.

اليوم م الموافق ‏16/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

التحذير من شهوات الغي ومضلات الفتن

6272

الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد

البدع والمحدثات, الكبائر والمعاصي

علي بن عبد الرحمن الحذيفي

المدينة المنورة

14/11/1431

المسجد النبوي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- آثار الفرقة والاختلاف. 2- مفاسد البدع والمعاصي. 3- حقيقة البدعة والمبتدع. 4- إنكار الصحابة للبدع. 5- تحذير الله تعالى من الابتداع في الدين. 6- أحاديث في ذم البدع. 7- التحذير من الشهوات المحرمة. 8- العصمة من فتن الشبهات والشهوات. 9- أهمية الإخلاص ومتابعة النبي .

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، فقد جمع الله عزّ وجلّ الخير كلَّه في طاعته، وجمع الشر كلَّه في معصيته.

عبادَ الله، خُذوا أنفسَكم بحقائق الدّين الإسلاميّ، وألزِموا أنفسَكم بكتاب ربِّكم وسنّةِ نبيِّكم محمّد ، وتمسَّكوا بالهدي النبويِّ العظيم، فأنتم ترَونَ كَثرةَ المسلمين في هذا الزمانِ زادَهم الله كثرةً وصَلاحًا، ولكن مع هذه الكَثرةِ فرَّقتهم البدعُ والأهواء، وأضعَفَهم الاختِلاف، وضعُفَت القلوبُ بإيثارِ الدنيا على الآخرة ومقارفة الشهوات، إلا من حفِظ الله.

ألا وإنَّ الدين يهدِمُه ويُضعِفُه في القلوب البدعُ المُضِلَّة والشهوات المُحرَّمة، فأمّا البدعُ فهي الداء العُضَال والسُّمُّ القتَّال، تُعمِي وتُصِمّ، وتُهلِكُ صاحبَها، وتضرّ الدين والدنيا. "والبدع هي ما أُحدِث في الدين مما لا أصلَ له في الشريعة يدلّ عليه"، قاله أهل العلم.

ويُعرفُ المبتدع بمخالفته لجماعة المسلمين وإمامهم وأهلِ العلم بالقرآن والسنة، وأما من انتسب للعلم وهو مُعرِضٌ عن كتابِ الله وسنّة رسوله جاهلٌ بذلك فليس من ذوِي العلم، وإنما هو داعيةٌ إلى ضَلالٍ وفِتنة.

وأوّلُ البدع في الإسلام بدعة الخوارج، ثم ظهرت بقية البدع بعد ذلك. وحاربَ الصحابةُ رَضي الله عنهم البِدَعَ التي ظهرت في زمانهم، ورَدُّوها وأطفؤوها، وبيَّنوا للناس سنّةَ رسول الله والهديَ والحقَّ بالكتاب والسنّة، فكشف الله بهم الغُمَّة، وقمَع بهم البِدَع، وقام بالأمانَة بعدَهم التابعون وتابعوهم بإحسانٍ إلى آخِرِ الدهر.

والله حافظٌ دينَه وناصرٌ كلمتَه، قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]، وقال تعالى: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 40].

وقَد حذَّرنا الله عز وجلّ من البدع، وبيَّن لنا عواقبها الوخيمةَ في الدين والدّنيا والآخرة، فقال تبارك وتعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران: 105، 106]، وهذه الآية في أهلِ البِدَع التي فرَّقَت بين الأمّة. قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: يعني: يوم القيامة حين تبيضُّ وجوهُ أهل السنة والجماعة، وتسودُّ وجوهُ أهل البدعة والفُرقة، قاله ابن عباس رضي الله عنهما". وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (عليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة).

وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: إنَّ رسول الله قال: ((إنَّ أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملَّة، وإنَّ هذه الأمةَ ستفترقُ على ثلاثٍ وسبعين ملَّة -يعني: الأهواء-، كلُّها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وإنه سيَخرج في أمّتي أقوامٌ تتجَارَى بهم الأهواءُ كما يتَجَارى الكَلَبُ بصاحبِه، لا يبقى عِرْقٌ ولا مِفصَلٌ إلا دخَلَه)) رواه أحمد وأبو داود والحاكم في المستدرك. والكَلَب: داءٌ يعرِضُ للإنسان من عَضَّة الكَلب تتغيَّر به طِباع الإنسان وعقله، وتزداد حالته سوءًا كل يوم حتى يهلِك.

وعن أبي بَرزةَ رضي الله عنه عن النبيِّ قال: ((إنّ مما أخشى عليكم شهوات الغَيّ في بطونكم وفُرُوجكم ومُضِلاَّت الهوى)) رواه أحمد بإسنادٍ صحيح، وعن العرباض بن ساريَةَ رضي الله عنه قال: وعَظَنا رسول الله موعِظةً وجِلَت منها القلوب وذَرَفَت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظةُ مودِّعٍ فأوصِنا، قال: ((أُوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبدٌ؛ فإنه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمور، فإن كلَّ بدعةٍ ضلالة)) رواه الترمذي وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيح"، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إنكم قد أصبحتم اليومَ على الفطرة، وإنكم ستُحدِثون ويُحدَثُ لكم، فإذا رأيتم مُحدَثةً فعليكم بالهدي الأول) رواه محمد بن نصر المروزي بإسنادٍ صحيح، وعن أنس رضي الله عنه قال: (إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدقُّ من الشعر، كنّا نراها من العظائم في عهد رسول الله ) رواه البخاري.

فالبدعُ تهدِم الدين، وتُفسِد ذاتَ البَيْن، وتُوجِبُ غضبَ الله عزّ وجلّ وأليمَ عقابه في الآخرة، وتعمُّ بها العقوبات في الدنيا، وتتنافر بسبَبِها القلوب، وتتضرَّر بها مَصالحُ الناس، وتُورثُ الذلَّ والهوان، ويتسلَّقُ بها أعداءُ الإسلام على المسلمين، كما قال النبيّ : ((وجُعِلَت الذِّلَّة والصَّغار على من خالَفَ أمري)).

وأمّا الشهوات المحرّمَة فتضرُّ دينَ المسلم؛ من حيث إنها تُفسِد قلبه وتُقسِّيه، وتُورِث الغبرةَ الضارّة، وإذا تمادَى فيها الإنسان واسترسَل رانَت على القَلبِ، فطُبِع عليه، وأعمَت البصيرةَ، فأحبَّ الإنسان ما أبغَضَ الله، وأبغَضَ ما أحبَّ الله، وجرَّت عليه المعاصي والخُسران والحِرمان والعقوباتِ المتنوِّعة، وما يُلاقيه في الآخرةِ منها أدهَى وأمرّ، وأَصابَت المجتمَعَ كلَّه إذا ظَهَرَت بأنواعِ العقوبات وأنواعِ الأضرار كلِّها. والمسلمُ يتحكَّم في نفسه، ويقودُها بزِمام التقوى إلى كلِّ عملٍ صالحٍ رشيد، وكلِّ نافعٍ مفيد، حتى لا يَرتعَ في المعاصي، فإذا كان ذَلك الإصرارُ والدَّوام على المعاصِي فإنَّ ذلك تستَعصِي معه النفس، ويصعُب قِيادُها، فتَقودُه إلى كلِّ شرٍّ وبلاء، فيقع في شرِّ جَزاء، قال الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59]. رُوِي عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا قال: (وادٍ في جهنم بعيدُ القعر خبيث الطعم).

وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنّه سمع النبيَّ قال: ((لَيكونَنَّ من أمّتي أقوامٌ يستحِلُّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف)) رواه البخاري. ومعنى قوله: ((يستحِلُّون الحِرَ)) أي: يستحِلُّون الفَرْج. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((صِنْفان من أهل النّار لم أرَهما: قومٌ معهم سِياطٌ كأذنابِ البَقَر يضرِبون بها الناس، ونساءٌ كاسياتُ عارياتٌ مُميلاتٌ مائِلاتٌ رُؤوسهنَّ كأسنِمَة البُخْت المائلة، لا يدخُلن الجنّة ولا يجِدن ريحها، وإن ريحها لَيُوجد من مسيرةِ كذا وكذا)) رواه مسلم. ومعنى قوله : ((كاسياتٌ عارياتٌ)) أي: عَلَيهنَّ الثياب ولكنّهن عاريات؛ بمعنى: أنهن يُظهِرن ما حرَّم الله إظهارَه من الذراعَيْن ومن الساقَين ونحو ذلك، ومن الوجه الذي يجب ستر هذه الأعضاء. ((مائلاتٌ)) أي: مائلاتٌ مُحبَّاتٌ للفجور، ((مُميلاتٌ)) لغيرهنّ إلى ذلك.

وعن عمرانَ بنِ حُصين رضي الله عنه أنَّ النبي قال: ((في هذه الأمة خسفٌ ومسخٌ وقذفٌ))، فقال رجل: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: ((إذا ظهرتِ القِيان والمعازِف وشُرِبَت الخمور)) رواه الترمذي، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يُبالي المرءُ بما أخَذَ المال أمِن حلالٍ أم من حرام)) رواه البخاري وأحمد.

فيا أيها المسلم، تفكَّر وتدبَّر، واحذَر دخولَ هذين البابَيْن: باب الفتن والمُبتَدَعات وباب الشهوات والمُحرَّمات، فهما اللّذان أضرَّا بالإسلام والمسلمين، ولا يَعصِم ويُنجِي من البدعِ والمُحرَّمات إلا العلم النافع والعملُ الصالح وخوف الله تعالى، فالجهل سببُ كلِّ شر، قال الله تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ [الأنعام: 119]، وقال عزّ وجلّ: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الأنعام: 116]، وقالَ تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام: 111]، وقال عزّ وجلّ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9].

والمسلمُ مأمورٌ بمعرفة دِينِ الإسلام بأدلَّتِه من الكتابِ والسنّة، قال تباركَ وتعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: 19]، وفي البخاري ذكره مُعلَّقًا: ((إنما العلم بالتعلُّم)). وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من يُرِد الله به خيرًا يُفقِّهه في الدين)) رواه البخاري ومسلم. وقال ابن رجب رحمه الله: "وما دام العلمُ باقيًا في الأرضِ فالناس في هدى، وبقاءُ العلم بقاء حَمَلَته، فإذا ذهَبَ حَمَلَته ومن يقومُ به وقَع الناس في الضلال" انتهى كلامه.

فالعصمة والنجاة من البدع المُحدَثة المُضِلَّة: الاعتصامُ بالكتاب والسنة، قال تبارك وتعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، وقال النبيُّ : ((فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي)). ويتفَاضَل الناس بهذا التمسُّك والاعتصام، ويعظُمُ نفعُ المسلِم ووَزنه عند ربِّه بهذا العمل الصالح ولزوم منهج النبيِّ وأصحابه.

وأمّا من انتسَب للإسلام مِن غيرِ تحقيقٍ لأعمالِه وعقيدتِه الصحيحة التي كان عليها السّلفُ الصالحُ فهم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْل، كما قال النبيُّ : ((يُوشِكُ أن تَداعَى عَلَيكم الأمَمُ كما يتَدَاعى الأكَلةُ إلى قصعتها))، قالوا: أمِن قلَّةٍ نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاء السَّيْل)).

أيّها المسلم، حاسِب نفسَك، وطبِّق تعاليمَ الإسلام على نفسك، واختَبر نفسَك في كلّ أمرٍ مِن أمور الله التي أمَرَ بها ومَناهي الله، هل طبَّقتَ ما جاء به كتابُ الله وما أمَرَ به رسولُ الله وما جاء عن الله في كتابه وسنّة رسوله لتفوز بوعدِ الله الحق لمن اتَّبع ولم يبتدع في قوله تبارك وتعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100].

والعصمةُ من البدع المُحدَثة أيضًا: فَهمُ القرآن والسنة على فَهمِ السلف الصالح رضي الله عنهم مِنَ الصحابة والتابعين لهم بإِحسان، فهم الذين رضِيَ الله عنهم في تفسِيرهم للقرآن الكريم والحديثِ الشّريف، ورضِيَ الله عنهم في عقيدتهم، وأثنى عليهم في ذلك، وأعمالهم وتطبيقُهم للإسلامِ مَرضِيٌّ عنه من ربِّ العالمين، ومَن خالفهم توعَّده الله بقوله: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115].

والعِصمَة من البدَع المُحدَثة أيضًا: لزومُ جماعة المسلمين وإمامهم بعدَم الخروج عن ذلك، لقولِه : ((فالزَموا جماعةَ المسلمين وإمامَهم)) رواه مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه.

والعصمة منَ البِدَع أيضًا: سؤال العلماء بالكتاب والسنّة في أمور الدين والأخذُ عنهم، قال الله عز وجل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43].

والعصمة من البدع أيضًا: سلامةُ الصدرِ من الغِشّ والبغي والغِلّ والحسَد للمسلِمين، لقوله : ((الدّين النصيحة)) ثلاثًا. رواه مسلم من حديث تميم الداريّ رضي الله عنه.

وأمّا ما يعصِم ويُنجي من الشهوات المحرّمة والمعاصي: فخوفُ الله وخشيته بأن يعلمَ العبدُ أن الله يراه، ويعلمُ سره وعلانيته، ويُحصِي على العبد أعمالَه في كتابٍ لا يُغادِر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وتَذَكُّر الموت الذي يشتدُّ معه الألم العظيم في كلِّ عِرق ومِفصَل، وتذكُّر القبر وما بعده من الأهوال الكِبار، والاعتبارُ بمن نالُوا اللذَّاتِ والشّهوات طولَ أعمارهم ثمّ حال الموت بينهم وبين ما يشتهون، فذهَبَت اللذَّاتُ، وبقِيَت الحسراتُ والتَّبِعات، قال الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 37-41]. وإذا أيقَنَ العبدُ بعظيم ثوابِ الله على تركِ المعاصي حذِرَها وأبغَضها، قال الله عز وجل: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46].

بسم الله الرحمن الرحيم، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].

بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله علاَّمِ الغيوب، فارج الهمِّ وكاشِفِ الغمِّ والكروب، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له غفَّار الذّنوب، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمَّدًا عبده ورسوله المبعوث بالهدى واليقين، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ تقواه، وتقرَّبوا إليه بما يُحبه ويرضاه، واحذروا معاصيه؛ فإنها مُرديةٌ للعبد في دنياه وأخراه.

أيّها المسلمون، حاسِبوا أنفسكم قبلَ أن تُحاسَبوا، وليعتَنِ المسلم وليهتَمّ بتحقيق النية الخالصة لله تعالى في أعماله الظاهرةِ والباطنَة، ولتكن أعماله كلُّها الظاهرة والباطنةُ على هديِ رسول الله ، مُطابقةً للسنّة النبويّة المحمدية. قال أهل العلم: "إن قول النبي : ((مَن عمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ)) هذا الحديث ميزانٌ للأعمال الظّاهرة وأصلٌ عظيمٌ من أصول الإسلام، وقوله : ((إنما الأعمال بالنيات)) ميزانٌ للأعمال الباطنة".

ولتكن عنايتُك -أيها المسلم- بالنية الصالحة قبل العمل أعظمَ من العمل، واجتهادُك في القيام بالعمَل وفقَ السنة أعظَم من الاستكثار من الأعمال.

وقد كان النبي يقول في خُطبه: ((إن خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد ، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة)) رواه مسلم. وقد كان يُكرِّره في مقامِه لوَعظه الأمّة، فهو بهذا يُؤسِّس ويُؤكِّد الأمرَ باتباع الهدي المحمديّ والتحذير من المخالفات المُبتَدَعة، قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]، وقال تبارك وتعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69].

أيّها المسلمون، إنَّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً