يقول الله سبحانه وتعالى: إن إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ [المطففين: 33].
هذه مشاهد ذكرها القرآن الكريم عن سخرية المجرمين بالذين آمنوا وسوء أدبهم معهم وتطاولهم عليهم. وهذه المشاهد ذكرها القرآن الكريم منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنه، ولكنها شاهدة متكررة في أجيال ومواطن شتى، وكثير من المعاصرين شهدوها كأنما هذه الآيات قد نزلت في وصفها وتصويرها؛ مما يدل على أن طبيعة الفجار المجرمين واحدة ومتشابهة في موقفها من أهل الدين في جميع البيئات والعصور.
قال تعالى: إن إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين: 29]، والمجرمون الآن يضحكون من المؤمنين ويستهزئون بهم ويسخرون منهم بدعوة أنهم إرهابيون ومتطرفون ومتشددون ومتنطعون، هكذا بإطلاق دون تفريق بين الإرهابي الحقيقي والمتمسك بدينه القابض عليه، إن إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين: 29، 30] أي: يشيرون إليهم بأعينهم وأيديهم استهزاء، وإذا كان الغمز قديما بالعين واليد فإنه أصبح اليوم بالأقلام والأفلام والمسلسلات وسائر وسائل التشهير التي امتلكها بعض من لا خلاق لهم ولا وازع من دين أو حياء. وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ [المطففين: 31] أي: بعدما أشبعوا نفوسهم الصغيرة الرديئة من السخرية بالمؤمنين وإيذائهم انقَلَبُواْ فَكِهِينَ أي: رجعوا إلى بيوتهم راضين عن أنفسهم مبتهجين بما فعلوا مستمتعين بهذا الضحك والاستهزاء؛ حتى إنهم لا يشعرون بحقارة صنعهم وقذارة فعلهم، وهذا منتهى ما تصل إليه النفس من إسفاف وموت للضمير. وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ أي: يرجعون إلى منازلهم مسرورين مغتبطين متلذذين بالسخرية وحكاية ما يعيبون به أهل الإيمان، وما هم فيه من الشهرة والمال والتنعم بالدنيا، وهذا من أعظم ما يكون من الاغترار؛ لأنهم جمعوا بين الإساءة والأمن في الدنيا حتى كأنهم قد جاءهم كتاب من الله وعهد أنهم على حق وأنهم من أهل السعادة وأن أهل الإيمان على باطل ومن أهل الشقاءّ افتراء على الله وتجرُّؤًا على القول عليه بلا علم. لذلك يرد عليهم الله سبحانه وتعالى بقوله: وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ أي: هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم أوصياء على هؤلاء الناس وينتقدونهم على استقامتهم وعلى تمسكهم بالدين من أعطاهم هذا الحق؟! ومن كلفهم بهذا الأمر؟! وبخاصة أنهم لا يملكون المؤهلات الإيمانية والأخلاقية التي تمكنهم من الحكم على الآخرين.
أيها الإخوة، ومن وسائل المجرمين في الضحك والاستهزاء بالمؤمنين في هذا العصر ما تبثه بعض القنوات الفضائية ووسائل الإعلام الهابطة من أفلام ومسلسلات تسخر بالإسلام والقائمين عليه من علماء ودعاة، من باب الفكاهة والضحك، ولعل أشهر مسلسل محلّي في هذا المجال هو مسلسل "طاش ما طاش"، والذي عندما بدأ قبل ستة عشر عاما كان يقدّم نقدا هادفا لبعض الجهات الحكومية، ومن بينها جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي البداية لم يكن بظن أحد أن يكون قصد هؤلاء هو الاستهزاء بالدين والنيل من الإسلام، بل كانوا يحسنون الظن بهم ويقولون: إن ما يحدث هو نقد هادف لبعض الممارسات من بعض المتدينين، ليس المقصود هو التعميم، إلا أنه ومن الملاحظ وبمرور السنوات تحوّل ذلك النقد وبشكل متصاعد إلى كل مَن له علاقة بالدين من علماء ودعاة وطلبة علم، وإلى كل ما له علاقة بتربية المجتمع على تعاليم الدين من مراكز تحفيظ القرآن ومراكز الدعوة والمراكز الثقافية والمراكز الصيفية وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع ادعائهم أن تصرفاتهم هذه لا يقصدون بها الإساءة إلى الدين، وإنما يقصدون بها معالجة القضايا الاجتماعية, قال تعالى: وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد: 5]؛ لأنه متى كانت الأفلام والمسلسلات محل إصلاح وتوجيه بخاصة إذا كانت من مثل هذه النوعية الرديئة؟!
لقد تحول هذا المسلسل إلى سلاح خفي في أيدي العلمانيين واللبراليين للهجوم على الدين وعلى كل ما يمثله بدعوى الحرب على الإرهاب والتطرف وليس الحرب على الدين نفسه كما يزعمون، فهل هذا صحيح؟! بالطبع هذا ليس صحيحا؛ لأنهم يقصدون الدين نفسه، وواقعهم يؤيد ذلك.
ولأنه بالمثال يتضح المقال فسنأتي ببعض الأمثلة التي تؤكد أنهم يستهدفون الأوامر الشرعية لا التطرف والإرهاب كما يزعمون:
ومن هذه الأمثلة حلقة التعليم والتي ترك مؤلفها الحديث عن تطوير المناهج العلمية والطبيعية واللغات وطرق التعليم، وجعل محور حديثه عن المناهج الدينية فقط. وهنا نرى الدكتور حسين -ولماذا حسين بالذات؟!- الذي يظهر بصورة المثقّف الواعي غير الملتحي طبعا، وهو ينتقد حكم وجوب تغطية المرأة لوجهها، وأن هناك من يقول بعدم وجوب تغطية المرأة وجهها، ولماذا لا يذكر هذا الرأي في المناهج الدينية؟ ونحن لا نعلم لماذا يصرون دائما على إقحام مسألة كشف المرأة لوجهها في مسلسلهم؟ وما الذي يستفيدونه عندما تكشف نساء مجتمعنا وجوههن؟! ثم ينقد نصا يحذر من استقدام السائقين والخدم غير المسلمين قائلا: هذا الكلام ضدّ تقبُّل الآخر، ومن الآخر الذي يقصده؟! إنه الكافر بالطبع.
سبحان الله! يريد أن نرد قول النبي : ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)) من أجل إرضاء حبيبهم الآخر الكافر الذي يتحرون إرضاءه ويتنازلون له حتى عن دينهم ومبادئهم، ويعاملونه بكل لطف وذلة، بينما يعاملون المسلمين بكل صفاقة ونكير واستهزاء وسخرية، ثم يستمرّ الدكتور حسين في انتقاده للمناهج الدينية بقوله تعليقا على قول النبي: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب)): لماذا تقولون هنا جزيرة العرب ولم تقولوا الوطن؟! أي: أنه ربما كان يريد من النبي أن يقول: أخرجوا المشركين من السعودية، بدلا من جزيرة العرب! ثم ينتقل إلى الحديث عن الوطن فيقول: أنتم تذكرون الأمة ولا تذكرون الوطن فأين الوطن؟! طبعا هذه محاولة ساذجة لإظهار فجوة وتصادم بين الدين والوطن، وكأن أهل الدين لا يعرفون الوطن والوطنية وينتظرون من أمثال هؤلاء الكذبة أن يعلمونهم معنى الوطنية.
أيها الإخوة، إن المتدين ليس عنده تصادم ولا تناقض ولا تعارض بين حبّه لدينه وأمته ووطنه، فهو كمسلم يحب دينه وأمته ووطنه وعشيرته أو قبيلته، ولا تعارض بين هذا ولا ذاك إلا في عقول وأدمغة المنافقين الذين يعيشون، مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 143].
مثال آخر: حلقة التدخين التي توفي فيها أحد المدخنين، فاتفق ابنه مع الطبيب المعالج لتبني حملة ضدّ شركة التبغ ومطالبتها بالتعويض المالي تجاه ضحايا التدخين من مرضى السرطان. ونرى مدير الشركة يحاول رشوة ابن الميت لصرف النظر عن الشكوى، فيرفض ذلك، فيتجه لزملائه الذين رفعوا الشكوى فنجدهم يوافقون على قبول الرشوة مقابل صرف النظر عن الدعوى، فيقوم مدير الشركة بإعطاء كل واحد منهما ظرفا فيه بعض المال ما عدا الرجل الملتحي منهم، فأعطاه مدير الشركة مجموعة أظرف إمعانا في التحيّز وإيحاءً للمشاهدين بأن الملتحين أكثر الناس ميولا للرشوة، والملاحظة العامة أن دور اللحية في هذا المسلسل يأتي سمة لأسوأ النماذج من الناس، ففي دور الطماع الجاهل لا بد من اللحية، ودور البخيل الشحيح لا بد من اللحية، ودور الساحر المشعوذ لا بد من اللحية، والهدف واضح هو إعطاء صورة نمطية للمجتمع من خلال الربط بين التخلف والسذاجة والغلظة وسوء الخلق وأهل اللحى وتربية اللحى.
ومن الأمثلة تشويه صورة المرأة السعودية من خلال المشاهد التي تصوّر داعية سعودية تذكر أخواتها في مجلس كبير بعذاب القبر، ثم تطلب منهن التجسّس على أزواجهن حتى لا يقعوا ضحايا للغزل، وفي نهاية الحلقة تظهر الداعية وكأنها إحدى ضحايا الغزل عندما تظهر بصحبة أحد أزواج المدعوات الذي يصطحبها لقضاء شهر العسل في رحلة خارجية بعد أن استطاع الإيقاع بها عبر الهاتف. إذا هذه هي المرأة السعودية المتدينة في هذا المسلسل فكيف ببقية النساء في المجتمع؟! ولقد حدث قبل سنوات وعلى ذمة رئيس صحيفة "النخبة" السعودية أن أحد ممثلي هذا المسلسل يقول في إحدى الحلقات: "السعودية في الخارج تشبك معها بغمزة". انظروا كيف يتحدثون عن نساء مجتمعنا المسلم المحافظ بالإفك والافتراء والكذب والبهتان، قاتلهم الله أنى يؤفكون، وصدق الله سبحانه القائل فيهم وفي أمثالهم: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ الدين هنا الجزاء والحساب، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور: 25].
مثال آخر: حلقة أخرى تتحدث عن عاملين هندوسيين ذهبا إلى المكتب التعاوني للدعوى والإرشاد وتوعية الجاليات، وقاما بإشهار إسلامهما هناك، فما كان من مدير المكتب إلا أن حوّلهما إلى المستشفى للختان، ثم ارتدا بسبب هذا الأمر، فخيروهما بين الختان أو القتل بحدّ الردة. فبالله عليكم، هل هذا هو النقد الهادف الذي يزعمونه من خلال أحداث قصة مختلقه ولا أساس لها من الصحة؟!
وقد تحدى رئيس مكتب الدعوة وتوعية الجاليات بالبطحاء نوح القرين، تحداهم أن يثبتوا صحة هذه القصة في أي مكتب من مكاتب الدعوة، فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا، ولكنه الكذب والدجل والتزوير: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف: 18].
أيها الإخوة، إن هذا المجتمع قد تعرض لحملات من التشويه والتسفيه لا حدود لها، ومن الكذب أن يدعي أحد عصمة هذا المجتمع، فالسعوديون بشر من البشر، وليس لهم خصوصية تميزهم في هذا الشأن، ولقد جزم بذلك وأكده أحد كبار قادة هذا المجتمع إذ قال: "إن خصوصيتنا الوحيدة العزيزة هي وجود الحرمين الشريفين على أرضنا، أما نحن فبشر نصيب ونخطئ، ونحسن ونسيء، ونغلو ونعتدل".
نعم، لا عصمة للمجتمع السعودي، بل فيه من الأخطاء ما يجب نقده، لكن الذي نلحظه أن حملات التشويه والتسفيه والتقبيح تجاوزت كل حدود النقد المشروع في هذا المسلسل، وهناك حرب واضحة المعالم مكشوفة الغطاء على الدين والمتدينين، لكن الأمر كما يقول الدكتور الأستاذ صنهان العتيبي، يقول عن هؤلاء: إن كيدهم مردود إلى نحورهم بعون الله تعالى، ولكن الأسئلة التي تقلقني وتقلق كل أب غيور نقول: لماذا يتم شن الحرب حيًا على الهواء وأمام أطفالنا الصغار؟! لماذا يبث الجدل الفلسفي حول القيم والدين والصحّ والخطأ في وقت الذروة الفضائية وأمام أطفالنا الصغار؟! لماذا يتم التشكيك في الأحاديث النبوية والسيرة المحمدية في بيوتنا وأمام أطفالنا الصغار؟! ولماذا يتم تشويه المتدينين والدعاة أمام أطفالنا الصغار؟! لماذا يوظّف الإعلام المحسوب على السعودي لتشويه وطعن الخطاب الديني السعودي الذي نجده أمامنا في المناهج والبرامج واتفقنا عليه كلنا منذ 300 سنة أو يزيد وندرسه أطفالنا الصغار؟! لا جواب لدي، ولكن أسأل أن يُرأف بحال أطفالنا الصغار.
لذلك أيها الإخوة نقول: يجب أن تعود للدين حرمته، ولأهل الدين كرامتهم، وللشعب إيمانه وعقيدته، ويجب أن تطهر وسائل الإعلام والتوجيه من كل ما يحقر الدين في نفوس الناس أو يشوه قيمه وتعاليمه ودعاته أمام الناظرين والسامعين، ونحن لا يهمّنا الأشخاص فإنهم زائلون، ولكن يهمّنا أولا وقبل كل شيء احترام الدين وتوقير أهله؛ لأن تشويه مبادئ الإسلام وتشويه سمعة علمائه ودعاته وأهله أمر سيعود بالوبال على المجتمع بأكمله في الدنيا والآخرة.
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب: 58]
أقول ما تسمعون...
|