عباد الله، سنتحدث اليوم عن عبادة غفل عنها الكثير من الناس، وهو سلاح نجى الله به نوحًا عليه السلام فأغرق قومه بالطوفان, ونجى الله به موسى عليه السلام من الطاغية فرعون, نجى الله به صالحًا, وأهلك ثمود, وأذل عادًا، وأظهر هودا عليه السلام, وأعز محمدًا في مواطن كثيرة. وهو سلاح حارب به رسول الله وأصحابه أعتى قوتين في ذلك الوقت: الفرس والروم, فانقلبوا صاغرين مبهورين، كيف استطاع أولئك العرب العزَّل أن يتفوقوا عليهم وهم من هم في القوة والمنعة؟! ولا يزال ذلكم السلاح هو سيف الصالحين المخبتين مع تعاقب الأزمان وتغير الأحوال.
تلكم العبادة وذلك السلاح هو الدعاء، والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله ويرفعه أو يخففه. وأمرٌ هذا شأنه حريٌ بالمسلم أن يتعرف على فضائله وآدابه.
فللدعاء فضائل لا تحصى وثمرات لا تعد، ويكفي أنه نوع من أنواع العبادة، بل هو العبادة كلها كما أخبر النبي بقوله: ((الدعاء هو العبادة)). وترك الدعاء استكبار عن عبادة الله كما قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]. وهو دليل على التوكل على الله، وذلك لأن الداعي حال دعائه مستعين بالله، مفوض أمره إليه وحده دون سواه. كما أنه طاعة لله عز وجل واستجابة لأمره. وهو سلاح قوي يستخدمه المسلم في جلب الخير ودفع الضر، وهو سلاح استخدمه الأنبياء في أصعب المواقف. والدعاء سبب لدفع غضب الله تعالى لقول النبي : ((من لم يسأل الله يغضب عليه)) رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني.
عباد الله، اعلموا أن للدعاء آدابا كثيرة يحسن توافرها؛ ليكون عونًا بعد الله على إجابة الداعي، ومن هذه الآداب وأعظمها توحيد الله في الدعاء، فلا يجوز أن ندعو غير الله، فالدعاء عبادة، والعبادة لا يجوز أن تصرف إلا لمستحقها سبحانه وتعالى وحده.
ومن آداب الدعاء افتتاح الدعاء بحمد الله تعالى والثناء عليه، والصلاة على النبي، والاعتراف بالذنب والإقرار به، والإلحاح في الدعاء والعزم في المسألة.
ومن آداب الدعاء الوضوء واستقبال القبلة ورفع الأيدي حال الدعاء وخفض الصوت والإسرار بالدعاء وعدم تكلف السجع.
عباد الله، وعلى الداعي تجنب الدعاء على النفس والأهل والمال لقول النبي : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم)) رواه مسلم.
ومن آداب الدعاء أن يكون الداعي موقنًا من قلبه بإجابة الله لدعائه، وأن يخلص في الدعاء، وأن لا يدعو بحرام أو قطيعة رحم أو ما شابه ذلك من الأمور الممنوعة شرعًا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: ((لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ))، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: ((يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي؛ فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ)) أخرجه مسلم والترمذي وأحمد.
وعلى الداعي -يا عباد الله- أن يكرر الدعاء ثلاثًا أو أكثر رغبة في الإجابة؛ لأن هذا هو فعل النبي ، فالأفضل لمن دعا أن يدعو ثلاثًا، اقتداءً بهدي النبي . وورد أن النبي يوم بدر دعا أكثر من ثلاث، وألح على الله في الدعاء.
ويبدأ الداعي بنفسه، ثم يدعو لغيره، وهذه نقطة مهمة يغفل عنها كثير من المسلمين، وأن يختم الدعاء بـ(آمين).
أيها المؤمنون، وعلى الداعي تحري مواطن إجابة الدعاء، ومنها ليلة القدر وجوف الليل الآخر ووقت السحر ودبر الصلوات المكتوبة، فينبغي على المسلم بعد التشهد الأخير والفراغ من التحيات، ينبغي أن يتخير من الدعاء أعظمه وأفضله، مما فيه خير الدنيا والآخرة.
ومن مواطن الدعاء بين الأذان والإقامة وعند نزول الغيث وساعة يوم الجمعة، واختلف أهل العلم في أي ساعة تكون الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة إلى أقوال عديدة، ورجح ابن القيم رحمه الله تعالى قولين: الأول: بعد صعود الإمام المنبر إلى أن تقضى الصلاة، والثانية: آخر ساعة بعد العصر، وما عليه المحققون أنها الثانية، والعلم عند الله تعالى.
ومن مواطن إجابة الدعاء أثناء السجود في الصلاة وعند سماع صياح الديكة وعند الاستيقاظ من النوم ليلًا ودعاء الناس عقب وفاة الميت.
ومن مواطن إجابة الدعاء دعاء الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى. سَمِعَ النَّبِيُّ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ: ((قَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|