أما بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ فإن التقوى خير زاد ليوم الحساب، وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ.
عباد الله، ثمة مشهد لا بد من التأمل فيه والوقوف معه طويلا، إنه ليس مشهدًا طريفًا أو موقفًا عابرا، بل هو مشهد محزن وموقف أليم، يصيب المسلم بالخوف حين يتذكره، ويتألم كلما تكررت رؤيته، جوهر هذا المشهد هو المقارنة بين الساعة الخامسة والساعة السابعة صباحًا في حياة المسلمين، نقارن بين هاتين الفترتين اللتين لا يفصل بينهما إلا ما يقارب مائة دقيقة فقط.
ففي الساعة الخامسة صباحًا تجد طائفةً موفّقةً من الناس توضأت واستقبلت بيوت الله تتهادى بسكينة ووقار، يعلو وجوههم البشر، وترى في محياهم السعادة، يمضون لأداء صلاة الفجر جماعة في المساجد، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمُهُ، بينما أمم من المسلمين أضعاف هؤلاء لا يزالون في فرشهم نائمين، بل وبعض البيوت تجد الأم والأب يصلون ويدعون فتيان المنزل وفتياته في سباتهم.
أما المشهد الثاني -عباد الله- فهو في الساعة السابعة، فما إن تأتي تلكم الساعة والتي يكون وقت صلاة الفجر قد خرج وبدأ وقت الدراسة والدوام إلا وتزدحم الشوارع بالسيارات في حركة موارة، وطرقات تتدافع، ومتاجر يرتطم الناس فيها داخلين خارجين، يستدركون حاجيات فاتتهم من البارحة.
وكثير من الآباء والأمهات يتمنون أن أولادهم يصلون الفجر في وقتها، نعم إنهم يتمنون فقط، فلو لم يؤدها أبناؤهم فإنه لن يتغير شيء، غير أنه لو تأخر الابن دقائق فقط عن موعد الذهاب لمدرسته فإن شوطًا من التوتر والانفعال يصيب رأس والديه، وربما وجدت أنفاسهم الثائرة وهم واقفون على فراشه يصرخون فيه بكل ما أوتوا من الألفاظ المؤثرة لينهض لمدرسته. ولا يعني هذا أن الاهتمام بالمدرسة أمر معيب أو مستنكر، ولكن السؤال: هل يمكن أن يكون الدوام والشهادات أعظم في قلب الإنسان من الصلاة؟!
وتأملوا -عباد الله- في أن حديثنا ليس عن الصلاة جماعة في المسجد، بل نتكلم عن مسألة لا خلاف فيها عند أمة محمدٍ طوال خمسة عشر قرنًا، فإنه لا يوجد عالم واحد من علماء المسلمين يجيز إخراج الصلاة عن وقتها، بل كل علماء المسلمين يعدون إخراج الصلاة عن وقتها من أعظم الكبائر.
بالله عليكم أعيدوا التأمل في حال ذينك الوالدين اللذين يلقيان كلمة عابرة على ولدهم وقت صلاة الفجر: "فلان قم للصلاة هداك الله"، ويمضون لحال شأنهم، لكن حين يأتي وقت المدرسة والدوام تتحول تلك العبارات الهادئة إلى غضب مزمجر وقلق منفعل لو حصل وتأخر عن مدرسته ودوامه، فهل صارت المدرسة التي هي طريق الشهادة أعظم في قلوبنا من عمود الإسلام؟! هل صار وقت الدوام أعظم في نفوسنا من ركن يترتب عليه الخروج من الإسلام؟!
إن هذه المقارنة الأليمة بين الساعة الخامسة والساعة السابعة صباحًا هي أكثر صورة محرجة تكشف لنا كيف صارت الدنيا في نفوسنا أعظم من ديننا.
عباد الله، وانظروا إلى ما هو أعجب من ذلك: فكثير من الناس ممن يخرج صلاة الفجر عن وقتها إذا تأخر في دوامه ولو لدقائق بما يؤثر على وضعه المادي أو يغضب عليه رئيسه في العمل يحصل له من الحسرة في قلبه ما يفوق ما يجده من تأنيب الضمير إذا أخرج الصلاة عن وقتها.
أيها المسلمون، إن المتأمل في كارثة الساعة الخامسة والسابعة صباحًا يحس بشغفنا بالدنيا وانهماكنا بها بما يفوق حرصنا على الله ورسوله والدار الآخرة، ويشعر وكأن تاليًا يتلو عليه من بعيد قوله تعالى في سورة التوبة: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ. فماذا بقي من شأن الدنيا لم تشمله هذه الآية العظيمة؟! هل بلغنا هذه الحال التي تصفها هذه الآية؟! ألم تصبح الأموال التي نقترفها والتجارة التي نخشى كسادها أعظم في نفوسنا من الله ورسوله والدار الآخرة؟! كيف لم يعد يشوقنا وعد ربنا لنا في سورة النحل إذ يقول: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ووعده عز وجل في قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ؟!
فيا عبد الله، حين تتذكر هدوء الساعة الخامسة صباحًا في مقابل هدير السابعة صباحًا، فأخبرني بالله عليك هل تستطيع أن تمنع ذهنك من أن يتذكر قوله تعالى في سورة الأعلى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. إن المقارنة بين مشهدي الساعة الخامسة والسابعة صباحًا هي أهم مفتاح لمن يريد أن يعرف منزلة الدنيا في قلوبنا مقارنة بدين الله.
أيها الإخوة، إننا لا نتحدث عن إسبال ولا لحية ولا غناء، برغم أنها مسائل مهمة جدا، لكننا نتحدث عن رأس شعائر الإسلام، إنها الصلاة التي قبضت روح رسول الله وهو يوصي بها أمته ويكرر: ((الصلاة الصلاة))، وكان ذلك آخر كلام رسول الله .
إخوة الإسلام، إن من أراد أن يعرف منزلة الدنيا في القلوب مقارنة بدين الله فليس عليه أن يقرأ النظريات والكتابات والأطروحات، بل عليه فقط أن يقارن بين الساعتين الخامسة والسابعة، وسيفهم كيف صارت الدنيا أعظم في نفوسنا من الله جل جلاله.
وتأملوا قول الله تعالى ومن أصدق من الله حديثا: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|