إخوة الإيمان والعقيدة، لقد وقف المشركون أمام بيت رسول الله يريدون قتله، فجاءه الوحي بذلك: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، ورسولنا محفوظ بحفظ الله ورعايته، ولذا خاطبه خالقه بقوله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، فعصمه الله من المشركين، وخرج من بين صفوفهم، وحثا على وجوههم التراب وهو يتلو قوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. ولما خرج رسول الله هب كفار مكة مذعورين يطلبونه في كل مكان، وبعثوا القافة ومن يعرفون الطرق، ورصدوا مائة ناقة لمن يأتيهم بخبره حيًا أو ميتًا، لكن أمر الله نافذ، وتتابع أصحاب رسول الله ينتقلون من مكة إلى المدينة لحوقًا برسولهم الذي يفدونه بأنفسهم وأموالهم.
عباد الله، لقد كانت هجرة محمد وأصحابه بسبب الفتنة العظيمة التي تعرض لها المسلمون والاستضعاف الذي لحق بهم من الكفار خلال ثلاثة عشر عامًا، وانتظر رسول الله الإذن من ربه له باللحوق بأصحابه حتى جاءه الأمر، فهاجر والتجأ هو وصاحبه أبو بكر إلى الغار، وحينما شعر أبو بكر بدنو الباحثين عنهم قال لرسول الله هامسًا: لو نظر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا، فأجابه الرسول بيقين وثبات: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!))، ونزل الوحي: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
وانطلق النبي المعصوم هو وصاحبه أبو بكر يقطعان بطون تهامة في ليل دامس وقيظ محرق تتلظى له رمال الصحراء، لا يعبآن بآلام السفر وعنائه، ولا يكترثا بالمشاق والصعاب إذ يهون كل شيء من أجل الدين، وكان أهل المدينة يتحرقون شوقًا إلى مقدم الهادي الأمين بعد أن علموا بهجرته من مكة إليهم، كانوا يخرجون كل يوم من بعد صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس ويشتد الحر ثم يرجعون إلى بيوتهم.
ووصل الحبيب وصاحبه إلى قباء وأسس مسجدها الذي قال الله فيه: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. ولما وصل الرسول إلى المدينة أحاط به المسلمون من كل جانب في موكب بهيج يشعر بالعزة، القلوب ممتلئة بشرًا، والسيوف متقلدة، والأرواح متوثبة يعلنون أنهم يفدون رسول الله بأنفسهم وأولادهم وأموالهم.
عباد الله، قد بدأ رسولنا بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فلم يشعر المهاجر الذي ترك بلده وأهله وماله بالغربة لأنه وجد الأهل والبلد والمال من إخوانه الأنصار، وقد أثنى الله على الأنصار في موقفهم الرائد الذي أصبح مضرب المثل: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.
وقد تنادى الصحابة في مكة للهجرة وتركوا كل شيء من أجل الدين والدعوة حتى كان من صهيب رضي الله عنه ما كان حين قال لكفار مكة: أرأيتم إن تركت لكم كل مالي أتتركوني؟ قالوا: نعم، فأعطاهم كل شيء، ولذا قال فيه الرسول : ((ربح صهيب، ربح صهيب))، ونزل فيه: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ. وهكذا انتقل ميدان الدعوة من مكة إلى المدينة في أرض خصبة قابلة للعطاء والنماء.
لقد كانت الهجرة انطلاقًا إلى حياة أرحب وفيها تمكين لمبادئ الحق والعدل والسلام، تجلت فيها صور التضحية والبذل والفداء، وصور التلاحم والإخاء، وصور الإيثار والمودة، وفيها صور الإخلاص والصدق والوفاء، وتجلى في الهجرة حفظ الله جل وعلا لأوليائه مهما كان ليل أهل الباطل طويلًا.
لقد اشتعلت في الهجرة الروحانيات على الماديات، لقد كان فيها الجود في أعلى مظاهره، ترك المهاجرون وطنهم مع ما للوطن من المكانة في النفس لكن من أجل الدين يهون كل شيء، وترك الأنصار أموالهم لإخوانهم المهاجرين، والمال عديل الروح، لكن من أجل الدين هان عندهم كل شيء.
عباد الله، هذه نماذج من دروس الهجرة فهل يعي شباب اليوم ما قدمه الرسول وأصحابه من تضحيات من أجل الدين؟! هل يعي شباب اليوم ما للوحدة من أثر في رد كيد كل متربص غادر؟! هل يعي شباب اليوم ما تتطلبه المرحلة الحاضرة والقادمة من رص للصفوف وتوحد مع ولاة الأمر لصد عدوان كل متربص ببلادنا شرًا؟! هل يعي شباب اليوم أن الذين شوهوا صورة الدين وفجروا أنفسهم ودمروا اقتصاد بلادهم وقتلوا رجال الأمن أن ذلك كله يخدم الأعداء ويسهل لهم النيل من الإسلام والمسلمين؟! اللهم وفق شبابنا لكل خير، وخذ بأيديهم لما فيه عز دينهم وسلامة بلادهم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|