أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
معاشر المسلمين، إن جيل الصحابة رضوان الله عليهم خير جيل ظهر على وجه الأرض، هم الذين وضعوا أنفسهم بين يدي رسول الله لكي يعلمهم ويوجههم ويصوغهم، فتلقوا تلكم التربية النبوية الكريمة، حتى خلت نفوسُهم من حظ نفوسِهم.
ومن بين الصحب الكرام صحابي جليل أحبه الله، وأحبه رسول الله ، هو الإمام إذا عُد الأئمة، وهو البطل إذا عُدّ الأبطال، هو الشجاع المِقدام والبطل الهُمام، هو الشهيد الذي قُتِل غدرًا، ولو أراد قاتله قتله مواجهة ما استطاع، ولكن عادة الجبناء الطعن في الظهر. فمن هو -يا ترى- صاحب هذه الصفات؟
إنه أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، ابن عمّ رسول الله ، وأخوه بالمؤاخاة، أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم.
ولد الإمام علي قبل البعثة بعشر سنين، وتربى في حجر النبيّ وفي بيته، أول من أسلم بعد خديجة وهو صغير. كان الإمام علي يلقب حيدرة، وكنّاه النبيّ أبا تراب. أحد العشرة المبشرين بالجنة، زوجه النبي ابنته فاطمة الزهراء، وهو أبو السبطين الحسن والحسين سيدَي شباب أهل الجنة. وهو من الخلفاء الراشدين المهديين. اجتمع لعلي من الفضائل الجمّة ما لم يجتمع لغيره، فمن ذلك ما روي عنه رضي الله عنه قوله عن نفسه:
محمـــــد النبي أخـــي وصهـــري وحمزة سيد الشهداء عمـــي
وجعفر الذي يمسي ويضحى يطير مع الملائكـــة ابن أمـــي
وبنت محمد سكني وعرســـي مشوب لحمها بدمي ولحمي
وسبطـــــــا أحمد ولداي منهـــا فأيكم له سهم كسهمي؟!
فرضي الله عنه وأرضاه وعن آله الطيبين الطاهرين.
ولمّا هاجر النبيّ من مكة إلى المدينة أمر الإمام عليًّا أن يبيت على فراشه، وأجله ثلاثة أيام ليؤدي الأمانات التي كانت عند النبيّ إلى أصحابها ثم يلحق به إلى المدينة، فهاجر الإمام علي من مكة إلى المدينة المنورة ماشيًا.
شهد الإمام علي المشاهد كلها مع النبيّ إلا غزوة تبوك حيث استخلفه الرسول في أهله وقال له: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟)) وأعطاه النبي اللواء يوم خيبر ففتحها، واقتلع باب الحصن.
فضائله جمّة لا تُحصى، ومناقبه كثيرة لا تعد، كان الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه غزير العلم، زاهدًا ورعًا شجاعًا، وقد ورد عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: "لم ينقل لأحد من الصحابة من الفضائل ما نقل لعلي رضي الله عنه".
جمع إلى جانب مهارته في القضاء والفتوى العلم بكتاب الله والفهم لمعانيه ومقاصده، فكان من أعلم الصحابة رضي الله عنهم بأسباب نزول القرآن ومعرفة تأويله؛ يشهد لهذا ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (ما أخذتُ من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب). فإذا كان هذا شأن ابن عباس رضي الله عنه وهو ترجمان القرآن فكيف والحال كذلك بمن أخذ عنه؟!
روى الإمام مسلم في فضائل علي رضي الله عنه قوله رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة وبرأ النَّسَمَة، إنه لعهد النبي الأمي إليّ أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق). وقال عنه : ((من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه)).
دعاه الرسول وزوجته فاطمة وابنيه الحسن والحسين وجلَّلهم بكساء وقال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرْهُم تطهيرًا)) وذلك عندما نزلت الآية الكريمة: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ.
ولقد كانت أخلاقه رضي الله عنه قبسًا من نور خلق النبي الذي تربى في حجره وعاش على مائدة مكارم النبوة، حتى شب عن الطوق، واكتملت رجولته، وزاد من ذلك مصاهرته للنبي ، حيث كان يتولاه وفاطمة الزهراء بالمواعظ والآداب العظيمة، فتنامت أخلاقه شموخًا، وسجاياه علوًا ورفعة، وظلت فضائله وأخلاقه ومكارمه حية متألقة في روحه حتى فارق الدنيا، ولقد أجاد ضرار بن ضمرة الكناني في وصف تلك الأخلاق الباهرة والمكارم النادرة، وأبان عن جوهرها ومكنوناتها عندما سأله معاوية أن يصف عليًا رضي الله عنهما، فقال ضرار: (كان –والله- بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، ويتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان –والله- غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان –والله- كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، يميل في محرابه، قابضًا على لحيته، يضطرب ويتقلب تقلب الملسوع، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه ثم يقول للدنيا: إلي تعرضت؟! إلي تشوفت؟! هيهات هيهات غُرّي غَيري، قد طلقتك ثلاثًا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آهٍ آهٍ من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق)، فوكفت دموع معاوية رضي الله عنه على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء وهو يقول: هكذا والله كان أبو الحسن.
أيها المسلمون، اشتهر الإمام عليّ رضي الله عنه بالفروسية والشجاعة والإقدام، وكان اللواء بيد علي رضي الله عنه في أكثر المشاهد، في غزوة خيبر قال الرسول : ((لأُعْطينّ الرايةَ غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويُحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه أو على يديه))، فكان رضي الله عنه هو المُعْطَى وفُتِحَت على يديه.
بارز عليٌّ رضي الله عنه شيبة بن ربيعة فقتله عليّ رضي الله عنه، وذلك يوم بدر. وكان أبو ذر رضي الله عنه يُقسم قسمًا إن هذه الآية: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.
وفي اُحد قام طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين فقال: يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النار؟! فقام إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار، أو يعجلني بسيفك إلى الجنة، فضربه عليّ فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته فقال: أنشدك الله والرحم يا ابن عمّ، فكبر رسول الله ، وكبر المسلمون بتكبيره، وقال أصحاب عليّ لعلي: ما منعك أن تُجهز عليه؟ قال: إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته، فاستحييت منه.
وبارز مَرْحَبًا اليهودي يوم خيبر، فخرج مرحب يخطر بسيفه فقال:
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة كليث غابات كريه المنظرة
أوفيهم بالصاع كيل السندرة
ففلق رأس مرحب بالسيف، وكان الفتح على يديه.
ومما يدلّ على شجاعته رضي الله عنه أنه نام مكان النبي لما أراد رسول الله الهجرة. ومع شجاعته هذه فهو القائل: (كُنا إذا احمرّ البأس، ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله ، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه). فما أحد أشجع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
عباد الله، لما توفي رسول الله بايع علي أبا بكر الصديق رضي الله عنهما، فكان أحد وزرائه ومستشاريه، وظل طيلة حياة أبي بكر نعم العون والوزير، يساهم في إدارة الدولة وتصريف الشؤون بصدق وإخلاص، وكذلك كان مع عمر، فقد كان له وزير صدق، حتى زوجه بنته أم كلثوم. وكثيرا ما كان عمر يستخلفه على المدينة إذا غاب عنها, وكان في عهد عمر من كبار رجال الدولة الذين تعقد عليهم الآمال، حتى جعله عمر من الستة الذين يختار منهم الخليفة من بعده, ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: (لولا علي لهلك عمر)، ويروى عنه كذلك أنه قال: (أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن).
ولما استخلف عثمان بايعه فيمن بايع من جمهور الصحابة، والتزم نصحه ومؤازرته، وكان موقفه منه حين ثارت الفتنة موقف الناصح والمدافع عنه. ولما أطبق الثوار على قصر الخليفة الشهيد أرسل ولديه الحسن والحسين بسيفيهما، حتى نفذ قضاء الله.
بويع بالخلافة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وكانت أيامه فيها فتن ومعارك دامية، ومع هذه الفتن التي أحاطت بخلافته فقد كان رضي الله عنه شديدا في الحق، مقيما للعدل، خاشعا لله، مجتهدا في نصح الأمة، يولي الأخيار، ويحاسب المقصرين، ولا يجامل في الحق أبدا، ولا يخاف في الله لومة لائم، زاهدا في الدنيا، بعيدا عن الترف، وكما كانت حياته جهادا فقد كان موته استشهادا رضي الله عنه، حيث طعنه الشقي عبد الرحمن بن ملجم الخارجي وهو يصلي الفجر في مسجد الكوفة، فكان استشهاده في شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة.
فرضي الله عن أمير المؤمنين الإمام الشهيد علي بن أبي طالب وأرضاه، وارض اللهم عن جميع الآل والأصحاب، وجمعنا الله بهم في دار كرامته وبحبوحة جنته، إنه على كل شيء قدير.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|