أمّا بعد: فأوصيكم -أيُّها الناس- ونفسي بتقوى الله سبحانه، والقربِ منه، والزُّلفى لديه، وجعل مواسمَ الخيرات مربحًا ومغنمًا، وأوقاتِ النفحات والبركات إلى رحمته طريقًا وسُلَّمًا، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 35].
أيها المسلمون، لقد تربَّصنا أحد عشر شهرًا بحلوِها ومرِّها وصَدَئها وصقالها وفرحها وترَحها. نعم عباد الله، لقد تربَّصنا تلكم الشهور بعجرها وبجرها؛ حتى تاقت النفوس واشرأبَّت إلى محطِّ رِحالٍ نُلقي فيه أحمالنا، ونمسَح ما على جِباهنا من عرقٍ، ونُكَفْكِفُ ما بأعيننا من دموعٍ. لقد كنَّا بحاجةٍ إلى وقتٍ نُثبِّت به قلوبنا، ونُطفئ به ظَمأها، ونسقي زرعَها، إلى أنْ بلَّغنا الله هذا الضيفَ الكريم، فاحتضنَّاه احتضانَ الأم لولدها؛ لنطرحَ فيه همومَنا وكدَّنا وكدحَنا عند أوَّل عَتَبةٍ من أعتابه؛ لنستجلِبَ من جنباتِه مادّةَ النماء، ونُعيدَ فيه ترتيبَ أوراقنا وقراءةَ ما بين السطور فيها بتمعُّنٍ وإفاقةٍ؛ لنفهَمَ كيف نُواصل السيرَ بأيسرِ الطرق وأرقاها إلى ما يُرضي خالقَنا ومولانا.
صعدَ رسول الله المنبرَ ذات مرةٍ فقال: ((آمين آمين آمين))، قيل: يا رسول الله، إنك حين صعدتَ المنبر قلت: آمين آمين آمين! قال: ((إنَّ جبريل أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفَر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين)) رواه ابن خزيمة وابن حبان.
شهرُ رمضان شهر الرحمة والبركة والغفران، شهرُ الروحانيّة والتدبّر والإنابة، شهرُ ضياء المساجدِ والتسبيح والذكر والمحامد، شهرُ عِظَمٍ وجمالٍ وبهاء وروعة، شهرٌ من ضيَّعهُ فهو لما سواه أَضيَعُ، شهرٌ تبرزُ فيه مظاهر الطاعةِ والتديّن ومحاسبةِ النفس والبحث عن التغيير من السيِّئ إلى الحسن ومن الفاضل إلى الأفضل، شهرٌ تسمو فيه الروح التي تكبَح جماحَ النفس عن نزواتها، وتَحُدُّ من هفواتها وشطحاتها القلبيّة والبطنيّة والفرجيّة والعقلية، وتكون أكثرَ استعدادًا لقَبول نفحاتِ خالقِها جلَّ وعلا، وهذا مصداق قوله صلوات الله وسلامه عليه: ((إذا دخَل شهر رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النيران، وصُفِّدت فيه الشياطين)) رواه البخاري ومسلم. قال ابن القيم رحمه الله: "لأنَّ في الصوم تضييقَ مجارِي الشيطان عن العبدِ بتضييقِ مجاري الطعام والشراب".
ومن هُنا -عباد الله- جاءت حاجة المرء المسلم إلى تصفيد الشياطين في هذا الشهر؛ لئلا يخلُصوا فيه إلى ما كانوا يخلُصون في غيره، ولِتكون الفرصة مواتيةً في أنْ يُربِّي المرء نفسَه، ويُقوِّيها لمغالبة الشيطان وإحكامِ المنَعة أمام حِيَلِهِ وألاعيبه. ولا جرم -عباد الله- فإنَّ الله جلَّ وعلا يقول: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا، فهو ضعيفٌ أمامَ الصادقِ، وهو ضعيفٌ أمامَ العادِل المؤمِن الوَجِل من ربّه ومولاه؛ لأنَّ هذا كلَّه كفيلٌ بتخفيف سَورَة الشيطانِ وإطفاء أَتُّون ناره في المكر وحَورِ الكَور، حتى يرى العبد بأمِّ عينه وبصيرةِ قلبه أنَّه إنما كان مُستَسمِنًا ذا ورم؛ ولذا يقول النبي : ((إنَّ المؤمن ليُنضِي شيطانَه كما ينضي أحدُكم بعيرَه في السفر)) رواه الإمام أحمد. والمعنى: أنَّه يأخذ بناصيةِ شيطانه ويقهَره كما يفعل بالبعير إذا شرَد ثم غلَبه.
وإنْ تعجبوا -عباد الله- فعجب قولُ النبي للفاروق رضي الله عنه: ((والذي نفسي بيده، ما لَقِيَك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجِّكَ)). والمعلوم -عباد الله- باتِّفاق الأمّة أنَّ عمر رضي الله عنه لم يكن نبيًّا مرسلًا، ولا ملكًا مُقرَّبًا، وإنما هو عَبدٌ من عِباد الله، قوِيَ إيمانه، وأقام العدل مع نفسه وأهله وقومه.
أيّها المسلمون، إنَّ منزلةَ شهرِ رَمَضان مع بقيَّة الشهور كمنزلة يوسف عليه السلام من إخوته الأحدَ عشر، وإنَّ يعقوب عليه السلام لم يرتدَّ إليه بصرُه بشيءٍ من ثيابهم، وارتدَّ بقميص يوسفَ بصيرًا. فهذا أوانُ المذنِب الذي مرَّت عَلَيه شهور السّنة مُسرِفًا مُضيِّعًا، وهذا أوانُ المجتمعات في المحاسَبَة والبَحثِ عن تَغيِير ما بهم من خواءٍ وضعفٍ وخلخلةٍ؛ لترتدَّ إليهم بَصيرتهم وروحانيتهم وصفاؤهم وإِخاؤهم وتلاحمُهم واتِّباعهم لشِرعةِ ربهم على الوجهِ الذي يُرضيه عنهم.
لعلَّ شمَّهم رائحةَ رمضان وجلوسَهم مع الذاكرين وركوعَهم مع الراكعين يكون سببًا في أنْ ترتدَّ إليهم قلوبهم الغافِلة، وتحيا نفوسُهم التائِهَة في معتَرَك الحضارات الجافَّة الجارِفَة، التي أبصرت ما فوقَ سَطحِ القمر وعَمِيت عمَّا بين أيديها، والتي أفرزت لنا أناسًا في هذا الشّهرِ شغَلوا أنفسهم عن واجِبِ رمضان وحُرمَته، حتى قَصَروا غايةَ بِرِّهِمْ به في جَعله مَوسمًا حوليًّا للتفنُّن في الموائِدِ الزاخرة، وفُرصةً سانحةً للَّهو والعبَث وشَغل الاهتمام بمستجدَّاتِ الأطروحات المرئية والألغاز الرتيبة التي لا يستفيدُ منها الذكي ولا يحتاج إليها البليد، وكذا الأفلامُ الهابطة التي تخدش الحياء وتبرز القحَة والتفلُّت عن الحشمة؛ فحطَّموا بذلك روحَ المغالبة والمراغَمَة مَع حِيَلِ الشيطان ومَكره في هذا الشهر المبارك، فيتلذَّذون بملذَّاتِ شهرٍ واحدٍ، ويندمون سنين طويلة، وما علموا أنَّه ما بين أحدنا وبين الجنة والنار إلا الموت أنْ ينزل بِه، وإنَّ غايةً تنقصُها هذه اللحظة وتُدنيها الساعة لجديرة بقِصَر المدة مهما طالت. فرَحِم الله امرأً قدَّم توبته وغالب شهوته وعظَّم هذا الشهر وراعَى حرمته؛ فإن أجلَه مستور عَنه، وأمله خادع له، والشيطانُ موكَّل به يُزيِّن له المعصية والتفريط؛ ليركبهما سادرًا لاهيًا، يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم. قد قلت ما قلت، إنْ صوابًا فمن الله، وإنْ خطأً فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله إنَّه كان غفَّارًا.
|