.

اليوم م الموافق ‏25/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

تفسير سورة ق (1)

6521

العلم والدعوة والجهاد

القرآن والتفسير

عمر بن عبد الرحمن المخلفي

الحناكية

غير محدد

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- تيسير القرآن للذكر. 2- سنية قراءة سورة ق في خطبة الجمعة. 3- تفسير سورة ق.

الخطبة الأولى

عباد الله، إن الله بحكمته ورحمته أنزل كتابه تبيانًا لكل شيء، وجعله هدى وبرهانًا لهذه الأمة، ويسره للذكر والتلاوة والهداية بجميع أنواعها، قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. أنزله بلسان عربي مبين، وتكفل بحفظة وإبلاغه لجميع البشر، وقيض له من العلماء من يفسرونه ويبلغونه للناس ألفاظه ومعانيه؛ لتتم بذلك الهداية وتقوم به الحجة، وقد أكثر العلماء من التأليف في تفسير القرآن العظيم كلٌ بما أوتي من علم، فمنهم من يفسر القرآن بالقرآن، ومنهم من يفسره بالأخبار والآثار، ومنهم من يفسره باللغة العربية بأنواعها، ومنهم من يعتني بآيات الأحكام إلى غير ذلك.

عباد الله، إن من مما يؤسفنا أن كثيرا من الخطباء -هداهم الله- قد هجروا بل تركوا الخطبة عن سورة ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ‏ إلا من رحم الله، وإن من هدي الرسول أنه كان يقرأ سورة ق في خطبة الجمعة، يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: "قال العلماء: سبب اختيار ق أنها مشتملة من ابتداء الخلق والبعث، والنشور والمعاد، والقيام والحساب، والجنة والنار، والثواب والعقاب، والترغيب والترهيب؛ فقد كان النبي يقرأ بها في المجامع الكبيرة كالعيد والجمع والله أعلم".

عَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ رَسُولِ اللَّهِ وَاحِدًا سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ، وَمَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ‏ إِلاَّ عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خَطَبَ النَّاسَ. وعَنْ أُخْتٍ لِعَمْرَةَ قَالَتْ: أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ‏ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَقْرَأُ بِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ.‏

فكل هذه الأدلة كانت من المقومات التي جعلتني أتكلم عن هذه السورة العظيمة، فحديثنا ليس عن قراءتها بل عن تفسيرها لنتعلم معانيها.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ.

يقسم تعالى بالقرآن المجيد أي: وسيع المعاني عظيمها، كثير الوجوه كثير البركات جزيل المبرات. والمجد: سعة الأوصاف وعظمتها، وأحق كلام يوصف بهذا هذا القرآن، الذي قد احتوى على علوم الأولين والآخرين، الذي حوى من الفصاحة أكملها، ومن الألفاظ أجزلها، ومن المعاني أعمها وأحسنها، وهذا موجب لكمال اتباعه، وسرعة الانقياد له، وشكر الله على المنة به.

ولكن أكثر الناس لا يقدر نعم الله قدرها، ولهذا قال تعالى: بَلْ عَجِبُوا أي: المكذبون للرسول ، أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ منهم أي: ينذرهم ما يضرهم، ويأمرهم بما ينفعهم، وهو من جنسهم، يمكنهم التلقي عنه، ومعرفة أحواله وصدقه. فتعجبوا من أمر لا ينبغي لهم التعجب منه، بل يتعجب من عقل من تعجب منه.

فَقَالَ الْكَافِرُونَ الذين حملهم كفرهم وتكذيبهم لا نقص بذكائهم وآرائهم: هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أي: مستغرب، وهم في هذا الاستغراب بين أمرين:

إما صادقون في استغرابهم وتعجبهم، فهذا يدل على غاية جهلهم، وضعف عقولهم، بمنزلة المجنون الذي يستغرب كلام العاقل، وبمنزلة الجبان الذي يتعجب من لقاء الفارس للفرسان، وبمنزلة البخيل الذي يستغرب سخاء أهل السخاء، فأي ضرر يلحق من تعجب من هذه حاله؟ وهل تعجبه إلا دليل على زيادة ظلمه وجهله؟!

وإما أن يكونوا متعجبين على وجه يعلمون خطأهم فيه، فهذا من أعظم الظلم وأشنعه.

ثم ذكر وجه تعجبهم فقال: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ فقاسوا قدرة من هو على كل شيء قدير الكامل من كل وجه بقدرة العبد الفقير العاجز من جميع الوجوه، وقاسوا الجاهل الذي لا علم له بمن هو بكل شيء عليم، الذي يعلم ما تنقص الأرض من أجسادهم مدة مقامهم في برزخهم، وقد أحصى في كتابه الذي هو عنده محفوظ عن التغيير والتبديل كل ما يجري عليهم في حياتهم ومماتهم، وهذا الاستدلال بكمال علمه وسعته التي لا يحيط بها إلا هو على قدرته على إحياء الموتى.

بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي: بَلْ كلامهم الذي صدر منهم إنما هو عناد وتكذيب للحق الذي هو أعلى أنواع الصدق، لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي: مختلط مشتبه، لا يثبتون على شيء، ولا يستقر لهم قرار، فتارة يقولون عنك: إنك ساحر، وتارة مجنون، وتارة شاعر، وكذلك جعلوا القرآن عضين، كل قال فيه ما اقتضاه رأيه الفاسد، وهكذا كل من كذب بالحق، فإنه في أمر مختلط، لا يدرى له وجهة ولا قرار، فترى أموره متناقضة مؤتفكة، كما أن من اتبع الحق وصدق به قد استقام أمره، واعتدل سبيله، وصدق فعله.

أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ.

لما ذكر تعالى حالة المكذبين وما ذمهم به دعاهم إلى النظر في آياته الأفقية؛ كي يعتبروا ويستدلوا بها على ما جعلت أدلة عليه، فقال: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ أي: لا يحتاج ذلك النظر إلى كلفة وشد رحل، بل هو في غاية السهولة، فينظرون كَيْفَ بَنَيْنَاهَا قبة مستوية الأرجاء، ثابتة البناء، مزينة بالنجوم الخنس، والجوار الكنس التي ضربت من الأفق إلى الأفق في غاية الحسن والملاحة، لا ترى فيها عيبًا، ولا فروجًا، ولا خلالًا، ولا إخلالًا. قد جعلها الله سقفًا لأهل الأرض، وأودع فيها من مصالحهم الضرورية ما أودع.

و إلى الأَرْضَ كيف مَدَدْنَاهَا ووسعناها، حتى أمكن كل حيوان السكون فيها والاستقرار والاستعداد لجميع مصالحه، وأرساها بالجبال، لتستقر من التزلزل والتموج، وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ أي: من كل صنف من أصناف النبات التي تسر ناظرها، وتعجب مبصرها، وتقر عين رامقها، لأكل بني آدم، وأكل بهائمهم ومنافعهم، وخص من تلك المنافع بالذكر، الجنات المشتملة على الفواكه اللذيذة، من العنب والرمان والأترج والتفاح، وغير ذلك من أصناف الفواكه، ومن النخيل الباسقات، أي: الطوال التي يطول نفعها، وترتفع إلى السماء، حتى تبلغ مبلغًا، لا يبلغه كثير من الأشجار، فتخرج من الطلع النضيد في قنوانها ما هو رزق للعباد، قوتًا وأدمًا وفاكهة، يأكلون منه ويدخرون، هم ومواشيهم، وكذلك ما يخرج الله بالمطر، وما هو أثره من الأنهار، التي على وجه الأرض، والتي تحتها من حب الحصيد، أي: من الزرع المحصود، من بر وشعير وذرة وأرز ودخن وغيره.

فإن في النظر في هذه الأشياء تَبْصِرَةً يتبصر بها من عمى الجهل، وَذِكْرَى يتذكر بها، ما ينفع في الدين والدنيا، ويتذكر بها ما أخبر الله به، وأخبرت به رسله، وليس ذلك لكل أحد، بل لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ إلى الله أي: مقبل عليه بالحب والخوف والرجاء وإجابة داعيه، وأما المكذب والمعرض فما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون.

وحاصل هذا أن ما فيها من الخلق الباهر والشدة والقوة دليل على كمال قدرة الله تعالى، وما فيها من الحسن والإتقان وبديع الصنعة وبديع الخلقة دليل على أن الله أحكم الحاكمين، وأنه بكل شيء عليم، وما فيها من المنافع والمصالح للعباد دليل على رحمة الله التي وسعت كل شيء وجوده الذي عم كل حي، وما فيها من عظم الخلقة وبديع النظام دليل على أن الله تعالى هو الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، ولم يكن له كفوًا أحد، وأنه الذي لا تنبغي العبادة، والذل والحب إلا له تعالى، وما فيها من إحياء الأرض بعد موتها دليل على إحياء الله الموتى ليجازيهم بأعمالهم، ولهذا قال: وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ.

ولما ذكرهم بهذه الآيات السماوية والأرضية خوفهم أخذات الأمم، وأن لا يستمروا على ما هم عليه من التكذيب، فيصيبهم ما أصاب إخوانهم من المكذبين، فقال: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ.

أي: كذب الذين من قبلهم من الأمم رسلهم الكرام وأنبياءهم العظام، كنوح كذبه قومه، وثمود كذبوا صالحًا، وعاد كذبوا هودًا، وإخوان لوط كذبوا لوطًا، وأصحاب الأيكة كذبوا شعيبًا، وقوم تبع، وتبع كل ملك ملك اليمن في الزمان السابق قبل الإسلام، فقوم تبع كذبوا الرسول الذي أرسله الله إليهم، ولم يخبرنا الله من هو ذلك الرسول، وأي تبع من التبابعة، لأنه -والله أعلم- كان مشهورًا عند العرب لكونهم من العرب العرباء، الذين لا تخفى ماجرياتهم على العرب خصوصًا مثل هذه الحادثة العظيمة. فهؤلاء كلهم كذبوا الرسل الذين أرسلهم الله إليهم، فحق عليهم وعيد الله وعقوبته، ولستم -أيها المكذبون- لمحمد خيرًا منهم، ولا رسلهم أكرم على الله من رسولكم، فاحذروا جرمهم، لئلا يصيبكم ما أصابهم.

ثم استدل تعالى بالخلق الأول وهو المنشأ الأول على الخلق الآخر، وهو النشأة الآخرة، فكما أنه الذي أوجدهم بعد العدم، كذلك يعيدهم بعد موتهم وصيرورتهم إلى الرفات والرمم، فقال: أَفَعَيِينَا أي: أفعجزنا وضعفت قدرتنا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ؟ ليس الأمر كذلك، فلم نعجز ونعي عن ذلك، وليسوا في شك من ذلك، وإنما هم في لبس من خلق جديد، هذا الذي شكوا فيه، والتبس عليهم أمره، مع أنه لا محل للبس فيه، لأن الإعادة أهون من الابتداء كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

أما بعد: قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ.

يخبر تعالى أنه المتفرد بخلق جنس الإنسان، ذكورهم وإناثهم، وأنه يعلم أحواله وما يسره ويوسوس في صدره، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد الذي هو أقرب شيء إلى الإنسان، وهو العرق المكتنف لثغرة النحر، وهذا مما يدعو الإنسان إلى مراقبة خالقه، المطلع على ضميره وباطنه، القريب منه في جميع أحواله، فيستحي منه أن يراه، حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره، وكذلك ينبغي له أن يجعل الملائكة الكرام الكاتبين منه على بال، فيجلهم ويوقرهم، ويحذر أن يفعل أو يقول ما يكتب عنه مما لا يرضي رب العالمين، ولهذا قال: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ أي: يتلقيان عن العبد أعماله كلها، واحد عَنِ الْيَمِينِ يكتب الحسنات و الآخر عن الشِّمَالِ يكتب السيئات، وكل منهما قَعِيدٌ بذلك متهيئ لعمله الذي أعد له، ملازم له. مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ خير أو شر إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أي: مراقب له، حاضر لحاله، كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ.

وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.

أي: وَجَاءَتْ هذا الغافل المكذب بآيات الله سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ الذي لا مرد له ولا مناص، ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي: تتأخر وتنكص عنه. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي: اليوم الذي يلحق الظالمين ما أوعدهم الله به من العقاب، والمؤمنين ما وعدهم به من الثواب. وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ يسوقها إلى موقف القيامة، فلا يمكنها أن تتأخر عنه، وَشَهِيدٌ يشهد عليها بأعمالها، خيرها وشرها، وهذا يدل على اعتناء الله بالعباد، وحفظه لأعمالهم، ومجازاته لهم بالعدل، فهذا الأمر، مما يجب أن يجعله العبد منه على بال، ولكن أكثر الناس غافلون، ولهذا قال: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا أي: يقال للمعرض المكذب يوم القيامة هذا الكلام توبيخًا ولومًا وتعنيفًا، أي: لقد كنت مكذبًا بهذا، تاركًا للعمل له، فالآن كَشَفنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ الذي غطى قلبك، فكثر نومك، واستمر إعراضك، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ينظر ما يزعجه ويروعه، من أنواع العذاب والنكال. أو هذا خطاب من الله للعبد، فإنه في الدنيا في غفلة عما خلق له، ولكنه يوم القيامة، ينتبه ويزول عنه وسنه، ولكنه في وقت لا يمكنه أن يتدارك الفارط، ولا يستدرك الفائت، وهذا كله تخويف من الله للعباد وترهيب بذكر ما يكون على المكذبين في ذلك اليوم العظيم.

وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.

يقول تعالى: وَقَالَ قَرِينُهُ أي: قرين هذا المكذب المعرض من الملائكة الذين وكلهم الله على حفظه، وحفظ أعماله، فيحضره يوم القيامة ويحضر أعماله، ويقول: هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ أي: قد أحضرت ما جعلت عليه من حفظه وحفظ عمله فيجازى بعمله. ويقال لمن استحق النار: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ أي: كثير الكفر والعناد لآيات الله، المكثر من المعاصي، المجترئ على المحارم والمآثم. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي: يمنع الخير الذي عنده الذي أعظمه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، مناع لنفع ماله وبدنه، مُعْتَدٍ على عباد الله، وعلى حدوده، مُرِيبٍ أي: شاك في وعد الله ووعيده، فلا إيمان ولا إحسان، ولكن وصفه الكفر والعدوان، والشك والريب والشح، واتخاذ الآلهة من دون الرحمن، ولهذا قال: الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ أي: عبد معه غيره، ممن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، فَأَلْقِيَاهُ أيها الملكان القرينان فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ الذي هو معظمها وأشدها وأشنعها.

قَالَ قَرِينُهُ الشيطان متبرئًا منه حاملًا عليه إثمه: رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ لأني لم يكن لي عليه سلطان، ولا حجة ولا برهان، ولكن كان في الضلال البعيد، فهو الذي ضل وأبعد عن الحق باختياره، كما قال في الآية الأخرى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ الآية.

قال الله تعالى مجيبًا لاختصامهم: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي: لا فائدة في اختصامكم عندي، و الحال أني قد قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أي: جاءتكم رسلي بالآيات البينات والحجج الواضحات والبراهين الساطعات، فقامت عليكم حجتي، وانقطعت حجتكم، وقدمتم علي بما أسلفتم من الأعمال التي وجب جزاؤها.

مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي: لا يمكن أن يخلف ما قاله الله وأخبر به، لأنه لا أصدق من الله قيلًا، ولا أصدق حديثًا. وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ بل أجزيهم بما عملوا من خير وشر، فلا يزاد في سيئاتهم، ولا ينقص من حسناتهم.

هذا ما تيسر لنا إيراده ونكمل باقي تفسير السورة في خطبة أخرى إن شاء لله تعالى.

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً