أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فحياة الإنسان مراحل يسيرها، وهو في أثناء ذلك مستعد للرحيل وراحل، فالحازم من حاسب نفسه يوما بيوم وساعة بساعة، فهنيئا لمن أحسن واستقام، والويل لمن أساء وارتكب الآثام، ويتوب الله على من تاب، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ.
أيها المسلمون، ها أنتم في بداية عام جديد، وقد ودعتم عاما قبله، وعامكم الذي ودعتم جرت فيه أحداث، وتجلّت فيه آيات لمن تأمل فيها وتفكر. يذكر علماء الرصد والإحصائيون عن تكاثر المتغيرات الكونية على هذه الأرض وتتابع الحوادث والكوارث في هذا العصر حتى قالوا: إن الزلازل في السنوات الأربع الماضية أكثر مها أربع مرات مما لم يحصل مثله طوال عشرين سنة في القرن الماضي، ويقولون: إنها كلما تقدم الزمان زاد عدد الزلازل والكوارث بشكل كبير.
أيها الإخوة المؤمنون، إن المتأمل والناظر بعين يقظة إلى هذه الآيات والحوادث والكوارث يجدها ما بين موج عات وماء طاغ وسيول جارفة وخسف مهلك وزلزال مدمر أو وباء مميت منتشر، يرسل الله الجراد والقمل والضفادع والدم والطيور بأمراضها والأعاصير برياحها والفيضانات بمائها في آيات مفصلات، أمراض مستعصية وأوبئة منتشرة تحملها طيور وتنقلها حيوانات، لا يملك أحد صدها، ولا يستطيع أحد ردها ولا السيطرة عليها مهما أوتي من علم في مكتشفاته ومختبراته، لا يملك السيطرة عليها ولا الحد من انتشارها ولا دفعها إلا الله، إنها جنود من جند الله في البر والبحر والجو، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ، فالكون كله بإنسه وجنه وأرضه وسمائه وبره وبحره ما علمنا منه وما لم نعلم كلها مسخرة بأمره تعالى، يمسك ما يشاء عمن يشاء، ويرسل ما يشاء إلى من يشاء، وكيف لا تدرك عظمة الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه ومن جنوده من يهلك أمما ويدمر ديارا في ثوان، ومنها ما ينتقل عبر الماء، ومنها ما يطير في الهواء، ومنها ما يرى، ومنها ما لا يرى، نذر وآيات وعقوبات وتخويفات لا تطيقها الطاقات ولا القدرات، أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ.
عباد الله، إنها آيات الله وأيامه تظهر فيها عظمة ذي الجلال وقدرته وأمره وتدبيره. إن هذه الحوادث والقوارع توقظ قلوبا غافلة لتراجع دينها وتوحيدها، ويفيق بعض من غرتهم قوتهم، فيتذكرون أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة، وبخاصة أولئك المستكبرون ممن غرتهم قوتهم وطال عليهم الأمد وفرحوا بما عندهم من العلم، ولقد ذكر الله لنا في كتابه الكريم صورا كثيرة لهؤلاء المستكبرين الكافرين؛ لعلنا نعتبر ونتفكر في كل هذه الأحداث المذكورة في قرآننا العظيم، ومن ذلك قوله تعالى: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ، وقال في آخرين: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.
أحبتي في الله، كم من الناس يرى من حوله من يتخطفون ويقتلون، ويقرأ آيات الله، لكنه لا يعتبر؛ لأنه في غفلة كبرى، لا يستيقظ منها إلا إذا وقع القول وقدر الله، فحينئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمن من قبل، فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، ولا تكونوا كالذين قست قلوبهم وغلظت أكبادهم، فلا تعتبر ولا تتذكر. إن من تأمل أحوال بعض الناس يرى أمورا مخيفة، فيهم جرأة على حرمات الله شديدة وانتهاكات عظيمة، فالحذر الحذر من مكر الله، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ، قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
|