أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله فإنّ تقواه أفضل مُكتَسَب، وطاعتَه أعلى نسب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيّها المسلمون، المنايا لزِمَت البرايا، فلا خُلْدَ في الدنيا يُرتَجى، ولا بقاءَ فيها يُؤمَّل، وما النّاسُ إلا راحلٌ وابنُ راحلِ، وما الدهرُ إلا مَرُّ يومٍ وليلةٍ، وما الموتُ إلا نازلٌ وقريبُ، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 26، 27]، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88]، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران: 185].
مــا أسرعَ الأيـــامَ في طيِّنــا تمضي علينا ثم تمضِي بنا
في كـــلِّ يـــومٍ أملٌ قد نأى مَرامُهُ عن أجلٍ قد دنـــــا
الأملُ طويل، والثَّوَاءُ قليل، ورَحى المنونِ تدور، آجالٌ إلى زوال، وآمالٌ إلى اضمِحلال، عامٌ يُبلي عامًا، وأيامٌ تطوِي أيامًا.
سبيـلُ الخلق كلِّهمُ الفنــاءُ فما أحدٌ يدوم له البقاءُ
يُقرِّبُنا الصّباحُ إلى المنـايــــا ويُدنينـــا إليهـــــنَّ المســـاءُ
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 11]، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49].
فطُوبى لعبدٍ أحسَن الرحلةَ بأحسنَ ما يحضُرُه من النُّقْلة، بينا ابنِ آدم في الدنيا يُنافِس قد قرَّت عينُه بماله وجاهِه إذ دعاه الله بقَدَره، ورماه بيوم حتْفِه، فسَلَبَه آثاره ودنياه، وصيَّر لقومٍ آخرين مصانعه ومغناه.
أيــــن من كان قبلنا أين أينَــا من أُناسٍ كانوا جمالاً وزَيْنَا
إنّ دهرًا أتــى عليهــــم فأفنَى عددًا منهمُ سيـــــأتي علينـــا
كم رأينا من مَيتٍ كان حيًّا ووَشيكًا يُرى بنا ما رأينَـــــا
مــا لنــــا نأمنُ المنايـــــا كأنَّـــــــا لا نَراهـــــــنَّ يهتديــــنَ إلينـــا
يا من لعِبَ ولهَا، يا من غفلَ وسهَا، يا من نظَر في عاجلِهِ ونسي المنتهى، أفِق مِن خمرة الشهوات، وبادِر إلى التوبة قبل الفَوَات.
ولا يذهبنَّ العُمــــر منــــــك سبَهْلَــــــلاً ولا تُغبَنَــــــنْ بالنِّعمتَيْــــــنِ بـــــلِ اجهِـــدِ
فمــن هجَرَ اللَّذَّات نـــالَ المَنَى ومَنْ أكبَّ على اللَّذَّات عضَّ على اليَدِ
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما ندِمتُ على شيءٍ ندَمِي على يومٍ غرَبَت شمسُهُ نقَصَ فيه عُمري ولم يَزِد فيه عمَلِي)، وقال بعض السلف: "من أمضى يومًا من عمره في غير حقٍّ قضاه أو فرضٍ أدَّاه أو مجدٍ أثَّلَه أو حمدٍ حصَّلَه أو خيرٍ أسَّسَه أو علمٍ اقتَبَسَه فقد عقَّ يومَه وظلمَ نفسَه".
أيّها المسلمون، قصِّروا الأمل، وأصلِحوا العمل، وحاذِروا بغتَةَ الأجل، وليكن عامُكم الجديد مُشرِقًا بصِدق التوبة وحسنِ الإنابة وردِّ الحقوق إلى أهلها والتحلُّل من أصحابها، كلُّ بني آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوابون، والتائبُ من الذنب كمن لا ذنب له.
جعلني الله وإيّاكم ممن صدَقَ وتاب، ورَجع وثاب، وأقلَعَ وأناب.
أقول ما تسمَعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، فقد فاز المُستغفرون، وسعِدَ الآيِبون.
|