتيًا، واشتعل الرأس شيبًا؟! ثلاثٌ وعشرون سنة لم يفهم هذا الطاغية شعبَه، وما أكثر الذين لا يفهمون شعوبهم! ولما ضاق الخناق على رقبته ادعى الآن أنه فهمهم. وليس إلا كما قال الله تعالى بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونْ، فلا تصدقوهم، والله إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونْ.

من عِبَرِ ذاك الحدَث: أنَّ حلاوة السلطة والجاه والمال والأمر والنهي تتبدد عند أول دركات الخوف، وتنتهي فور العلم بفقدان السلطة، وتستحيل إلى مرارة وألم يتمنى صاحبها إذ ذاك أنه لم يلِ من أمر الناس شيئا، بل يتمنى الموت ولا يجده؛ فما أشد الذل والهوان بعد العز والجبروت! ولا بد لكل صاحب ولاية أن يستحضر أثناء استمتاعه بحلاوة تسلُّم ولايته مرارةَ انتزاعِها منه؛ لئلا يبطر على الناس فيظلمهم ويمارس طغيانه عليهم.

لاَ تُـــوَازَى لذَّةُ الحكـــم بمــا         ذاقهُ الشخصُ إذا الشخص اعتزل

فالولاياتُ وإن طابت لمن         ذاقــهـــا فالـــســـم فـــي ذاك العـــســــــل

لكن أنى للجهلة والغافلين تذكر ذلك؟! أنى للحمقى والمغفلين تدبر آيات رب العالمين: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ.

من العبر أيضًا: أنَّ عادةَ طواغيتِ وجبابرةِ البشرِ أن يتجاهلوا غليان الملايين من المقهورين، وقد حسبوا أنهم مانعتهم أبواب القصور وأسوار الدُّور من ثورة الجياع ضحايا الفساد والبطالة والانتفاع؛ ولذا قال بعض المفكرين: "أطعموا شعوبكم قبل أن تأكلكم. إن لقمة الخبز وثورة الجياع قضية معروفة".

أَمِنُوا مُقاطعةَ الشعوبِ وما درَوا      أَنّ الشُّـــعــــــــــــــوب تَـــجــوع ثُــمَّ تُـــثــارُ

هـــي ثـــورةٌ شـــعـــبـــيـــةٌ ســـلـــمــيــــــــــــــــــــةٌ        لاَ الشَّجبُ يُطفئُهَا ولاَ الأعذارُ

هَذا جوابُ الشعبِ رَغمَ هوانهِ      وَغـــدًا يـجـــيــــــــبُ الواحدُ القـــهّـــارُ

من العبر أيضًا: أنَّ الظلم كلما زاد واستشرى فإنه مؤذِنٌ بزواله: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا، فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ.

رحم الله ابن تيمية، فقد صاغ قاعدةً نورانية في حفظ الحضارة الإنسانية: "إن الله لينصر الدولةَ العادلةَ ولو كانت كافرة, ويهدم الدولةَ الظالمةَ ولو كانت مسلمة، وتلك سنة من سنن الله", ثم تلا: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، فالظلم مؤذن بالزوال، والعدل طريق الخلود والبقاء.

إنه ينبغي على كل حاكم استمَع لخطاب ذاك الطاغية وهو يحتَضِرُ على منصة حكمه أن يكتب خطابًا مشابهًا إلى شعبه قبل فوات الأوان وانفجار البركان.

وَيـــــــــــــــــــــلٌ وَويـــــــــلٌ لأَعــــــداءِ الــــــبِـــلادِ إِذا   ضَجّ السُّكونُ وهبَّتْ غضبةُ الثَّارِ

فليَغنــــــمِ الجَــــــورُ إِقـــبَــــــالَ الزَّمــــــانِ لَــــــــــــهُ    فَــــــــــــــإِنّ إِقــــــبـــــــــــالَـــهُ إِنـــــــــذَارُ إِدبـــــــــارِ

والظُّلمُ مهمَا احتَمَتْ بِالبَطْشِ عُصبتُهُ   فَلَنْ تُطِــــــــــقْ وَقفَــــــةً في وَجــــــهِ تَيَّــــــارِ

لاَ تُخبــِــــرِ الشَّعــــــبَ عنهُــــــمْ إِنّ أَعينَــــــهُ     تَرى فظَـــائعَهمْ مِن خلـــفِ أسْتَـــارِ

الآكلِــــــون جَــــــراحَ الشعــــــبِ تـخبــــــرُنا     ثِيَــــــابُــــــهُــــــم أَنّهــــــــــمْ آلاَتُ أَشــــــرارِ

يَبنـــون بِالظلُّــــــمِ دُورًا كــــــي نمُجِّدَهُــــــمْ      وَمجدُهم رِجسُ أخشابٍ وأحجارِ

تحُسُّهُـــم فِي يــــــدِ المُستْتَعْبِدِيــــــن كَمَــــــا      تَحُسُّ مسْبَحَــــــــةً فِي كَــــــفِّ سّحَّــــــارِ

ونصيحةً لكل من ولاه الله رقاب شعب وذمة أمة أن يتأمل جيدًا قوله: أَلَمْ نُهْلِكْ الأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمْ الآخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ، وليتذكرَ الملوك قول ملك الملوك: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ.

اللهم أصلح من في صلاحه صلاحٌ للإسلام والمسلمين، وللبلاد والعباد، ونسألك أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، ونسألك أن تجعلنا من الذين يقولون بالحق وبه يعدلون، ونسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وتتوب علينا، اللهم هب لنا توفيقًا إلى الرشد، وقلوبًا تتقلب مع الحق، وألسنة تتحلى بالصدق، ونطقًا يؤيد بالحجة، وعزائم تقهر الهوى، اللهم أسعدنا بالهداية، وتولنا فيمن توليت، ولا تضلنا بعد الهدى يا ذا العلا، وصلِّ على محمدٍ وآله ومن تلا...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً