.

اليوم م الموافق ‏10/‏ذو القعدة/‏1445هـ

 
 

 

تفسير سورة ق (2)

6522

العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير

عمر بن عبد الرحمن المخلفي

الحناكية

غير محدد

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

إكمال تفسير السورة.

الخطبة الأولى

أما بعد: يا عباد الله، لقد تكلمنا في الخطبة السابقة عن تفسير سورة ق، ولم يسعنا المجال والوقت لإكمالها، فإننا اليوم سنكمل ما تبقى من تفسيرها.

‏قال تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ

يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة: هَلْ امْتَلأْتِ؛ وذلك لأنه تبارك وعدها أن سيملؤها من الجِنة والناس أجمعين، فهو سبحانه وتعالى يأمر بمن يأمر به إليها ويلقى، وهي تقول: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ أي: هل بقي شيء تزيدوني؟ هذا هو الظاهر من سياق الآية، وعليه تدل الأحاديث، قال البخاري عند تفسير هذه الآية عن أنس بن مالك عن النبي قال: ((يلقى في النار وتقول: هل من مزيد، حتى يضع قدمه فيها فتقول: قط قط)). وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده عن أبي بن كعب قال: إن رسول الله قال: ((يُعرفني الله تعالى نفسه يوم القيامة فأسجد سجدة يرضى بها عني، ثم أمدحه مدحة يرضى بها عني، ثم يؤذن لي في الكلام، ثم تمر أمتي على الصراط مضروب بين ظهراني جهنم، فيمرون أسرع من الطرف والسهم وأسرع من أجود الخيل، حتى يخرج الرجل منها يحبو وهي الأعمال، وجهنم تسأل المزيد، حتى يضع فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، وأنا على الحوض))، قيل: وما الحوض يا رسول الله؟ قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، إن شرابه أبيض من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك، وآنيته أكثر من عدد النجوم، لا يشرب منه إنسان فيظمأ أبدا، ولا يُصرف فيروى أبدا)). وهذا القول هو اختيار ابن جرير.

وقوله تعالى: وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ قال قتادة وأبو مالك والسدي: وَأُزْلِفَتْ أدنيت وقربت من المتقين غَيْرَ بَعِيدٍ وذلك يوم القيامة، وليس ببعيد لأنه واقع لا محالة، وكل ما هو آت قريب هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ أي: رجاع تائب مقلع حَفِيظٍ أي: يحفظ العهد فلا ينقضه ولا ينكثه. وقال عبيد بن عمير: "الأواب الحفيظ الذي لا يجلس مجلسا فيقوم حتى يستغفر الله عز وجل" مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أي من خاف الله في سره حيث لا يراه أحد إلا الله عز وجل، كقوله : ((ورجل ذكر الله تعالى خاليا ففاضت عيناه)) وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ أي: ولقي الله عز وجل يوم القيامة بقلب منيب سليم إليه خاضع لديه ادْخُلُوهَا أي الجنة بِسَلامٍ قال قتادة: "سلموا من عذاب الله عز وجل وسلم عليهم ملائكة الله". وقوله سبحانه وتعالى: ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ أي: يخلدون في الجنة أبدا فلا يموتون أبدا ولا يظعنون أبدا ولا يبغون عنها حولا. وقوله جلت عظمته: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ أي: مهما اختاروا وجدوا من أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم. روى ابن أبي حاتم عن كثير بن مرة قال: "من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول: ماذا تريدون فأمطره لكم؟ فلا يدعون بشيء إلا أمطرتهم"، قال كثير: "لئن أشهدني الله تعالى ذلك لأقولن أمطرينا جواري مزينات". وفي الحديث عن ابن مسعود قال: إن رسول الله قال له: ((إنك لتشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديك مشويا)). وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: إن رسول الله قال: ((إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة))، ورواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: "حسن غريب"، وزاد: ((كما يشتهي)). وقوله تعالى: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ كقوله عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ، وقد روى مسلم عن صهيب بن سنان الرومي أنها النظر إلى وجه الله الكريم، وروى البزار وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي عن عثمان بن عمير أبي اليقظان عن أنس بن مالك في قوله عز وجل: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ قال: (يظهر لهم الرب عز وجل في كل جمعة)، وقد رواه الإمام أبو عبد الله الشافعي مرفوعا فقال في مسنده: عن عبد الله بن عبيد بن عمير أنه سمع أنس بن مالك يقول: أتى جبرائيل عليه الصلاة والسلام بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى رسول الله ، فقال رسول الله : ((ما هذه؟)) فقال: هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك، فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى، ولكم فيها ساعة لا يوافقها مؤمن يدعو الله تعالى فيها بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد، قال النبي : ((يا جبريل، وما يوم المزيد؟)) قال عليه السلام: إن ربك تبارك وتعالى اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب المسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله تعالى ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين، وحفت تلك المنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيقول الله عز وجل: أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فسلوني أعطكم، فيقولون: ربنا نسألك رضوانك، فيقول: قد رضيت عنكم ولكم ما تمنيتم ولدي مزيد، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم تبارك وتعالى من الخير، وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش، وفيه خلق آدم، وفيه تقوم الساعة. هكذا أورده الإمام الشافعي رحمه الله في كتاب الجمعة.

‏قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ

يقول تعالى‏: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ قبل هؤلاء المكذبين مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا أي: كانوا أكثر منهم وأشد قوة، ولهذا قال تعالى‏: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ‏، قال مجاهد‏: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ضربوا في الأرض، وقال قتادة‏: فساروا في البلاد أي: ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب‏. ويقال لمن طوف في البلاد: نقب فيها، وقوله تعالى‏: هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي: هل من مفر لهم من قضاء اللّه وقدره‏؟‏! وهل نفعهم ما جمعوه لما كذبوا الرسل‏؟‏! فأنتم أيضًا لا مفر لكم ولا محيد، وقوله عزَّ وجلَّ‏: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى أي: لعبرة لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أي: لب يعي به، وقال مجاهد‏: عقل، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ أي: استمع الكلام فوعاه، وتعقله بعقله وتفهمه بلبه، وقال الضحّاك‏: العرب تقول‏: ألقى فلان سمعه إذا استمع بأذنيه وهو شاهد بقلب غير غائب، وقوله سبحانه وتعالى‏: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ فيه تقرير للمعاد، لأن من قدر على خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأخرى‏. وقال قتادة‏: قالت اليهود عليهم لعائن اللّه: خلق اللّه السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، وهم يسمونه يوم الراحة، فأنزل اللّه تعالى تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه‏: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ أي: من إعياء ولا تعب ولا نصب، كما قال تعالى‏: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وكما قال عزَّ وجلَّ‏: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وقال تعالى‏: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا‏.

وقوله عزَّ وجلَّ‏: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ يعني المكذبين اصبر عليهم واهجرهم هجرًا جميلًا، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ‏، وكانت الصلاة المفروضة قبل الإسراء ثنتين قبل طلوع الشمس في وقت الفجر، وقبل الغروب في وقت العصر، وقيام الليل كان واجبًا على النبي وعلى أمته حولًا، ثم نسخ في حق الأمة وجوبه، ثم بعد ذلك نسخ اللّه تعالى كله ليلة الإسراء بخمس صلوات، ولكن منهن صلاة الصبح والعصر فهما قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، وقد روى الإمام أحمد عن جرير بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما قال‏: كنا جلوسًا عند النبي فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال‏: ((‏أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون فيه، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا‏)) ثم قرأ‏: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ أخرجه الإمام أحمد ورواه البخاري ومسلم وبقية الجماعة‏‏‏.

وقوله تعالى‏: وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي: فصلِّ له كقوله‏: وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ‏، وَأَدْبَارَ السُّجُودِ قال مجاهد عن ابن عباس رضي اللّه عنهما‏: (هو التسبيح بعد الصلاة)، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال‏: جاء فقراء المهاجرين فقالوا‏: يا رسول اللّه ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال النبي ‏: ((‏وما ذاك‏؟‏‏)) قالوا‏: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، قال ‏: ((‏أفلا أعلمكم شيئًا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم‏؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين‏)) قال: فقالوا‏: يا رسول اللّه سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال ‏: ((‏ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء‏)) أخرجه الشيخان‏"‏.

والقول الثاني أن المراد بقوله تعالى‏: وَأَدْبَارَ السُّجُودِ هما الركعتان بعد المغرب، وبه يقول مجاهد وعكرمة والشعبي وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏: بت ليلة عند رسول اللّه فصلى ركعتين خفيفتين اللتين قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة فقال‏: ((يا ابن عباس‏، ركعتين قبل صلاة الفجر إدبار النجوم، وركعتين بعد المغرب إدبار السجود‏)).

عباد الله، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

قال تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ

يقول تعالى‏: وَاسْتَمِعْ يا محمد يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ قال كعب الأحبار‏: يأمر اللّه تعالى ملكًا أن ينادي على صخرة بيت المقدس‏: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة، إن اللّه تعالى يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ يعني النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه يمترون، ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أي: من الأجداث إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ‏، أي: هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وإليه مصير الخلائق كلهم، فيجازي كلًا بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

وقوله تعالى‏: يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا وذلك أن اللّه عزَّ وجلَّ ينزل مطرًا من السماء ينبت به أجساد الخلائق كلها في قبورها كما ينبت الحب في الثرى بالماء، فإذا تكاملت الأجساد أمر اللّه تعالى إسرافيل فينفخ في الصور، فإذا نفخ خرجت الأرواح تتوهج بين السماء والأرض، فيقول اللّه عزَّ وجلَّ‏: وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره، فترجع كل روح إلى جسدها، فتدب فيه كما يدب السم في اللديغ، وتنشق الأرض عنهم فيقومون إلى موقف الحساب، سِرَاعًا مبادرين إلى أمر اللّه عزَّ وجلَّ، مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ‏، وقال تعالى‏: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً‏‏‏. وفي صحيح مسلم عن أنَس قال: قال رسول اللّه ‏: ((‏أنا أول من تنشق عنه الأرض‏)).

وقوله عزَّ وجلَّ‏: ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ أي: تلك إعادة سهلة علينا يسيرة لدينا، كما قال جلَّ جلاله‏: وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ‏، وقال سبحانه وتعالى‏: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏.

وقوله جلَّ وعلا‏: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ أي: علمنا محيط بما يقول لك المشركون، فلا يهولنك ذلك؛ كقوله‏: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ‏.

وقوله تبارك وتعالى‏: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي: ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى، وليس ذلك مما كلفت به، وقال مجاهد والضحّاك‏: أي: لا تتجبر عليهم. والقول الأول أولى، قال الفراء‏: سمعت العرب تقول‏: جبر فلان فلانًا على كذا بمعنى أجبره.

ثم قال عزَّ وجلَّ‏: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ أي: بلّغ أنت رسالة ربك، فإنما يتذكر من يخاف اللّه ووعيده كقوله تعالى‏: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ‏، وقوله جلَّ جلاله‏: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ‏‏، وكقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ‏، وقوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، ولهذا قال ها هنا‏: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ كان قتادة يقول‏: اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك، ويرجو موعودك، يا بار يا رحيم‏.‏

عباد الله، الحمد لله الذي من علينا ووفقنا لتفسير هذه السورة، نسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا ولا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً